الأحد ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم عمر يوسف سليمان

الأدبُ المحلِّي هو الأرقى عالمياً

(بدع الشيء أنشأهُ وأحدثه. والبدعُ والبديعُ: الشيءُ الذي يكونُ أولاً. والبدعةُ ما ابتُدِعَ في الدين.) [1]

فالإبداعُ إذاً مصدر (بدعَ) وهو الإتيانُ بالشيء الحديثِ الذي لم يكن له مماثلٌ أو شبيهٌ من قبل.

وهذا الشرط الأساسيُّ في الإبداع-والذي هو كنه الإبداع- يمثِّلُ السر في ذلك السحرِ الذي يجذب السامع إلى هذا (الإبداع)، فهو جديد، والجديد يهيج في النفسِ تشوقاً لمعرفته وتذوقه واستكشافه...وإذا خلى الإبداع من هذا الجديد تفرغَ من طاقتهِ التعبيرية وفقد كنهه وجاذبيته.

فإذا كان هناك ثمة مشابه أو مماثل لهذا الإبداع فلا يُسمى إبداعاً، ولكي يكون الإبداعُ مليئاً بهذا السر الرائع(الجديد)فلا بد أن يخرجَ من ذات المبدع، ويقدمَ شيئاً خاصاً وشخصياً ينبلج من أعماقه، بعد أن يمتزجَ بثقافته ومعاناتهِ ووعيه ومعرفته بالحياة، لكي يكون صافي الحداثة والجدة...

ولأن ذاتية المبدعِ أصلاً تنبثقُ من بيئته وواقعهِ الخاص، ومن طفولته التي عاشها في تلك البيئة، والتي صبغت ذاته بلونها وأعطتها ذلك اللونَ الفريد الذي يختلف عن غيرها، وألقت بإسقاطاته الكبيرةِ على شخصيته وانتمائه وفكره، فلا بد أن يكون الإبداعُ ابناً لهذه البيئة، كنتيجةٍ طبيعيةٍ، ورديفٍ لكونهِ جديداً، وجديد يعني ذاتياً وذاتياً أي ابن البيئة التي أنتجت هذه (الذاتية)...

فإذا قدمنا نصاً أدبياً لقارئٍ من خارجِ بيئةِ ِالمبدع، فإنه يستشف منه ملامحَ هذه البيئة، ويتعرف عليها....ويحس بها، ومن هنا يتضحُ الجديد الذي يصنعه المبدع.

فنحن نحب الأدب الفرنسي، ونولعُ بالرواياتِ أو القصائد الأميركية، أو الانكليزية، بطابعها الجميل، والذي يضيف لنا أشياء لا نعرفها من عادات الشعوب وثقافتها، وهذه الروايات التي نُعجب بها انطلقت من أصالةِ وحضارة وثقافة وبيئةِ تلك الشعوب بالدرجة الأولى، وهذا سبب انتشارها، أنها كانت محليةً بامتياز، ولم يحاول كُتابها الخروجَ عن ثقافتهم وأصالتهم.

هناكُ سحر غامض يشد معظم المهتمين بالأدب والقراءة في العالمِ العربي نحو الأدب الغربي أو غير العربي بشكلٍ عام، وذلك بسبب نظرةٍ عمت عند هؤلاءِ حول الهبوط الذي يعاني منه الشعر العربي في وقتنا الحاضر-والشعر ينسحبُ على أكثر فنون الإبداع باعتباره ديوان العرب (كما تقول الأسطورة...)-، مما يجعلهم يتعطشون إلى شيءٍ مغاير، إذ لا مجال لقراء الأدب القديم بسبب ضيقِ الثقافة والسرعة التي تسود عصرنا، وقد يكون الأمر مندرجاً تحت إطار الإعجاب العام الذي يسوق هؤلاء إلى كل ماهو أجنبيٍ مترجم...

وتِبعاً لهذه النظرة، وهذا الانسياق، انساق بعض المبدعين أيضاً لتلبية طلب جمهورهم، فخرجوا عن ثقافتهم الخاصة وعن بيئتهم وعن لغتهم، وحاولوا بناء أعمالٍ إبداعيةٍ خارجةٍ عن ذواتهم، فتولد كنتيجةٍ لذلك إبداعٌ مشوه، ناقص الأركان، لأن اللغة والثقافة الخاصة هي الأساس الذي يُبني عليه أي إبداعٍ مهما حاكى المشاعر الإنسانية العامة وكسر طوق الالتزامِ بالقضايا الوطنية أو القومية.

ولنا من المبدعينَ العرب الذين انتقلوا إلى العالمية مثالٌ في ذلك فنسأل: كيف انتقلوا؟

مثلاً:نجيب محفوظ، لم ينتقل إلى العالمية لأنه حدد مكان رواياته في موسكو أو الصين، بل كانت معظمها في بيئة مصرية مرتبطة بشكل مباشر ببيئة هذا الأديب وواقعه، بل إن الكثير منها أخذ سمة البيئة المصرية الخاصة، وغلب عليه الطابع الشعبي (أولاد حارتنا)، (صباح الورد)وغيرها...، باستثناء رواياته التاريخية التي استُمدت من البيئة المصرية أيضاً، ومن التاريخ المصري الخالد، مثل (كفاح طيبة).

وكذلك الأمر عند السياب، فمن كان سيعرف (بويب) الذي أصبح مشهوراً في أنحاء كثيرة من المعمورة لولا قصيدته الخالدة عنه؟.

أما أغاني فيروز (سيدة الصباحات) فهي تحاكي بيئةً خاصةً بعفويةٍ وصدقٍ وشفافية، البيئة اللبنانية بما فيها من بساتينِ الكرم واللوز، والأحاديثِ الشعبيةِ المُتداولة، ومواعيدِ الغرام، وحكايات العشقِ واللوعة، التي تصلُ إلى حدِّ المراهقةِ أحياناً...

وبالرغم من ذلك فقد عُرفَ أن العرب لم يتفقوا سوى على شيءٍ واحدٍ فقط وهو (جمال أغاني فيروز)...

أي أنَّ الأمة العربية لم تتفق على أمرٍ... سوى جمالِ صوتِ فيروز...

وهكذا نجد أن الأدب كلما نبع من بيئةٍ محلية، وارتبط بالأصالة التي هي مادة الكاتب الأولى، انطلقَ إلى العالمية، وانتشر بشكلٍ أكثر اتساعاً، وأشد جمالاً وعذوبة.

فلا يجبُ إذاً أن ننظر إلى إبداعِنا هذه النظرة التشاؤمية، ولا بد أن ننطلقَ من جذورنا حتى نصل إلى عنان السماء.


[1"1"لسان العرب، مادَّة (بدع).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى