الجمعة ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٥
بقلم نعمات أحمد فؤاد

الأستاذ الدكتور أحمد شوقي ضيف رحمه الله


بداية كان أستاذي بكلية الآداب بالجامعة الأم جامعة القاهرة‏.‏
أرخ لحياته في سلسلة‏(‏ اقرأ‏)‏ تأريخا استهله استهلالا حميما وجميلا‏..‏

(‏في قرية بجوار دمياط كان يربض مستنقع واسع يشغل أكثر من مائتي فدان‏,‏ مليء بالاسماك ونبات البردي وأزهار النيلوفر‏(‏ اللوتس‏)‏ قائمة علي سيقانها ليل نهار كأنما تنتظر موعدا مضروبا‏..‏ مطلة برءوسها واعناقها فوق مياه غارقة فيها‏,‏ كأنها دموعها ويسميها أهل القرية والريف المصري باسم البشنين‏..‏ اوراقها تتضام ليلا في شكل كأس زمردي وتتفتح الأوراق في الصباح مع نسمات السحر بأندائه المتلألئة شعل ملتهبة متعددة الألوان بين الأزوردي وارجواني وكهرماني‏..‏ وعند السيقان تستلقي أوراق عريضة مستديرة تتوسد المياه حول قامات البشنين الهيفاء‏,‏ كأنما تدعوها لتكتب عليها بمداد من حولها ـ لا ينفد ـ ما تشاء‏)‏
أقول‏,‏ كأن هذه المقدمة نبوءة تحققت‏,‏ فقد كتب أستاذنا شوقي ضيف كثيرا وغزيرا‏.‏

وبعد الاستهلال وقف وقفة شاعرة عند بحيرة المنزلة وكأنه استهلال جديد‏(‏ كأن سماء من البللور الناصع تمتد علي سطحها المشرق الهاديء الساطع والمراكب الشراعية تتهادي فيها مقبلة مدبرة متمايلة مع الريح تمايل الأغصان بأشرعتها البيضاء المتفاوتة الأحجام‏,‏كأنما هي طيور سابحة بجناح واحد فريد وتقترب فتحا لها حسنات منشورة علي خدود البحيرة اللامعة البراقة‏)‏
أعطي الدكتور شوقي ضيف في تواضع جم سمة العلماء‏.‏ حصل علي ليسانس الآداب من كلية الآداب جامعة القاهرة سنة‏1935‏ وكان ترتيبه الأول علي القسم‏.‏

ثم حصل علي الماجستير سنة‏1939.‏ وفي سنة‏1943‏ حصل علي الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولي‏.‏
وتدرج في سلك التدريس بها حتي أصبح أستاذا لكرسي الأدب العربي ورئيسا لقسم اللغة العربية‏..‏ وقد عمل أستاذا بجامعة الكويت لمدة غير قصيرة‏,‏ ودعته جامعات أخري في مختلف البلاد العربية ليكون أستاذا زائرا‏,‏ بها‏.‏ انتخب عضوا بالمجمع سنة‏1976‏ في المكان الذي خلا بوفاة المرحوم الأستاذ الشيخ عطية الصوالحي‏.‏

أعطي من عمره كثيرا للتأليف الأدبي‏.‏
وتسجل الدوريات العربية‏,‏ له‏,‏ جهودا كبيرة أثرت الثقافة العربية بالاضافة الي مؤلفاته التي تعدت الثلاثين كتابا ما بين تحقيق وتأليف في الدراسات الأدبية‏.‏ كان خصب العطاء في صمت أعلي صوتا من الكلام‏..‏ كان كاتبا‏..‏ وكان أستاذا‏..‏ وكان دمثا‏..‏ وكان كبيرا‏.‏

أعطي كثيرا في تواضع جم سمة العلماء‏.‏
كان خفيض الصوت ولكنه قوي الأثر بأعماله الأدبية واللغوية‏,‏ فبلغ بالدماثة ما لا تبلغه أصوات جهيرة تتكثر ولا تقول

جاء في مجلة المجمع‏(‏ ج‏147/37):‏
‏(‏إنهم لكثيرون هؤلاء الذين يقدرون الدكتور شوقي ضيف حق قدره‏,‏ ولكن قلة ضئيلة تعرف اسمه معرفة قد تطغي علي معرفة حقيقته العلمية ذات الأثر العميق في جيلنا الحاضر وبالتالي في الأجيال المستقبلة‏)‏ مجلة المجمع ج‏147/37]‏


لقد رزق الدكتور شوقي ضيف علم العلماء وتواضع العظماء‏,‏ في كياسة تنم عن جذور عميقة في المعرفة والخلق‏..‏ وكلماته أقرب الي الهمس ولكنها أقوي من أعلي جرس وهو معطاء سريع التلبية للأوضاع‏,‏ بكثير من واجبات المجتمع‏.‏
كتاب‏(‏ المجمعيون في خمسين عاما‏)‏ للدكتور مهدي علام‏.‏


وللدكتور شوقي ضيف أبحاث في‏:‏
 ‏ الفصحي المعاصرة مجلة المجمع جـ‏19/41‏
 ‏ تيسير النحو ـ مجلة المجمع‏109/47‏
 ‏ لغة المسرح بين الفصحي والعامية ـ مجلة المجمع‏51/45‏
 ‏ توحيد المصطلح العلمي في التعريب ـ المجمع‏93/45‏


كان صوته دمثا هاديء النبرة‏,‏ ولكنه قوي الأثر بأعماقه الأدبية واللغوية‏,‏ فبلغ بالدماثة ما لا تبلغه أصوات كثيرة جهيرة تتكثر ولا تقول‏..‏
إنه وهو الأستاذ الجامعي‏,‏ أي أعلي مراتب الأستاذية‏,‏ يعلل سلوك الأبناء اليوم بأنه فيه غير قليل من التخفف أقول‏:‏ لا تعليق إلا أنه تعبير فيه غير قليل من الطيبة‏.‏


أما القرية فقد عاد الي وصفها وصفا حيا‏,‏ لأنه عاشه علي الطبيعة وصف طفولته فيها بعد عشرات من السنين وصفا حيا نابضا‏,‏ مما يدل علي اكتنازه معالمها كأنه يراها اليوم‏.‏
كانت المزرعة علي قيد خطوات من دار الطفل‏,‏ فبمجرد أن تجاوز الربيع السادس من حياته‏,‏ حتي أخذ يتردد علي المزرعة مسرحا الطرف في زروعها وثمارها وكان من أروع ما يعجبه فيها النخل بقامته السامقة المهيبة‏,‏ والسعف الأخضر الممتد في الفضاء في جلال وأبهة وكبرياء‏.‏
وقف طويلا أمام قريته وخاصة في المسجد‏.‏

كان يجتمع الرجال في المسجد للصلاة لا فرق بين موسر ومعسر‏..‏ كذلك كان يجتمع أبناؤهم في المدرسة الأولية للتعليم دون أي فارق في الانتفاع به‏,‏ بحيث اذا أظهر أحد أبناء الأجراء والصيادين في القرية استعدادا واضحا للنبوغ والتفوق في اكمال التعليم‏,‏ لم تسد أمامه الأبواب بل تفتح علي مصاريعها اعتزازا من القرية بابنها المتفوق النابغ‏..‏ ومن الطريف قوله‏:‏ كانت المدرسة الأولية في القرية مدرسة مختلطة‏,‏ يختلط فيها البنون والبنات اختلاطا طبيعيا‏,‏ وكأن المدارس الريفية هي التي استجابت مبكرا لفكرة الاختلاط في التعليم‏,‏فكان الاناث والذكور يتنافسون فيما بينهم وكأن التنافس في حقيقته سنة من سنن الإنسان‏.‏
ويسجل للقرية وأصالة المصري تأثيرها فيه‏(‏ أثرت زروعها ومشاهدها الطبيعية في حسه فنشأ يرنو الي الجمال الطبيعي ويحب الريف ومناظره حبا يملك عليه ذات نفسه‏.‏

أرخ لحياته في كتاب من سلسلة اقرأ‏(466)‏ استهله استهلالا حميما وجميلا‏[‏ في قرية بجوار دمياط كان يربض مستنقع يشغل أكثر من مائتي فدان مليء بالاسماك ونبات البردي‏,‏ وازهار اللوتس قائمة علي سيقانها ليل نهار كأنما تنتظر موعدا مضروبا‏,‏ مطلة برأسها واعناقها فوق مياه غارقة فيها كأنها دموعها ويسميها أهل القرية والريف المصري باسم البشنين واوراقها تتضام ليلا للنوم في شكل كأس زمردي وتتفتح الأوراق في الصباح بين لازوردي وارجواني وكهرماني‏,‏ وعند السيقان تستلقي بأوراق عريضة مستديرة تتوسد المياه حول قامات البشنين الهيفاء‏...]‏
ووصف أمه وصفا حميما ومن هذا قوله‏:‏

[‏كان قلبها ينطوي علي رحمة بالغة للضعيفات والضعفاء من حولها‏,‏ رحمة ترافقها ارادة حازمة صلبة‏..‏ وشيئا من ارادتها المصممة ورثه الطفل فيما ورثه منها من الشيم والأخلاق‏]‏
هذه الصورة الحميمة والكريمة التي صور بها أمه وهو الأستاذ الجامعي في أعلي مراكز الأستاذية نفتقده في الجيل الحاضر‏,‏ الذي يصفه الدكتور شوقي ضيف بأن فيه غير قليل من التخفف من العادات الريفية الطيبة‏.‏

كما وصف القرية وصفا حيا‏,‏ فقد عاش طفولته علي الطبيعة‏(‏ وكان من أروع ما يعجبه فيها النخل بقامته المهيبة وأجنحته العالية من السعف الأخضر الممتدة دائما في الفضاء امتدادا كله جلال ووقار وأبهة وكبرياء‏.‏
وما أقر به القلب الإنساني خاصة طلبته وطالباته اولئك الذين تلقوا علي يديه دروسا مضيئة في الأدب وفنونه بكلية الآداب جامعة القاهرة‏,‏ وأنا منهم‏,‏ حين يصف مسكنه وهو طالب في حي الحنفي وكيف شعر بالغبطة في باديء الأمر لأنه كان يعرف ان أمير الشعراء الشاعر المبدع سكنه في مطلع حياته وكان يعجب به ولكن نسمعه معا في حنان حين يقول أقصد يقارن قائلا‏:[‏ شتان بين شوقي ومسكن الفتي‏..‏ شتان بين قصر وخدمه وحشمه وكوخ أو قل حجرة متواضعة كانت منامة للفتي ومطعما ومكتبا‏.‏

ثم انتقل الي المقارنة الطريفة الفصلية في التعليم الجامعي الأمريكي والأوروبي‏,‏ كيف قبست الطريقتان من الطريقة الازهرية بل كانت طريقتنا في الازهر تفوقها‏,‏ فقد كانت طريقة الازهر اوسع حرية وكان حريا بمن أسسوا التعليم الجامعي في مصر أن يفيدوا منها‏.‏ علي أن المحاضرات الأزهرية غير النظامية كانت لها آثار بعيدة لا في الازهر بين علمائه فحسب‏,‏ بل أيضا في الفكر المصري الحديث والإشارة هنا الي محاضرات الشيخ محمد عبده‏,‏ التي كانت مدرسة اتسعت آفاقها فشملت العالم الاسلامي جميعه‏.‏ لقد نظمت كلية الحقوق بجامعة القاهرة محاضرات علي نهج المحاضرات الازهرية غير النظامية لبعض الشخصيات القانونية‏..‏ محاضرات لا يمتحن فيها الطلبة ولكنها تعود عليهم بفائدة عظيمة‏

عن الأهرام المصرية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى