الجمعة ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم شاكر فريد حسن

الأغنية التراثية وقصة «عنات» و«ظريف الطول»

الأغنية الشعبية هي لبنة التراث والفرع الأساس في عالم الفولكلور، إنها مرآة ساطعة تعكس حياة الناس في السراء والضراء، كما تعكس أوجه واقعهم المختلفة وتصور آلامهم وآمالهم وأحلامهم بغد مشرق وجميل، وقرب هذه الأغنية من الذائقة العامة، سواء بلغتها العامية المحكية أو تنغيمها، أكسبها شعبية وأصالة وفرادة.

والواقع أن تراثنا الشعبي الفلسطيني زاخر بثروته الغنائية منها أغاني العمل والعمال والصيادين، وأغاني الترحال والغربة، وأغاني البحر والاستسقاء في سنوات الجفاف، وأغاني طهور الأطفال. زد على ذلك أناشيد المناسبات الدينية كعيد المولد النبوي الشريف، ورمضان، ووداع واستقبال الحجاج، وأغاني الندب «البكائيات». هذا بالاضافة الى تناويح النساء في المراسيم الوداعية للمتوفى، وأغاني الأعراس والأفراح (الخطبة، الحناء، حمام العريس، الزفة، الزغاريد، وتراويد النساء)، وكذلك الأغاني الرعوية التي كانت مقتصرة على النساء ومن ثم تجرأ الرجال الرعاة على غنائها فسميت بالرعوية.

وقد ترددت هذه الأغاني بين الناس قبل أكثر من أربعة آلاف عام عندما سكنت القبائل أرض كنعان، واتخذت طابعاً سياسياً وأبعاداً وطنية ومضامين وجدانية وغزلية، وكغيرها من الأغاني والأزجال والأهازيج الشعبية تناولت الأوضاع الاجتماعية والواقع المعاش بكل صدق وشفافية وأجمل تعبير، ومن أشهر الأغاني التراثية: «جفرا» و«شفت الزين»« ويا غزيل» «والدلعونة» و «ظريف الطول» و«باب البوابة ببابي»ن وغير ذلك.

وهناك علاقة وثيقة تجمع بين«االدلعونة» و«ظريف الطول»، ف«الدلعونة» هو اسم يطلق على كل فتاة حسناء وجميلة، وأحياناً يطلق «جفرا»، لكن الدلعونة هو الاسم الأكثر شيوعاً وذيوعاً في الأغنية الشعبية الفلسطينية. والدلعونة هي «عناة» أو«عنات» آلهة الحرب والحب والجمال عند الكنعانيين، وتظهر في النقوش الكنعانية، وخاصة اللوحات الطينية وعلى رأسها تاج وشعرها مسترسل على جانبي صدرها. وعندما جاء الاسلام انتهت عبادتها وانتهت كآلهة، لكن وظيفتها الجمالية المتجسدة في الحب والجمال بقيت من خلال كل فتاة ساحرة وجذّابة، وتم تحويل اسم «عنات» الى «دلعونة» وقصة ذلك تعود الى أن «عنات» شغفها حباً شاباً يدعى « ظريف الطول» واسمه «عليان بعل الكنعاني»، وتشاء الأقدار أن تفرّق بينهما الأيام، حيث تزوجت عنات من شاب آخر ورحلت معه الى بلاد بعيدة فراح «ظريف الطول» يؤلف ويغني ويصدح بالأشعار الغزلية التي تعبّر عن مدى حبه وعشقه وشوقه لعنات.. ومما جادت به قريحته قوله:

أنا لعن عنات الصابرينا
ويحكمك يا الهي صابري

وكيف لا يتعذب قلب العاشق وقد أسقمته حبيبته من يوم ما عرفها وأحبها وجمرت قلبه، فأصبح يسوح كالمجنون في البرية، في الحقول والجبال باحثاً عنها ويسأل القوم عن مكانها ويقول لهم «دلوني على عنات»، فأدغمت مع بعضها البعض وتحولت الى«دلعونة». وتمر الأيام وتأتي «عنات» لزيارة أهلها وعشيرتها وحين علمت برحيل عاشقها عن القرية أخذت تنشد وتغني.. فقالت:

يا ظريف الطول وقف تقولك
رايح ع الغربة بلدك أحسن لك
خايف يا المحبوب تروح وتتملك
وتعاشر غيري وتنساني أنا

لذلك نجد أن الحب والغزل والشوق والحنين والحرمان من الوصال والعتاب، هي مضامين وموتيفات سائدة في الأغنية التراثية الفلسطينية وتطغى على أغاني « الدلعونة» و« ظريف الطول» في حين أن البعض من هذه الأغاني تفيض بالمعاني والأبعاد الوطنية، ومثال على ذلك:

يما ويا يما اعطيني رشاشي
طلبتني الثورة والصبح ماشي
عفت الوظيفة وعفت المعاشي
تحرير الوطن أغلى ما يكونا

فهل ثمة أجمل وأرق وأحلى من هذا الكلام المغنّى؟!

أخيراً، ووسط هذا الضجيج السائد والدبكات الصارخة والرقصات الخلاعية والموسيقى المختلسة، وفي غمار الهيصة والـتأوهات لفنانات التعري والتحرش الجنسي، ما أحوجنا للأغنية التراثية التي تنعش الروح وتداعب المشاعر وتدغدغ خلجات القلب والوجدان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى