الأحد ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم السيد نجم

الأماكن لها رائحة

تستطيع أن تدعى أنك من أصحاب الأنوف الحساسة، ولا أعنى أنك مريض ذا علة سقيم، لأنك لا تشارك العامة متعة الروائح العطرة كلها. على العكس تماما، أعنى أنك ممن يفتخرون بقدرة أنفك على التقاط الروائح كلها.

حتما لن تصل إلى قامة الحاج "نواف العجرودى"، انه يستطيع التقاط خليط الروائح كلها، ويميز الطيب منها والخبيث.

الغريب الطريف، أنه لم يكن كذلك، فبالخبرة والتدريب نال مكانة رفيعة في كبرى شركات السجائر بالإسكندرية، أصبح "الخرمنجى" الأول بها. يستطيع أن يميز خليط التبغ أمامه، إن كان من أوراق وعروق وحتى لحاء الشجرة، بل وان كان خليطا من أوراق من أعلى شجرة التبغ أو من أسفلها. فنال مكانة متميزة بين أقرانه، ووفرة من المال اشترى بها أرضا يزرعها الآن بطاطس للتصدير.

ليس هذا هو الهام في الأمر، أهم منه أن تعرف كيف أصبحت أنفه هي مرشدته وبصلة حياته؟ حتى أنه بات بأنفه يقيم الناس من حوله، والأحداث التي كثيرا ما يرددها البعض همسا، أو حتى التي يقرأها في الصحف، ويرددونها في نشرات الأخبار الإذاعية وعلى شاشة التليفزيون.

أصبح "العجرودى" ظاهرة، يشار إليها بالبنان، لأنه يقسم، وهو لا يحنث في يمينه أبدا، أن الأماكن أيضا لها رائحة ومذاق! هذا المكان له رائحة زفرة وطعم نتن، وذاك له رائحة طيبة وطعمه حلو! ولا تدرى سر تحقق ما يتنبأ به.. هل لسطوة وهيمنة شخصية "نواف"، أم بسبب ضعف غالبية أهل قريته في حواسهم!

فقد شيد منزله الكبير، أكبر دور القرية، دليلا عمليا على موهبته وقدرته تلك. اختبر موقع قدميه هنا وهناك حتى شيد الدار، هاهنا في تلك القرية التي تقع بين الإسكندرية وكفر الدوار.
ليس دليل نجاحه أن شيده، الدليل الجلى أن امتلأت الدار ليل ممن يلتمسون الروائح الطيبة، وراحة البال.. إن ليلا أو نهارا.. صيفا أم شتاء. مما دعا الرجل لأن يفتح مضيفة خاصة، بابها الخارجي مفتوحا دوما، وبابها الداخلي يطل على باحة الدار، مصكوكا، إلا أنه يفتح لدخول الطعام المناسب والشاي الثقيل المزاج، لهذا القادم المقيم فوق أكلمة من مصنع دمنهور كسا بها أرضية الغرفة. بتلك الحيلة، يدخل من يدخل، ويخرج من يخرج، والبقاء في المضيفة حيث يشاء، دون أن يجرح أهل الدار.

مثلما نجح الحاج في تشييد داره، نجح أيضا في إقناع أولاده الأربعة، بنين وبنات، بالزواج داخل الدار، كل واحد منهم له حجرة مع قرينه، والباحة للجميع. فاعتادت النسوة انجاز أعمال الدار، وتناول وجبات الطعام معا، ورعاية الضيوف معا، ومعا في السراء والضراء، لم يتململ أحدهم من رجل أو امرأة.

بدت الحياة معتادة كل صباح، إلا هذا الصباح، لولا أن تبينت الأم ذلك المغبر الأشعث محتقن الوجه، الذي يقيم وحده في المضيفة.

كيف يدخل دارنا من لا يتذوق رائحتها، وإلا لماذا هو على تلك الحالة المكفهرة؟؟
كان مشهد سحنته، ونظراته غير مستقرة على شيء، فسألته الحاجة الكبيرة إن كان يرغب في إفطار غير الذي أعدته؟ لم يجب، انشغل أكثر بكوب الشاي الساخن في هذا الصباح البارد، شديد البرودة.

عندما خرجت، وبينما كانت "روحية" ابنتها الكبرى خلفها عن بعد كعادتها، سألتها: "هل رأيت وجهه، عضلاته تتقلص بشدة!!

لم تعقب الابنة، أسرعت إلى الحاج وأخبرته، فدخل عليه مرحبا. وعندما سأله عن وجهته، وهى ليست من عادته أن يسأل أحدهم.

قال الشاب مرتبكا: "معارك في شوارع الإسكندرية، ومحاولات فاشلة للهرب من الجميع.. حاصرتنا قوات الشرطة بإحكام، لولا أن أنقذني الله بأعجوبة!!"

لطيبة قلب الحاج أرجع السبب للنسوة، نسوة الإسكندرية والدنيا كلها: "الازدحام هو السبب، النسوان بتولد مثل الأرانب!!"

لم يشأ الحاج أن يستفسر أكثر، فرائحة الشاب طيبة، وهو في عجلة من أمره، ولا شيء يمنعه عن أعمال الغيط، وان انقلبت الدنيا، إلا أن تنطبق السماء على الأرض.

قبل أن يهم بالنهوض، احتجزه الشاب، وقال: "أظن أن الكلام بين الناس قادر على زرع الألفة بينهم.. لكنني على يقين، لو تكلمت معك أكثر بما في رأسي، لن ترحب بى.. أخشى ذلك، فأنا أرى مصحفا وسجادة صلاة في ركن المضيفة هناك!!"

لوي الحاج شفتيه في دهشة: "تعنى لأنني أرى صليبا مطبوعا على كفك.. ماذا في ذلك؟؟ يبدو أنك في حاجة لأن تغتسل وتنام، وعندما تستيقظ يحلها ربنا"
لم يمهله لأن يعقب، خرج لعمله.

وإن تفرغ الحاج في عمله، تفرغت الحاجة لمشاجرة زوجة ابنها البكري "بكر"، لم يتناول الإفطار معهم، ولم يظهر هذا الصباح، حتى بان لها أنه لم يحضر من عمله بالإسكندرية، قالت لها بحدة:
"أيام الوردية الليلية التي تنتهي في منتصف الليل، يعود، حتى ولو مع آذان الفجر"
ردت الزوجة على استحياء: "شئت ألا أزعج أحدا"

لاحقتها الحاجة: "يا قلبك يا "حفيظة"، وهان عليك غياب زوجك، ابني البكري.. لا تخبرينى ولا تخبري الحاج؟"
"وماذا سيفعل الحاج؟؟"
وكانت الطامة الكبرى، أعطتها الحاجة درسا في قدرات حماها.. حكمة عقله وقوة ذراعه!
كان يمكن أن تستمر المشاجرة على هذا المنوال طوال النهار، لولا أن سمعا صخبا في المضيفة..
"انه صوت ابني.. صوت بكر"!
واندفعا معا إلى داخل المضيفة..
"بكر" يمسك في تلابيب الشاب الذي يصرخ في وجهه بقوة وحمية، لم تتضح عليه من قبل. كان صوت الحاجة أعلى وأقوى من كليهما، سألتهما عن سبب شجارهما الغريب هذا.. لم يجدا سببا يردون به، وان المح "بكر" أنه يعرف الشاب من مشاجرات الليل بشوارع الإسكندرية!

فوجئ الجميع بطلعة الحاج "العجرودى" لاهثا يسألهم: "شممت رائحة الشياط وأنا في الغيط، وأنتم هنا لا تشمون!!"

وكأنه أصدر أمرا لأن تنتبه أنوفهم، كل حواسهم انتبهت، التقطوا رائحة الشياط واستشعروا خطرا ما.

لم يتردد أحدهم في اعتلاء السلم الخشبي الموصل إلى الطابق العلوي.. سبقهم جميعا الشاب الأشعث، اقتحم النار، بكفيه وقدميه وأنفاسه.. ثم بجوال أحضرته الحاجة فورا، ظل يضرب مصدر اللهب حتى خمدت النار.. رويدا اختفت رائحة الشياط.

فعاد الحاج إلى عمله، واعتلى "بكر" سريره وقد غلبته الرغبة في نوم هادىْ وعميق، بينما توجهت الحاجة لإعداد شاي بالنعناع، وقدمته إليه الشاي الذي لم يشربه، لأنه كان قد استغرق في النوم بأنفاس منتظمة.. فقالت الحاجة في نفسها: "أحيانا النوم أفضل من لحم الرومي!"

وضحكت النسوة كلهن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى