الثلاثاء ١٧ آذار (مارس) ٢٠٠٩
درجة صفر
بقلم رانية عقلة حداد

الإنسان محكوم بفعل القتل

فيلمان من أصل ثلاثة أفلام إيرانية تم عرضها في مهرجان الأردن للفيلم القصير تناولت قضايا فلسفية، فكان من الملفت أن يشكل تأمل الوجود هاجسا لصناعها المنحدرين من بيئة متزمتة دينيا تكثر فيها التابوهات، وكان "درجة صفر" أحد هذين الفيلمين، وهو فيلم أنيمشن قصير إنتاج 2005، إخراج عوميد خوشنَزار.

"درجة صفر"... الاسم بداية يضعنا على العتبة الاولى لقراءة الفيلم، حيث درجة صفر هي نقطة الاصل... النقطة التي تبدأ عندها ومنها الاشياء، سواء اكانت درجة صفر هي مؤشر للحرارة، او لقياس الزوايا، تبقى هي حالة السكون... لحظة البدء، في المستوى الاول يتأمل الفيلم السُلطة البشرية والاشخاص الذين يقعون تحت تأثيرها فتُسيرهم، هذا ما نلمسه منذ بداية الفيلم حين يصوب الجندي بندقيتة إلى شخص لا نعرفه، وبعد أن يطلق النار عليه يظهر لنا بأنه غير راضٍ عن فعلته هذه، انما ثمة قوى خفية تسيره، فيلقي ببندقيته محاولا الهرب من فعلته...من اثمه، ومن القوى التي تسيره لكن دون جدوى فليس هناك مفر، حيث تقوده هذه السلطة/القوة في النهاية إلى الهاوية.

المستوى الثاني للقراءة هو مستوى فلسفي، حيث يشبه هذا الجندي إلى حد كبير سيزيف في الاسطورة الاغريقية الذي غضبت عليه الاله، فحكمت عليه أن يصعد كل يوم إلى اعلى الجبل حاملا صخرة كبيرة، وعندما يصل إلى القمة يرمي بالحجر إلى اسفل، ليعود ويحمل الصخرة من جديد إلى قمة الجبل، هكذا كل يوم يكرر ذات الفعل دون جدوى، وهذا يشبه إلى حد كبير ما يحدث مع الجندي حين يقتل الشخص الاخر، فيبدو انه محكوم بهذا الفعل من قوى لا نشاهدها انما نحس بوجودها من خلال شاشة الفيديو الذي تصور الحدث وتتحكم به، فعل القتل في هذا الفيلم يشبه فعل حمل سيزيف للصخرة، فحين يحاول الجندي الهرب يسقط إلى الهاوية لكن ذات القوى بواسطة زر الترجيع في كاميرا الفيديو تعيده إلى نقطة البداية حيث فعل القتل، ولنا أن نتخيل أن هذا الفعل سيبقى يتكرر إلى ما لا نهاية دون جدوى، فكلما حاول الجندي أن يهرب قادته هذا القوى التي تحرك كاميرا الفيديو والعناصر داخل اطارها إلى حيث تشاء، فتتحرك الكاميرا بالاتجاه المعاكس عندما يحاول الجندي الهرب وتجبره على السير في اتجاهها، فيشكل اطار كاميرا الفيديو قوة وحاجزا لا يمكن تجاوزه. عودة إلى الاسم "درجة صفر" انه على هذا المستوى هو بداية الخليقة، حيث اول فعل يبدأ فيه الفيلم هو القتل... قتل الإنسان لاخيه الإنسان تماما كما قتل قابيل اخيه هابيل، هكذا قتل الجندي الشخص الاخر وعندما اسقطته القوى في الهاوية، اعادته من خلال زر الترجيع إلى لحظة البداية قبل فعل القتل بقليل، وكأن الإنسان مسير ومحكوم بهذا الفعل إلى الابد، ولا مفر من أن يقتل اخية الإنسان، وفي لحظة ما نتوحد مع الجندي القاتل وننظر معه من منظار بندقيته نحو الضحية.

تأمل الوجود والقوة الالهية وما اذا كان الإنسان مسيرا او مخيرا في الحياة، ليست فكرة جديدة فقد تناولها الاوروبيون بعد فجائع الحرب العالمية الثانية، في وقفة مراجعة وتأمل للذات والمعتقد، تناولوها فنيا وادبيا وفلسفيا، لكن الجديد كما اسلفت أن تطرح هذه المسائل من اشخاص ينحدرون من ثقافة شرقية، ومن دولة متزمتة كـ إيران، كذلك الشكل المميز الذي يقدم فيه المخرج فكرته والذكاء في اختيار الجندي كنموذج لتناول السلطة فيواري خلفه الفكرة الاساسية المراد طرحها.

"درجة صفر" أحد الأفلام المميزة التي عرضت في اطار مهرجان الأردن للفيلم القصير2008، فارتأت لجنة تحكيم الناشطين الثقافيين الشباب - والذي كان لي الشرف أن اكون أحد اعضائها- التنويه به كاحسن فيلم اصلي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى