الخميس ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١٢
الشعر العربي وألفا عام من
بقلم أسامة الأشقر

الاندثار قبل الإسلام‎

كم كان يدهشني ما يتداوله النقاد العرب من قِصَر عمر الشعر العربي قبل الإسلام، إذ يجعلون آخر ما وقفوا عليه من قصائد هو شعر المهلهل بن ربيعة وأوس بن حجر، ثم يعتذرون اعتذارات خجولة بأن هذا النضج في الشعر العربي لابد له من مقدمات أوصلته إلى هذا النضج، ولكنهم لم يقفوا له على دليل سوى إشارة سريعة من امرئ القيس:

عودا على الطلل المحيل لعلنا
نبكي الديار كما بكى ابن حذام

فابن حذام شخصية مجهولة بكت الديار قبل هؤلاء الشعراء الجاهليين المعروفين، ولم يكن هذا الرجل إلا واحداً من شعراء يَقلّون أو يكثرون، بكوا الديار من قبل، وهو البكاء الذي كان المطلع التقليدي للقصيدة العربية الجاهلية في سبكها الذي أوصله لنا الرواة.

وتأثر نقادنا كثيراً باستظهار الجاحظ حول أوّلية الشعر العربي، حيث جعل عمر الشعر الواصل إلينا على لسان الرواة مائة وخمسين عاماً قبل الإسلام، وإن استظهره غاية الاستظهار فعمره لا يزيد عن مائتي عام، ومقالة الجاحظ هذه تسببت في جمود السعي لاستكشاف الحقيقة، إذ دار النقاد حولها محاولين التقدم لعقود قبلها مستظهرين بعض التحليلات التي لا يغفل عن مثلها الجاحظ - وهو الموسوعي المتبحّر – دون أن يأتوا بدليل أو شاهد يمكن متابعتهم عليه دون نقض أو اعتراض مقبول.

وكان أحرى بهؤلاء أن يبحثوا عن مجال آخر لإثبات صواب المنطق بأقدمية الشعر العربيّ لا أن يورطوا أنفسهم باستنتاجات أقبح من قبيل الإصرار على أن الفنون المعروفة في الجاهلية هي الفنون القولية، وأن فنون الحضارة المعروفة سابقاً لم يكن لها وجود لافت، فقرروا بحسمٍ وقطع أن فنون النحت والتصوير المادي غير موجودة وأن صناعة التماثيل كانت صناعات بدائية ويستدلون على ذلك بروايات مختارة تخدم تصوّرهم المحدود، ثم يعللون ذلك بأن الأفق المتاح للعربي هو ذاك الخيال الذي يسبح به الفنان العربي القديم عبر فنون القول التي لا يحسن غيرها فيبدع في تصويره الشعري فحسب.

ولمناقشة هاتين المسألتين فعليّ أن أتحول إلى مهنة المحاماة عن تاريخ الأدب والفنون لدى العرب وأن ألبس الثوب الأسود لأرافعَ نيابةً عن ثقافة عريقة مظلومة من قوم كان ينبغي أن يكونوا من المدافعين عنها لا الناقلين المقررّين عمن سبقهم، وكما يفعل أي محامٍ يعرف مهنته فلابد أن أسوق استنتاجاتي مصحوبة ببيئتها الافتراضية وقرائنها وشواهدها وأدلتها المتاحة.

وبخصوص الشعر العربي وأقدميته فقد غفل النقاد عن مسائل حساسة وخطيرة لا أدري كيف فاتتهم في تقريراتهم النهائية وإن كان بعضهم قد فطن لها عَرَضاً إلا أنه لم يؤسس عليها موقفاً قوياً؛ فرواية الشعر التزمت في مقررات الرواة الكبار بشروط وقيود كانت تهدف إلى انتقاء الصفاء اللغوي وضمان عدم الاختلاط بلغات وافدة أو طارئة يمكن أن تكون سبباً في تغيير مبدأ نقاء اللغة العربية فطافوا في البوادي البعيدة والصحارى المقفرة وتعاملوا مع جفاء الأعراب وغلظ حياتهم وجمعوا لنا تراثاً لغوياً يمتاز بالغلظ والجفاء والإعسار الذي هو نظير حياة من أخذوا عنهم متن اللغة هذا؛ وهذا يعني أن ثمة تراثاً لغوياً وشعرياً هائلاً تركه هؤلاء في حواضر العرب في جزيرة العرب في اليمن وسواحل البحر الأحمر والخليج العربي وتخوم الشام وأرض الجزيرة الفراتية وقلب العراق ونواحي مصر، ولم يكن التركُ للحواضر فحسب بل إن بادية هذه المواضع قد تعرضت لما تعرضت له الحاضرة بحجة اختلاط هذه الحواضر والبوادي بالأعاجم، فلم نقف على اهتمام واعتناء بشاعر جاهلي ولد ونشأ ونبغ في الشام أو العراق أو أقاصي اليمن مقارنة بالاهتمام الذي نجده لدى شعراء جاهليين آخرين، بل إن من نقف عليه من هؤلاء الشعراء المظلومين يكون الاعتناء بشعرهم نتيجة اتصالهم بالبلاط الحاكم أي نتيجة تأثيرات سياسية واضحة، ومن الطرافة أن النقاد عندنا توصلوا إلى نتيجة غريبة أن شعراء الحواضر هؤلاء لا يمتلكون حسّ الشعراء الأعراب فقد صهرتهم الحياة المدنية وغابت عنهم جماليات الطبيعة واستهلكتهم الحاضرة بترفها واختلاطها، ولم يفطن هؤلاء إلى أن ما ورد إليهم من شعر منسوب إلى هؤلاء كان شعراً منتقى لأسباب سياسية ولم يكن هناك اهتمام حقيقي برواية أشعارهم في مناسبات الحياة الأخرى وأغراض الشعر المدني، لاسيما أن الحياة المدنية في الحاضرة لم تكن بهذا التعقيد الذي وصلت إليه المدنية اليوم.

وإذا عجزت الرواية عن تغطية هذا المجال الفسيح الذي نظن أنه يحوي تراثاً هائلاً ضائعاً بسبب قيود رآها الرواة منطقية آنذاك فكان لابد للنقاد ألا يقعوا فريسة هذا الاستقراء الناقص؛ وما كان ينبغي لهم أن يعترفوا بنقص الاستقراء ثم يبنوا عليه قراءاتهم النقدية دون مراعاة هذا النقص المفجع، فهذا الأمر قد أدى إلى استنتاجات خاطئة وظالمة عند تشكيل ما يسمونه الظاهرة الشعرية وملامحها.

وكان ينبغي للناقد الحصيف أن يبحث عن مواقع أخرى يجد فيها ضالته، وأقرب المواقع التي يمكن للناقد المتخصص في حقب قديمة أن يجد فيها تلك البغية المنشودة هي البحث في الآثار والتنقيب عن الكنوز المدفونة، فإن لم يكن هذا الأمر مما يغري الناقد فعليه أن يبحث عن ضالته في إعادة قراءة النقوش المكتشفة ولاسيما تلك النقوش الطويلة التي تخصص الأجانب الغرباء عن العربية في قراءتها رغم أن دفائنها وجدت في مناطق عربية ذات امتداد عربي تاريخي عريق يتصل بهذه المنطقة بأوثق الصلات.

ولا أخفي أبداً أنني كنتُ أصاب بالكثير من الغضب والارتياب عندما أقرأ تفسيرات من يسمون أنفسهم بخبراء الآثار وقراءة النصوص القديمة عندما أرى تلك الترجمات الهزيلة والتي يظهر فيها الهوى السياسي والتعصب الديني ورداءة الترجمة وعدم القدرة على فهمها، فيكاد هؤلاء القارئون يقرؤون النقش وبيدهم التوراة والعهد القديم محاولين إيجاد أي خيط يدلهم على إشارة توراتية، فاختلط عمل هؤلاء بالغرض السياسي والديني، ولذلك لن تجد كبير عناء في أن تتحدث بوضوح وثقةٍ بأن علم الآثار في منطقة الشرق الأوسط قد تحول لخدمة أهداف توراتية تخدم أتباع الحركة المسيحية الصهيونية وأتباع معتقدي العهدين القديم والجديد، وإذا كان في بعضهم بعض المصداقية فستلاحظ تأثرهم البالغ بالتاريخ اليوناني والروماني، وإذا كان لأحدهم معرفة باللغات فستجد أن اللغات التي يتقنونها هي العبرانية بينما لا تكاد تجد العربية من جملة اللغات المطلوبة في قراءة نقش موجود في منطقة عربية ! وكذا الإهمال بحق السريانية.
وقد كنتُ أتابع دراسات الباحث الفلسطيني خالد حسين أيوب في إعادة قراءة النقوش التي حسم خبراء قراءة النقوش أمر كتابتها، وقد أذهلني حجم التحريف الذي أثبت الباحث حصوله في قراءة النقوش، وهو التحريف الذي يمكن وصفه بالتزوير الحقيقي، ويرجع سبب التزوير في المرجعية التوراتية للقارئين في الأساس، ثم إلى عدم معرفتهم بالعربية كلغة خطاب وتداول اجتماعي معروف في تلك الأزمان مما حدا بهم إلى تفسير الخطوط الفينيقية أو النبطية بموجب معرفتهم بالخط العبراني أو الآرامي أو النبطي أو الأكادي ولم يخطر لهم أن اللغة التي تكتب بخطٍ ما قد تكون مكتوبة بهذا الخط لكنها تُقرأ كما ينطقها ويفهمها مَن كتبها وعبّر بها، ويمكن أن نضرب المثل اليوم باللغة الفارسية فهي تكتب بخط عربي لكنها تحوي مفردات وتراكيب لغة فارس، فلا يجوز لنا قراءة هذا الخط وفهمه بموجب ما تقتضيه اللغة العربية.

ونتيجة لهذا التزوير الفاحش فقد تبين للباحث غنى التراث العربي المرقوم بهذه النقوش وأنه حافل بالأشعار الشعبية التي دوّنها الناقشون والراقمون والتي لا يصح قراءتها إلا بلغة الشعر الشعبي الذي ما تزال إيقاعاته القديمة معروفة في منطقتنا إلى اليوم ؛ فكل سطر في النقش هو بيت كامل، وكل بيت كان ينتهي بحرف الرويّ والقافية الخاتمة، وفوق ذلك كله فقد وجدنا كل بيت منظوم على إيقاع التفعيلة البدائية التي هي أصغر الوحدات الإيقاعية الموسيقية في الشعر العربي وهو ما اصطلحوا على تسميته بالسبب " حركة سكون" وهو الإيقاع المعروف في تراثنا الشعبي " الدلعونا ويا ظريف الطول..." وأغاني الأعياد الشعبية " بكرة العيد وبنعيّد..."، ويأتي له خبراء العروض بهذا الشاهد المنسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

حقاً حقاً حقاً حقاً صدقاً صدقاً صدقاً صدقاً صدقا

إن الدنيا قد غرّتنا
واستهْوتنا واستلْهتنا
لسنا ندري ما قدّمنا
إلا أنّا قد فرّطنا
يا ابن الدنيا مهلاً مهلا
زِنْ ما يأتي وزناً وزنا

وقد أطلعني الباحث المحترف خالد أيوب الذي اشتغل منذ نحو خمسة عشر عاماً في قراءة هذه النقوش على جهده في تصحيح القراءة وكشف التزوير والتحريف فيها، ولديه قراءة مقنعة لنقش حجر مؤاب وترجمته، وقد تبين لي كما تبين له من قبل بصورة قاطعة أنه نص شعري حقيقي كامل، ولا تحتمل قراءته سوى أنه نص شعري حافل بالعواطف الاجتماعية بين أب وابنته أو أم وابنتها، وهو أشبه بشعر الترقيص أو التزفين في فكرته العامة الذي هو من الأغراض الاجتماعية البدائية في الشعر العربي، ومعظم نصوصه تنبني على أسهل البحور المعروفة وأكثرها شيوعاً وهو بحر الرجز الذي يمكن اعتباره تطوراً لإيقاع السبب الشعبي، وهذا النص الذي هو حجر مؤاب يعود تاريخه إلى نحو 1800 عام قبل ميلاد المسيح عليه السلام وهو نص حاسم في أقدمية الشعر العربي في أوزانه الشعبية العريقة، ويعطينا الدليل الأول على حجم المفقود من تراثنا الشعري العربي القديم ؛ وكم أتمنى أن ينشر الباحث الأستاذ خالد أيوب بحوثه هذه ليطلع النقاد والدارسون على جلالة هذا الاكتشاف وخطورته، ولولا خشيتي من إطفاء بهجة الاكتشاف الذي هو من حق الباحث لسردتُ صفحات من هذا البحث الذي شغلني أشهراً طويلة.

وبالعودة إلى ما ادّعاه النقاد من انعدام حضور الفنون التطبيقية لدى العرب قديماً فقد أذهلني هذا الأمر ثانية، فلو طاف هؤلاء في المتاحف المحلية التي تقيمها البلديات في المملكة العربية السعودية مثلاً في دومة الجندل وفي تبوك وفي الرياض وفي عسير ومتاحف كليات الآثار والمتحف الوطني والمتاحف الخاصة لوجدوا شواهد كثيرة على رسوم بدائية واحترافية ونقوش بدائية ومتطورة، ونحت جميل صغير وكبير، وسيجدون الألوان والزخارف الدالة على جمال الذوق والحسّ، ومثل هذا النوع من الفنون يكون أكثر ما يكون في الحواضر والقرى المتوطّنة حيث الماء والزرع ومحطات التجارة، ويقل في البوادي لدى القبائل المرتحلة دوماً والتي شاع فيها الشعر والرواية الشفوية أكثر مما شاع فيها الفن التطبيقي، ولكننا نزيد أن الحواضر أيضاً كان لها حضورها الشعري حيث إن انتشار الغناء في الحواضر قبل الإسلام كان يعتمد أيضاً على مادة الغناء وهو الشعر الذي ظلمه الرواة الأوائل ولم يهتموا بجمعه بل انصرفوا عنه تماماً، ولو أنهم فعلوا كما فعل الرواة في العصر العباسي حين وثقوا لنا حياة الشعر المغنّى في بغداد زمان العباسيين لوجدنا تراثاً كبيراً أيضاً.

ولا يمكن لنا هنا أن نغفل الجو العام الذي أضفاه الإسلام على حياة العرب الوثنيين الذين تعلقوا بأصنامهم وعبدوها، واستكثروا منها، وفي ظني أنهم بالغوا في تجميلها وتزيينها وزرع نمط المهابة عليها بالتكبير أو التزويق أو كليهما، لكن حضور الإسلام القوي في نفوس العرب الذين انتقلوا إلى دين الله أفواجاً جعلهم ينصرفون تماماً عن هذه التماثيل التي استُخدمت لغير غرض فني وإنما لأغراض دينية وثنية ولذلك تعرضت للإزالة والتدمير بمجيء الديانة التوحيدية.
ولا ينبغي أيضاً أن نغفل فن المعمار العربي القديم الذي قطع الصخر وحفر فيه المنازل وهندس المداخل والمنافذ والغرف كما هو في منازل الحجر في مدائن صالح، وتلك الأبنية الشاهقة ذات الأدوار المتعددة في حضرموت واليمن، والآطام والحصون في المستوطنات الزراعية في الحجاز ووديانها الشمالية، فذلك الفن المعماري ينم عن إحساس عالٍ بالفن والرقيّ فيه، ولا يجوز إغفاله ليرضى بعض النقاد برأيهم البارد.

وعلى كل حال فإن الواجب اليوم بات أكثر إلحاحاً بحق دارسي الأدب العربي والنقد ليكتشفوا طرقاً جديدة في البحث العلمي لإعادة الاعتبار للحقيقة أولاً ثم للفن العربي القديم ثانياً، الذي طعّمه الإسلام بعمق جديد وصاغه صياغة ذات رسالة بعد ذلك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى