الأربعاء ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم وضاح المقطري

البحر كما يليق بنسرين

إهداء : عمار الضبيع
 لاأحد يستحق هذا الإهداء سواك وسوى
شهامتك التي وضعتني أمام ( آخر وجه للبحر)
فأعادتني لأخر شهقة ألم لم تننه بعد .

بتلقائية وبساطة كان يضعني في مواجهة البحر ظاناً أن فعلته ستضعني في دوامة الدهشة والفرح:
 ها أنت أمام البحر .. قال وكأنه يهنئني وينتظر أن أنفجر سعادةً وامتناناًَ ، ثم تابع :
 خذ متسعاً من الحبِ لحياتك كي يكون البحرُ حاضراً في تفاصيلها، وأعد صياغة تلك التفاصيل بما يليق بهذا البحر .
لكن الدهشة كانت من نصيبه حين فوجئ بي مستنكراً :
 هذا الكائن لا يليق بي يا صديقي.. لم يكن قط لائقاً إلا بآخر تفاصيل أحزاني وخيباتي وأشدها إسرافاً في الغرابة .
أُسقِط في قلبه ، وأصابته الخيبة وأنا أستطرد :
 يحق لي أن أشكر فيك شهامتك التي كأنها تمارس النكاية بفتى أحب البحر وتمناه حتى عرفه ، ثم كانت له معه أحلى الذكريات ... وأمرها ، لكن المسافة بين الحلاوة والمرارة هنا مسافة زمنٍ لا يتعدى تنهيدة موجةٍ قادمةٍ من بعيد.
 إذن فقد عرفت البحر قبل هذا الحين ... نطق سؤاله بحسرةٍ كمن مد يده بهدية مكسورة .
 الحقيقة يا صديقي أنك تستحق الشكر على شهامتك التي مارست النكاية بفتى أحب البحر بكل مسافات الشغف وخاف منه – وما يزال - بكل علامات الجبن ، هل تدري لماذا ..؟
احتله الصمت طويلاً وعيناه تتأملان تاريخاً من الحزن على ملامحي ، وفي شفتي اللتين أسلمتاه تلك الحكاية ليدفع ألمها الباهظ من شهامته وصنيع معروفه.

كأن حياتي كلها اختصرت في تلك الساعات أو اجتمعت أيامها في تلك المدينة التي لولا البحر ما كانت هنا ... سألت نسرين وعيناي تتوهان في وجهها النحيل وتغوصان في عينيها العميقتين :
 هل تأخذيني إلى البحر لأطفئ فيه لهفتي وأكتشف أمامه ما يليق بكِ وبه في أعماقي ؟..
ضحكت قليلاً من لهفتي ولهجتي فأضفت بحسرةٍ:
 " أه نسرين – إنه الحلم القديم - حلمك وذاكرة صبانا ، ها قد صار قدر لكلينا "
لكنها أشارت باتجاه الغرب :
 البحر هناك .. سنذهب إليه وأمامه سنتعرف على كلينا فأطفيء فيك اشتياقي وتطفئ شغفك فيه .. وتكتشف أنه يليق بقدرك .
أخافتني إجابتها ، إذ أني ومنذ زمن لم أعد أطمئن إلى قدري ، ولا أنتظر من قادم أيامي سوى الخيبات والآلام التي ما انفكت تترصد ني ...
مللت انتظار اللحظة التي ستمسك فيها نسرين بيدي وتقودني باتجاه البحر لأكون بين كفيها أمام الكائن الذي تمنيته كما لم أتمنَ شيئاً من قبل ، ولأستعيد في تلك اللحظة براءتي التي عرفتها معها وأنا "أنتمي إلى طفولتي البعيدة في السفوح والمدرجات المعلقة بين الجبال الموغلة في قدمها والمسرفة في وعورتها ، واسترد حلم الطفولة وأجمع كل البراءة والأحلام وعشق البحر وولهي بنسرين لأنسج عالمي البعيد عن تلك اللحظة وحكايتي الأقدم من ذاكرة المدينة في بالي وإياها .
  مهلا .. كيف كان البحر حلماً قديماً وذاكرة صباً .. ثم صار قدراً لك ونسرين من بعد ..؟

مرق سؤاله خلال السرد المنداح من ذاكرتي لأعود نحو الصبا كما تشاء شهامته المسفوكة خطأً على مقبرة أحلامي :
 نعم .. هي حكاية حنين أخرى ,.. سنوات الطفولة التي لا تعود .. كنا في تلك القرية النائية المعلقة ، نتطلع صغاراً وكباراً إلى الجنوب ؛ لعلنا نلمح الخط الأزرق الذي يمتد بين طرفي الأفق خلف صحراء بعيدة وكبيرة .. لكنه كان يغيب طويلا ولا يمنحنا حق رؤيته إلا في نيسان من كل عام .
وأصمت قليلاً والذكرى تنفتح أمامي ككتاب ..
 كنت ونسرين نتطلع دهشة وحيرة إلى ذلك الخط الأزرق البعيد ، ونسأل الكبار ، لنعلم أنه البحر، فتتسع الدهشة في خيالاتنا ، وتمتد الحيرة كغموض المسافة بين مسارح الصبا وذلك الشيء البعيد .

في النيسان الأخير بيني ونسرين ، أفصحت لي عن حلمها الشفاف أن تسكن في عمق ذلك الخط الأزرق ، وبعدها بأيام كانت قد غادرتني إلى هنا ، ورداً على لوعتي ، قيل لي أنها هاجرت إلى مدينة البحر ، وربما لن تعود منها قبل زمنٍ طويلٍ – إن عادت – ويومها نبتت في أعماقي أشياءٌ مبهمةٌ وخفقت روحي كأجنحةِ السنونو ؛ ربما كانت نسرين أول وأجمل سنونو عبر ذاكرتي الصبية وهاجر بعيداً عن مساحات طفولتي نحو خطٍ أزرقٍ بعيدٍ ظللت عمراً أرنو إليه وأدري – فقط – انه البحر.
بعدها سمعتُ وقرأتُ في الرواياتِ والقصصِ التي أكلتْ خيالاتي وشربتْ ماءها عن ملامحه وتفاصيله ، ولاكتْ ذاكرتي أشعاراً صنعتها قرائح الشعراء اللذين أحبوه حتى الثمالة أو كرهوه حتى الاحتراق ، وكتبوا حبهم أو كراهيتهم له في قراطيسهم وسيرهم ، واكثر من ذلك أن حبيبةً قديمةً علمتُها أن تحب أسطورة الغناء الخالدة " فيروز " ذات قصة حبٍ ساذجةٍ أوقعني فيها حزني على نسرين التي أضعتها ونحن نحلم بالبحر حين هاجرتْ إليه ، فلم تتعلم هذه الحبيبةُ سوى أن تغني لي :

 " شايف البحر شو كبير كبر البحر بحبك " ثم هجرتني هجرة لم تنتهِ منذ النهاية .
 وهكذا من أجل كل هذه الأشياء ، وبسبب صدى غناء حبيبتي القديمة في ذاكرتي العفوية ولأنني كنت أبحث عن معنى براءتي في وجه نسرين التي غادرتني إلى هذه المدينة ، وربما لأجل أشياءٍ أخرى في الغيب أحببت هذا الكائن ، وحلمت أن أعيش قريبا منه .. وقد كان .

أتذكر أن نسرين قادت خطاي المرتبكة بطريقة كنت أظنها شغفا بي وبلحظة التوحد معها أمام البحر .. وكنت أتبعها كالوله مشدوها بالزمن الذي حرمني منها ، ثم أوصلني إليها في هذه المدينة قرب البحر لألقاها مثلما أضعتها أو كما تركتني طفلة حزينة وقبلة مزروعة على جبين المسافة بين طفولتي وخطاي المرتبكة نحو البحر .. وكما تركتني وجدتها وانتميت إليها خاليا من كل شيءٍ سوى رغبتي في أن أتملكها وتتملكني نقيين من عذابات كثيرة .

سألتها عن خارطة المسافة بين آخر مرة كانت معي في قريةٍ نائيةٍ بين الجبال البعيدة المسرفة في وعورتها وتلك اللحظة التي أقف فيها معها أمام هذا المدى اللامتناهي من المياه المالحة وأضواء الشمس الغاربة ، فأشارت إلى البحر وفي صوتها رنة حنان غامضة :
 سله سيحكي لك عن طرقٍ كثيرة عبرتها ولم أجدْ موضعا لهدأة الترحال سوى هذا الشاطئ في انتظارك .

كان البحر هادراً يتخبط في عنفٍ ويقذف أمواجه نحو الشاطئ بقوة تضج لها جميع المدارات فأضافت :
 هو الآن يقول لك أشياء كثيرة ويحتفل بك ضيفاً عابراً مسكوناً بحلم أن تلقاني .
جذبتني نحو البحر أكثر لأقف فوق الصخور التي تنتحر عليها الأمواج ، فقلت وكأني تحسرت عليها متسائلاً في حيرة :
 لم توجد هذه الصخور هنا فقط ؟
 لقد وضعوها لتحمي المدينة من غضب البحر .
" يا إلهي .. هل البحر مخيف إلى حد أن يضعوا أمامه كل هذه الصخور.. أو ليس البحر عنوان حكاية هذه المدينة وبدايتها ؟"
كان هذا التساؤل الساذج يتردد في مخيلتي وحسب ولم يجرؤ لحظة على الوصول إلى شفتي .. فقد كنتُ أظن البحر شبيهاً ببراءتي ، ونسرين كانت عنوان تلك البراءة .

أضافت نسرين وهي تشير إلى الخلف :
 لولا هذه الصخور لتقدم البحر وأطاح بهذا الحي .
كان ذاك الحي عبارة عن مجموعة من القصور التي تمتد بامتداد الشاطيء تحفها الأسوار والحدائق الكبيرة التي لم ألتفت إليها وعدت أتطلع إلى البحر وهو يلقي بجبال الماء تحت قدميِ كأنه يدعوني للتوحد معه كما ظننت ، .. كنت في غاية الدهشة والرهبة اللتين وضعتاني في قلق أمام ذلك الكم من السعادة التي اجتاحتني ، فبدوت كطائر يحلق بجناحين طفوليين فوق عش يغادره لأول مرةٍ ، وقد حاولت وقتها أن أبتكر مطلع قصيدة يكون البحر سيدها أو تكون رغوته مداداً تسطر به في صفحات الانبهار والغموض ، ففشلت .. ربما كانت وحشية الأمواج هي السبب ، ولذا حاولت الانشغال بأنامل نسرين التي وجدتها تائهةً في خوف من مجهول لم أدركه إلا بعد زمن يساوي تنهيدة موجةٍ قادمةٍ من بعيد .. لكن خوفها لم يكن يليق بخوفي إلا قليلاً وليتني أدركت هذا في حينه .

كان البحر يضعني بلهفتي وخوفي من المجهول أمام خياراتٍ كلها ألم وعلى شفتي " سؤال له امتداد المجرات البعيدة واندياح المياه المالحة ، ورحلة موغلة في الجهات التي عبرتها " بدون إجابات لعلاماتٍ تضع نفسها في كل زمانٍ يسكنني لأعرف ما لا أحب وأجهل ما يتمنى المرء أن يدركه ، واقعاً في شرك حبيباتٍ يمسكن تلابيب القلب ويبتسمن كثيراً ، ثم ينسين ويهجرن دون انتهاء .. أُولاهن كانت نسرين " عنوان براءتي التي عرفتها في مساحات الطفولة وحقول الصبا " لكنها تاهت عني مسافة زمنٍ يكاد يساوي ما ارتكبته من خطيئة الحياة لتسكن هذه المدينة قريباً من البحر .. وآخرهن كانت نسرين التي جئتها لأحسد قربها من البحر وأتوحد معها مستعيداً فيها عنوان براءتي الذي كانته .... ولكن .. أهِ يا صديقي ليت لكن هذه لم تكن وليتني ما جئت أبحث عن وجه نسرين وليتك اخترت لي مفاجأةً غير هذا البحر.

ذات قبلةٍ طويلةٍ انفجرت في أربعةِ شفاهٍ وأجبرت نسرين على إغماض عينيها ؛ سألتني :
 هل تحب البحر ..؟
 أحبكِ أنت .
 وأنا أحبكَ بكل اتساع البحر وعمقه..
انفجر خوفي يا صديقي بلا نهاية .. حبيبة قبلها قالت لي ذلك ولكن بالطريقة الفيروزية ، ثم هجرتني هجرةً باتساع البحر وعمقه .. أما نسرين فكانت تضيف :
 لك كل ما في الروح من فضاءاتٍ ظلت بانتظارك..
إذن ..، هي قصة واحدة كانت تكرر نفسها معي ما دمت أبحث عن حبٍ يليق ببراءتي وأجيد صياغة تفاصيله كما يجدر بعاشقٍ ملته الأحزان .
لكن نسرين كانت تنتمي للوشايات الآثمة ؛.. فوجئت بها تسوق خطاها خلسةً نحو الشاطئ في ليلةٍ بلا قمر ، وحين حاولت اللحاق بها راوغت خطاي وتركتني نهشاً للقلق .. فتشت عنها الشاطيء فلم أجدها ، وبعدها أقنعتني أنها كانت تحاول أن تكتشف مواضع الشبه بين البحر وحبها لي ، وقد صدقتها كما أصدقك الآن ، وكما كنت أصدق البحر الذي تواطأ معها .. وربما مع حبيبتي القديمة ، وهاهو يتواطأ معك أخيراً .

يوم سفري أسلمتني نسرين نهديها وشفتيها للمرة الأخيرة ، ثم فردت أمامي شعرها الذي يمتد حتى أسفل خصرها ، وسألتني :
 هل تحب هذا الشعر ..؟
اندفعت أصابعي في ليلِ شعرها ، وداعبت مؤخرة عنقها وشفتاي لا تعيانِ الكلمات :
 إنه أجمل وأطول شعر صادفته أسفاري ، كالبحر أتمنى لو أسكن بين أعماقه وجذوره إلى الأبد.
 كل يوم في غيابك سأنتزع خصلة منه وألقيها في البحر حتى تعود.

وأمام دهشتي أضافت :
 لو أطلت الغياب ستعود إلى امرأةٍ بدون شعر .
لكنها يا صديقي أطالت شعرها وأسلمت جسدها لبحر من اللذة الآثمة في هذه المدينة التي التجأت إليها خوفا وهربا من عذاباتي الكثيرة ، فأسلمت براءتي للبحر ، وأوغرت صدر حبيبتي ضدي ، ووضعتني في طرق الضياع .
كانت نسرين تشتهي الانتماء لتلك القصور التي تمتد على الشاطئ مطلةً على البحر ، في كل حالاته ، كي تظل أمامه على مدار الأيام ، فانتمت لوعدٍ أغراها بذلك ، وهجرتني لأني لا أملك غير روحٍ ظلت عمراً تسافر إليها والبحر .

وصمتُ كأني انتهيتُ من حكايتي ، وساد بيننا ما يشبه الوجوم .. كنت انتظر أن يبدده هو ، لكنه لم يفعل ، بل ظل على حاله يعطيني أذنيه منذ البداية ، ما اضطرني للسؤال :
 ألا يحق لي الآن أن أشكر فيك شهامتك التي كأنها تمارس النكاية بي ..؟
كانت الدهشة تتسع فوق وجهه وتغرقه في ذهولٍ جارفٍ فأضفتُ :
 لم يكن اختيارك موفقا إذن .. كنت تظن أنك تصنع معروفا معي ، وأنت تحاول أن تضعني أمام البحر ، لكنها شهامةٌ مؤلمةٌ .. لقد أعدتني للحظة دهشةٍ وسعادةٍ لم تكفياني للعبور فيهما .. بل لقد وضعتني في لحظات الألم والندم .

خرج من صمته دون مبالاةٍ بالألمِ والندمِ اللذين وضعني فيهما أو هكذا بدا لي :
 هل التقيت بنسرين بعد ذلك الوداع ..؟
 نعم كان ذلك عند البحر .. كنت قد عدت لأجلها لأجدها قد هجرتني للمرة الأخيرة ، وكانت خطوةٌ واحدةٌ تفصلني عنها ، لكنها كانت كاتساع البحر ، ويومها دست أناملها في الماء والطين نكاية بي ، لقد اختارت قدراً يليق بها ولا يليق بي .
 وبعد..؟ ... قال مطالباً إياي بالاستدراك.
 قلت لها من الكلام ما جعلها تقف مشدوهةً من الذهول والألم ، وتركتها نادماً على عنوان براءتي الذي كانته ، وعلى طفولة كانت هي أجمل تضاريسها ، وعمرٍ مضى في الحزن عليها .
 والبحر ...؟
 البحر يا رفيقي صار آخر عناوين خيباتي ، هو الذي سرق عنوان براءتي وأهداها لمدينةٍ من اللذةِ الآثمةِ والخطيئةِ ، لقد ألقيت فيه كل هدايا نسرين وهدايا النساء اللواتي علقن بذاكرتي ، أو مررن بجسدي ، وتركته وقد بدا كأنه يبتسم لي ولها في شماتةٍ وحقد .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى