الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم هدى الدهان

البرقع

أحْكَمَتْ تثبيت نظارتها فوق عينيها.. تذكّرَتْ عباراته التى كان يكررها دوما حين يعجز عن فهمها.. أنها تجيد الاختباء خلف أقنعة تنسجها هى..

"إن هذه الأقنعة هى محاولة ذكية منكِ للاحتفاظ بمسافة أمان بينك وبين الناس. ربما لتجبرى الآخرين على التراجع تلك الخطوة التى لا يُسْعِفُكِ وقتك أو ظروفك بالتراجع بها.. أردتُ أن أقول أن هذه الأقنعة هى محاولة ذكية منكِ للاحتفاظ بمسافة أمان بينك وبين الناس.. لكنك فى نظرى أجمل وأنقى وأصفى وجهاً وروحاً من كل أقنعتك"

نعم.. إنها تجيد الاختباء خلف أقنعة شتى تُحَصِّنها من الآخرين.. ولكن هذه المرَّة كان هو من يحتاج للاختباء منها.. ضحكت فى سِرِّها.. فى سرها فقط وخوفاً من أن تظهر على ملامحها اثار فرحتها به زمّت حاجبيها وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى ورسَمَتْ على لامحها أمارات الجِدّ لتزداد صرامة أمامه.. أخبرها أنه يريد أن يعترف لها.. وأنه سيعترف.. لا بل إنه ـ فى ارتباكِ وتلعْثُمِ طفلٍ يتهجّى الكلمات لأول مرة.. يعترف الآن بحبها.. وأنه يذوبُ ـ كما تذوب قطعة الثلج فى راحة اليد ـ هوىً إليها.. وأن كل ما فعله ليثبت لها العكس لم يُجْدِ نفعا ولم يصدقه فيه احد واولهم هو.. وأنه أثقل عليها بميتافيزيقيات الطبيعة ومحاضرات الفلسفة وقرأ عليها صفحات من كتب الاجتماع فى محاولة لإقناعها بأنَّ مابينهما ليسَ حُبّاً.. وإن كانَ كذلك فهو حُبٌّ محكوم عليه ألاَّ يتنسّمَ الهواءَ أو يرى النورْ.. وأنه بذل جَهداً يماثلُ جَهْدَ طالب الدكتوراه الذى أفنى زهرة شبابه فى التنقيب ببطونِ الكتبِ والمراجعِ وحصادِ الفكر الانسانى عن كل ما يثبت أنه لايمكن لأى منهما أن يرى العالم فى عيون الآخر.

إعترف لها بأن هذا كله كان مضيعة للوقت.. الوقت الذى لم يبق منه أكثر مِمّا التهمته السنين.. فلا يمكن أن يحيا الإنسان نصف قرن آخر ليختار دربه من جديد.. استمتعت وهى تستمع له ودُهِـشَ.. أول مرة تستمع له.. كانت دوما تقول له ما تريد وتأمره فيمْتَثِلُ طاعةً.. مَرَّة قال إنها لو كانت تخدم فى الجيش لاستطاعت بفضل طبيعتها العسكرية تلك الارتقاء الى منصب تحسد عليه.. فى الحقيقة ليس هذا ما تتقنه فقط.. فإذا تباطأ أو تلكَّأ تُلَوِّحُ له بيديهْا فى تهديدٍ واضح بأن تستخدم الأيدى والأظافر والأسنان وكل ما حباها الله به من أعضاء جارحة لإجباره على تنفيذ ما تريد.. لا يهم أين ينتهى هذا التهديدُ بالرَّكل والعضّ.. فى السرير أم بجلسة على فنجان قهوة لمصالحتها هى طبعا وطلب الغفران والتعهد بعدم العودة لمثل ماكان (وهى نادرا ما تتذكر ماكان ذنبه أصلا) المهم أن ينفذ ولا يناقش.. ورجل فى مركزه لا تفارق الربطة عنقه والخمس لغات التى يتقنها حديثه لا يمكن أن يظهر أمام الآخرين ـ والأهم الأخرياتـ بخربشةٍ على الوجه مثلا او آثار عضٍّ على الرقبة.. تذكرَتْ.. مرة كان مسافرا وأصيب بتشنج عضلى أقعدته آلامه عن العمل أياما وكانت تفصل بينهما أميالٌ وأميال.. مازحها قائلا انه لم يفتقدها ابدا كما وهو مريض الآن حيث أنه بحاجة إلى قرصات يدها القوية التى تترك بقعا ملونة تذكره بلوحات الفن التجريدى وأنه أحوج ما يكون إليها وهو غريب هناك لتزيل ما به من ألم بقبضتها القوية.
عادت إليه بالتفاتة من رأسها وهى تستمع إلى بقية اعترافاته..لا يَهُمُّ ما فاتها فهى تعرفه كما تعرف الأمُّ أنَّ فى أحشائها وليدا يريد أن يرشف من رحيقها هى ليتسلح به قبل أن يخرج إلى عالمهما..

أحست به وبحبه.. وبقلب الأم غَفَرَتْ له صَمْته وادّعاءه ولامبالاته طيلة هذا الزمن.. وصمتت.. أحسّت أنها أمه بالفعل وهى تستمع لما يبوح به.. أحسَّتْ أنها أمٌّ تدخل غرفة ابنها المراهق الذى بدأ يخطو أولى خطواته ليكون رجلا.. و.. أول خطوات الرجولة عند الرجل أن يكذب.. أحست أنها سكنت تلك الغرفة فى فكره منذ زمن.. سَكَنتها وهى تشمُّ رائحة دخان السجائر التى ينفثُ لوعته فيها و يخفيها عن أنظارها ورائحة العطر الذى يرشه ابنها الحبيب بعد كل سيجارة يُدخّنها حتى لايفتضح أمره.. لا يعلم أنها تتسلى و تتلذذ أكثر حين يخافها.. وحين يكذب ويخفى أشياء وأشياء وهى تعلم أن يوم الجلوس أمامها على كرسى الاعتراف قريب جدا وبلا ستار بين الكاهن والمعترف وها هو بين ذراعيها.

إدّعَتْ أنها متعبة الآن.. وأنها سوف تستمع له فيما بعد.. فمتعة المرء وهو يتذاكى ويجلس على منصة القضاء لاتعْدلها متعة.. ولن تفوتها.. لن تضَحّى بذرّةٍ من إحساسها بهذه المتعة وتستمع له مرة واحدة.
العجيب أنها هذه المرة لاتشعُرُ بالرَّغبة فى أن تشرعَ أظافرها وتكشفَ عن أسنانها.. مَهدّدةً.. مُتوعِّدة.. هذه المَرَّة تريدُ أن تضع رأسه على صدرها لينام كوليد أضنته ساعات الولادة العصيبة وآن له ان يغفو.. و.. ويحلم.

• حاشية خارج النصّ (حَوّاء):

مسَحَتْ على رأسه وأنهضتْه وهى تُحَدّثُ نفسها قائلة: قُمْ يامسْكين.. أى اعترافٍ هذا الذى جِئتَ لتُدْلى به بيْنَ يَدَى..؟! أحَسِبْتَ أننى لا أعرفه كما أعرفُ راحة يدى..؟! أنتَ لمْ تنْطقْ بجديدْ.. فقد قُلْت ماقُلتَه لى.. ألفَ مَرّة.. ومَرّة.. وبألْفِ طريقة وطريقة.. رأيته فى كل نظرة بعيْنيْكَ الذّابِلَتيْن.. فى كلّ خَلجةٍ من خلجاتِ نفسكِ المُعَذَّبة بُحبّى..فى كُلِّ زفرةٍ وتنهيدةٍ من صدْرِكَ المُشَبّعِ بعِطْرى.. فى كلّ دَقَّةٍ من دقّاتِ قلبكِ المُثْخَنِ بهواى.. لكننى ـ بكُلّ غرائز الأنثى الخالدة وغرورها وكبريائها ـ أرُدْتُكَ أن تأتى إلى زاحفاً.. وأن تَْمْثُلَ بيْنَ يَدَى جاثياً على رُكْبَتيْكَ وتعترفَ بحبى.. وبأعْلى صوْتِكَ.. ليكونَ إعْلانَ حُبٍّ للعالَمِ أجْمَعْ.. حتى ولولَمْ يَسْمَعْه أحَدٌ غيْرى.. أرُدْتُكَ فقط أن تُسْقطَ عن وجهكَ أقنعة الزَّهْوِ الكاذب.. والخوفِ الزائف.. وتَرْتَدَّ طِفْلاً نقيّاً مُتحَرِّراً من تُرّهاتِ الكبارِ وهواجس خوفهم وأكاذيبهم الجبانة..!!.

• حاشية ثانية خارج النَّصِّ أيضاً (آدم):

نهضَ على قدميْه ونظَرَ إليْها بعيْنيْنِ ذابلتيْن ولمَحَ ابتسامة الظَّفَرِ على شفتيْها الجميلتيْن، وهو يُحَدِّثُ نفسه قائلاً: أجلْ أيتها الأنثى الخالدة.. أعرف ماتعرفينَ وأكثر.. أعْرفُ أن اعترافى لكِ لم يكُن أكثرَ من تحصيلِ حاصل.. لكنّكَ أعْلَنْتِ على الحَرْبَ.. فأعْلَنْتُ أنا عليكِ الحُبّ.. فمن منّا كسبَ هذه المعركة الخالدة بين آدم وحَوّاء..؟!. أنتِ لم تأخذى منى أكثرَ مما كانَ فى يدكِ بالفِعْل.. ولم تَسْمَعى منى أكثرَ ممّا قُلْتُه لكِ ألفَ مَرَّةٍ ومرَّة.. فقط بصوْتٍ مسْموعٍ هذه المرّة.. لا بأس.. أمّا أنا فقد قَلّمْتُ أظافركَ.. وشَذّبْتُ أسنانكَ.. وحَمَلْتُكَ أيها الكائن الجميل.. الخفيف.. الذى لا تُحْتَمَلُ خِفّته.. أيّها العُصْفورُ الطّنّانْ.. ووضعتُكَ بالقفص الذّهبى.. لم أغْلُق القفص.. لأننى أعرفُ أنك الآن لم تَعُدْ قادراً على التحليقِ بعيداً عنّى.. وإذا فَعَلْتَ فأنتَ عائدٌ لامحالةَ إلى قفصِكَ الذّهبى.. بإرادتك.. واختيارك.. والأهم من هذا كُلّه أن مسافة الأمان بيننا قد تلاشتْ فلم يَعُدْ بوسْعكَ أن تتراجع تلك الخطوة المعهودة.. التى تُبْعِدُكَ عنّى وتُتيحُ لكَ أن تَنْشبَ أظافركَ فى عنُقى.. وتغرسَ أسْنانكَ فى صَدْرى..!!
منْ منّا كسبَ المعْركة ـ إذَن ـ أيها الطّائر الطَّنّانْ..؟!

حاشية ثالثة خارجَ النصّ أيضاً (شهادة قارىء مُحايد):

أيها السّاذج الغِرّ.. تسأل من الذى كسبَ المعركة..؟! حسنٌ.. سأجيبك حتى لو كان القوْلُ يُسْقطُ عنكما معاً أقنعة الزهو الكاذب ويَسْلُبُكما لذّة الظّفرِ ومتعة الانتصارْ.. الذى رَبَحَ المعركةَ هو حُلْمُكما الوليد الذى خَرَجَ الآن ـ عَبْرَ هذا المخاض العسيرـ إلى النور ليصبح وليدكما الحُلْم.. حاملاً نصْفَ ملامحكَ ونِصْفَ ملامحها.. هل هناك ما هو أجملُ وأصفى وأرَقُّ من وجْه وليدٍ يتطلَّعُ إليكما بعَيْنَيْن دامعتيْن بالفرَح.. مُمْتلئتيْن بنظراتِ الامتنان لكما.. لأنكما منحتماه أعظمَ نعمة فى الوجود.. نعمة الحياة..؟!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى