الأحد ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم محمد محقق

البعد الرؤيوي في «توازيات»

على بوابة المجموعة القصصية ’’توازيات’’ يلاحظ أن العنوان إشكالي وقائم على التناقض في الرؤى والجماليات، يجعلك تقف سائلا عن مفتاح السر للدخول إلى أركان نصوصه والتي أثقن صاحبها اللعب بالتقنيات السردية، هذا السؤال الذي يكشف عن عالم عجائبي غرائبي حيث صورة الإنسان الذي يعيش ازدواجية الأفكار والتصرفات في عالم غامض بالأسرار، استطاع السارد أن يرصد ألغازه بمخيلة خلاقة ولغة مكسوة بالتفاصيل مبحرا في ثناياه المهمشة الناتجة عن الإخفاقات التي تعتريه وتجعله في طي النسيان حيث لا يبقى منها سوى الحكي عن معاناته ومكابداته اللانهائية، وكل هذا الفضاء المسكون بالرحيل والحركة والصرخات والكلمات والأحزان وتداخل الأزمنة فيما بينها والذوات والأشياء ماهو إلا ترجمة لهذا الواقع المرير الذي يكشف أن المتاهة أشد عمقا وأنها بدون بوابة للعبور إلى معرفة أسرارها ومكنوناتها، نسجت بأسلوب قصصي ذي حس درامي مميز بطريقة غير مباشرة عالج فيها تداعيات الإبحارو الغوص في النفوس التي عاش أصحابها مع مفردات الاحتلال المتنوع وتفاصيله اليومي، محاولا وضع يده على جراحات نازفة تسببت بها تلك اللحظة واشتراطها اللحوح.

والذي يمكن أن أشير إليه من مفهومي لهذه القصص أنها توحي بأبعاد كثيرة تتمثل في( السفر والغربة والمنفى/ الهجرة، الذكريات،الوحدة، الهروب..) كعمق إحساسي بشقاء البشر وعذاباتهم وطموحاتهم وسعادتهم المسروقة حين يكتشف الإنسان عدم توافقه بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي والذي يدفعه بكل طاقاته إلى التمرد عليه.

والجميل في هذا السارد/ السيناريست إن صح التعبير قد استبدل المنوال في الحكاية، حيث انتقل بين التواريخ بلا حواجز مبتدئا تارة بالمستقبل و مرة أخرى من النهاية وعائدا أدراجه مستغنيا عن المتابعة الشرطية للحدث وللظرف في المقدمة وإبقاء الأحداث فاترة أو متباعدة وقليلة، متعاملا مع المطلق والدائم الأبدي في الزمان واللانهائي في المكان.

والمجموعة تمتاز بالحضور الرؤيوي ذات الامتدادات العباراتي الفسيح والذي يكشف عن إبداعات ينساب عبرها تعارض رغبة الآنا وحركة العالم مما يولد بنية تصادمية بينهما..
ففي قصة (كبريث أحمر) التي تجسد الإنسان الذي يعاني انفصاما في الشخصية وتنتابه نوبات من التشكك من وقت لآخر، وهو لغز غامض لا ينفك عن ادهاشنا بغرابة سلوكياته وغرائبية أفعاله التي جعلت الآخر يحار في ترجمتها ومعرفة أسبابها، فانتحار البطل وهو دافع تدمير الذات / خسران حياته، علامة تكشف بوح النفس بالهزيمة وهي تسارع حركة العالم نحو الفداحة التي لا تحتمل، لأنه يرى في ذلك خلاصه ومنجاته لأنه الحل الوحيد المتاح إليه والهروب إلى الأبد من عالم تسوده فوضى عارمة واضطرابات لامتناهية لهذا كان على الجسد أن تتعطل إمكانية حركته وأن لا يصبح عبئا على التاريخ..

والجميل في هذه القصة هي أنها إشارة إلى المجتمعات المقهورة التي تعيش شخصية انشطارية ساعدت في تفكيك وجودها وتفسيخه وانحلاله وفقدان السمات المساعدة في إنقاذها من هذه الأخطارعلى المسرح العالمي الأوسع التي تضعها في تبعية

مطلقة ودائمة الصيرورة فتنفي بذلك وجودها وتمحو آثارها... والمغزى التربوي المتوصل إليه هو الحفاظ على الذات العربية ومواجهة التحدي الغربي من كل إشكاليته..

وفي قصة ’’ الكتاب ’’ أو ذكريات لا تبلى’’، فالسارد يبحر بالقارئ عبر بوابة ملحمة بطولية كانت نهايتها تراجيدية حيث الخيبة للذات المحاربة،’’ الرجل / الجندي، والتي لاتفارق مخيلته، هذه الانتكاسة التي أصابته وعزلته عن العالم وأغرقته في ذكريات ماضوية جعلته ينطوي على نفسه وينمي نظرته التشاؤمية لواقعه المنحط، لولا حضور روح الزوجة التي تلعب النور في تهدئة هذه الأحاسيس حين سعت لوضع حد لطاحونة التوثر والمعاناة والخصوصية الزائدة المليئة بالقلق آخذة بيده إلى بر الأمان..

والمتأمل للقصة يكشف عن معنى يدل على حنين رومانسي، لم يفلح البطل / الإنسان، في كتمانه وهي حقيقة المؤانسة، وحقيقة الخلق والإبداع والقراءة، الشيء الذي يمكن النفس البشرية من تأكيد ذاتها أمام العدم ويضمن لها النجاة من الهاوية
والبعد الرؤيوي الذي يمكن استخلاصه منها يتمثل في الحفاظ على الأسرة النواة الأولى للمجتمع و التحلي بصفات الإخلاص والوفاء والتضحية والحماية ..

وهنا تبرز حدة المفارقة حيث عنصر المفاجأة الذي يثيرالدهشة عبر إسقاطات نفسية عمقت أجواء الذات /الأسرة، وغلفتها بالكآبة والوحدة والغربة الناتجة عن علاقة سلبية بينها وبين واقعها /المجتمع...

ومن هنا يتجلى لنا الهدف الأسمى من القصة وهو على الإنسان أن يخلق عالمه عبر الشعور بمحبيه وإن غابوا عنه لأن ذلك يشعره بوجوده ويجتاز به مشاعر الفقد والإحساس بالوحدة، مبرزا أهمية المرأة ودورها الفعال حاضرة وغائبة لأنها أقدر مخلوق على التحمل وأنها النور والصوت المشتعلان في قلب الزمن الممتد إلى ما لانهاية فهي بطلة كاملة لما تمتاز به من أنوثة وصبا ونضج وأمان...

والهدف الأسمى والمغزى التربوي من القصة هو التحرر من رهين الزمن الفارط، وعدم العيش في الحاضر بإحساس الماضي لأنه يولد الشعور بالإكتئاب ويجعل النفس مشدودة إلى أحداث واقع خارج إطارها الزماني الحقيقي كما أنها دعوة صريحة إلى التحرر من المستعمر وتأكيد النزعة التحررية الساعية إلى التخلص من وطأة الاتباع لموروث التخلف..

ويتابع السارد رحلته متنفسا هواء مدينة العاشقين يحكي مأساة العلاقة المقدسة كالتي سجلها التاريخ في صفحاته الخاصة بالإخفاقات العشقية ’’قيس وليلى’’ مضرب المثل في قمة التفرقة والتعاسة والشقاء للحب / الحياة، جراء عوامل متداخلة فيما بينها في واقع مترهل تتقمصه الأعراف والتقاليد، في صورة تظهر مدى التحفظ والمضايقة والمهانة في سبيل عاطفة الحب الممنوعة والمرفوضة بسبب تعنت الأسرة / المجتمع والذي به قد تضيع أرواح بريئة جمعت بينها آصرة المحبة والمودة والألفة، فلا يبقى لها سوى الذكريات الأليمة المتشابكة التي تراودها في كل حين...

وهنا إشارة للبعد الرؤيوي للسارد المتمثل في الحفاظ على مشاعر الإنسان والإعتراف به ككائن له حقوقه ورغباته كما أن هناك دعوة صريحة وواضحة إلى العمل على معالجة هذا الأمر بهدوء وحكمة واعتماد أسلوب الإقناع بطرق سليمة وعقلانية وفي ذلك حفاظ على عدم الوقوع في ما حرم الله من فساد أخلاقي / الزواج خارج إطاره الشرعي، والذي ينتج عنه انحلال عائلي مما يولد مجتمعا لبناته هشة ومضطربة وغير سوية....

ويظل السارد سابحا في ذكريات بطله / الإنسان، وضياع فرصه التي قد لاتتكرر في الحياة نتيجة عوامل متنوعة تتنوع بتعدد المواقف والمراحل المتاحة أنذاك فيدخل في دوامة القلق والحزن والألم...

والبعد الرؤيوي الذي ينبثق من القصة هي إنقاذ المجتمع من إخفاقاته وعدم استغلال فرصه التي أتيحت له كي يندمج ويتحدى العولمة عن طريق بلورة مشروع نهضوي شامل يقتضي تجديدا ديمقراطيا شعاره الحداثة والحرية، دون المساس بالمقدسات التي تضبط قوانينهما حتى يتمكن له الخروج من مأزق التخلف والفشل الذريع..

وأما في قصة ’’اعويشة ’’ التي تجسد المرأة المهاجرة جراء ظروفها المتعددة والمتمثلة في الهروب من واقع لايقدر شخصيتها خاصة إذا كانت ظروفها لاترقى إلى مستوى مسموح به، حيث تتجسد الدونية والإحتقار والطمع اللاأخلاقي فيها مما يولد جراء هذه الحالة النفسية وحالات الاكتئاب ضغطا نفسيا ودافعا قويا للهجرة مهما كانت نتائجها وثمنها بحثا عن عمل في بلد آخر يضمن لها استقلاليتها وتحررها من التبعية المادية للمسؤول /(الرجل، الأب، الأخ..) ، وكذا لبناء علاقات اجتماعية مختلفة ولإرضاء ذاتها الطموحة إلى تغييرحياتها دفعة واحدة...

كما تعالج مسألة التساول والمحاسبة ’’من أين لك هذا’’ الرائج في عقول العارفين للحالة الأولى للشخص المملق.. وفي مقابلها تكمن مأساةالشاب(قصة العودة) الذي يتزوج بامرأة في سن أمه طمعا في انتشائه من دوامة الفقر والغربة دافع ثمن ذلك شبابه وحبه لمن ظلت تنتظره سنوات عدة وهما يحلمان ببناء بيت الزوجية...

وهنا يبرز البعد الرؤيوي من القصة والمتمثل في الدعوة الصريحة في العمل على توفير فرص عمل تحمس هؤلاء الباحثين والباحثات عن الإستقراروإحساسهم بالفاعلية والأمل والإنتماء إلى وطن متشبت بأبنائه وبناته، مع إضفاء روح المواطنة والحفاظ على النساء حتى لا يقعن فريسة الإستغلال الجنسي بين أيادي أباطرة التجارة بالبشر في النوادي الليلة..

بالإضافة إلى معالجة نظرة الشك التي تخالج من تسول له نفسه وضع الآخر موضع تساؤل مشبوه جراء تغيير وضعه المأزوم إلى آخركله يسرورفاهية عن طريق التوعية و الموعظة الحسنة والدروس الدينية.. وكل هذا سعيا إلى خلق مجتمع متماسك الأطراف قوي البنيات المتعددة..

ويتابع السارد سفره عبر قصصه المتبقية ليؤجج مسألة الهجرة التي أخذت منه زمنا ليس باليسير لينقل إلى القارئ أن الكل أصبح يرى في أروبا أنها هي منحى الخلاص وبوابة أمل الشباب الهارب من واقع لم يعترف بقدراته ولم يحترم مشاعره وطموحاته وكذا حرمانه من بناء أسرة وتحقيق آمانيه المتشعبة...

والقصص المتبقية ( ’’ العين في العين ’’ولكنها لاتعرف شيئا ’’ و’’لعنة التذكر’’) توضح مشكلة الهجرة / الرحيل، الذي يؤدي إلى الاصطدام بواقع مغاير يؤثر في الذات التي قد تصاب بإحساس الاجتثات واللاستوطان..

والبعد الرؤيوي الذي تستخلص منه الحكمة أن الوطن يجب أن يحمي مهاجريه وأن يوفر لهم ظروف عيش تليق بهم من خلال المتابعة والعلاقة الدولية المبنية على أسس والعزة والكرامة والحقوق المشروعة..

وأما في قصة ’’مطرالوصل’’ فيعرج السارد عبر بطليها(مربيل/ أحمد) إلى تنوير الذات من السقوط في فخ الارتباط بالعدو وإن ظهرت لك محاسنه ومفاتنه وإيجابياته، والقصة تحكي عن علاقة غرامية بين شاب مغربي وفتاة إسبانية فرقت بينهما ظروف شتى فلم يكتب لهذه الرابطة النجاح والتي جعلتهما يغوصان في بحر الذكريات سنين طويلة حتى اجتمعا من جديد بعد فوات الآوان..

والمستنتج من القصة يكمن في العلاقة بين المغرب واسبانيا / العلاقة الدولية، والتي تتجلى في مسألة المفارقة والتناقض اللتين تحتمان الديبلوماسية المألوفة..حيث يتجلى النفوذ الإقتصادي الإسباني للمغرب ( المبادلات التجارية، مداخيل السياحة، الدين الخارجي..) الشيء الذي يثبث التفوق العرقي الشمالي على الجنوبي المتخلف في كل شيء وفق المفاهيم الغربية جراءالهيمنة المطلقة له لفترات تاريخية طويلة على أجزائه..

والبعد الرؤيوي يتجلى في كيفية التعامل مع هذا الجوارالذي يفرض وجوده سعيا لجعل كفة ميزان القوى تتعادل ونزع تلك الذكريات السيئة التي تحتفظ بها إسبانيا ’’ الحضارة الغربية المسيحية’’ عن المغرب ( الحضارة العربية الإسلامية) ولرفع هذا التوثر وهذا التعقيد الذي تتداخل فيه مسلمات الجغرافيا بحتميات التاريخ ورواسب الماضي بحسابات الحاضر على حد تعبير صمويل هاتنغتون..

وجمالية المجموعة القصصية ’’توازيات ’’ لكاتبها المغربي محمد الشايب والتي صدرت عن دار القرويين في 72 ص من القطع المتوسط بلوحة الفنان محمد بنعمري ب 10قصص، عن منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرالقصيرة تتجلى في احتوائها على أكثرمن تجربة وصوت اأنينها غلب على طابعها المعبر عن كثرة الهموم والصبوات وشدة الشكاية بأسلوب يتميز بالتعبير الجيد واللغة العالية والصورة المتماسكة، كماأن العلاقات بين الأشياء وأوضاعها علاقات ضدية تستقبل كل التناقضات وتؤلفها في نسق مرتب ومتناغم ومشاهدها مفعمة بالتفاصيل البصرية في حين منح تناوب الرواة وتداخلهم النصوص آفاقا ووسع من دوائر التأويل للوقوف على الأحداث المعاشة والمخفية، وفي اعتماده لتقنية الاسترجاع التي تقوم بتفتيت الزمان وتكسير رتابة خط سيره جعل الإيقاع متكاملا دون إغفال المكان الذي جعله يتلون بلون الحدث ويعمل على استكشاف أبعاده وآفاقه المختلفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى