الجمعة ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم أحمد الخميسي

البكاء على الأشرطة الأمريكية

لم أر في حياتي ندابة مآتم في ثوب ملون فاقع، ولم يسبق لأحد أن رأى جامع قمامة في رداء يفوح بالعطر كالفل، ولا شاهد أحد " ميكانيكي" سيارات بيدين خاليتين من الشحم . ذلك أن كل عمل يفرض وسائله المحددة للقيام به، وهذه الوسائل ليست شكلا خارجيا يمكن فصله عن طبيعة الدور فهي تعبير عن جوهر وهدف العمل .

فليست هناك مهمة محزنة بدون دموع، ولا عملية جراحية بدون مشرط، ولا توجد مهمة نبيلة بدون لحظات صفاء أقرب إلي قصائد الشعر. إن الوسائل تكاد أن تكون العمل ذاته. وقد أدهشتني دهشة الأمريكيين وغضبهم بسبب التقرير الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز وجاء فيه إن المخابرات الأمريكية ( سي آي إيه ) أتلفت أشرطة تسجيل تثبت استخدام طرق غير مشروعة أثناء التحقيق مع المعتقلين في " جوانتانامو" أشهر معتقل للعولمة الجديدة حيث لا يميز الجلادون بين البشر بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة أو الانتماء القومي .

وأشارت الصحف بذلك الصدد إلي استحداث المخابرات الأمريكية لطريقة تعذيب تسمى " الإغراق بالمحاكاة " التي تغمر السجين أثناء التحقيق معه بالإحساس بالغرق! ويتم التحقيق مع السجناء المعزولين من كافة بلدان العالم بما فيها الصين بناء على برنامج سري للاحتجاز والاستجواب يسمح باستخدام وسائل مجهولة، وهو البرنامج الذي قالت عنه الناطقة باسم البيت الأبيض دانا بيرينو إنه " برنامج قاس وقانوني "، فجعلت من القسوة وليس العدالة جوهر القانون، وأقرت بأن القسوة هي جوهر السياسة الأمريكية التي تتشدق بالحديث عن حقوق الإنسان وتغمر أفراد منظمات المجتمع المدني في بلادنا بملايين الدولارات لمواصلة التشدق ذاته .

وقد بررت الحكومة الأمريكية إتلاف المخابرات الأمريكية لأشرطة التسجيل أثناء التحقيق بأن ذلك جاء لحماية هوية ضباط المخابرات المكلفين بالتحقيق من أي انتقام محتمل. لكن السيناتور الديمقراطي ديك ديرين رفض ذلك التبرير قائلا: " نحن نعلم أنه من الممكن وبسهولة إخفاء هوية المحققين من أي شريط فيديو ، لكن يبدو أن الأشرطة التي دمرت كانت تحتوي على ما هو أكثر من ذلك " .

وأكد السيناتور دوربان المعنى ذاته بقوله: " لاشك أن الشرائط كانت تحتوي على أمور مزعجة للغاية وإلا لما تم إتلافها ". ووصف كارل ليفين تبرير الناطقة باسم البيت الأبيض بأنه " مثير للشفقة "، أما السيناتور الديمقراطي أيضا إدوارد كيندي فصرح بأن: " إدارة بوش ضربت بقيمنا وبالقانون عرض الحائط على مدى السنوات الست الماضية " .

أقول لقد أدهشتني صحوة ضمير الديمقراطيين من أعضاء الكونجرس الأمريكي، وغضبهم، وحديثهم عن أن بوش ضرب بالقيم الأمريكية عرض الحائط ، واحتجاجهم الشديد، كأنهم لم يسمعوا من قبل عن معتقل أبي غريب في العراق! أو أن كل ما أغضبهم هو التحايل على القانون الأمريكي بإتلاف شرائط تسجيل، فانتهاك القانون عندهم هو المشكلة، أما تعذيب الناس في " جوانتانامو" فليس مشكلة طالما لم يتلف أحد أي شريط فيديو! كما لم تثير قلقهم التهديدات ألأمريكية المستمرة لإيران، وسوريا، ولبنان، وتدخلها في السودان، وحصارها لكوبا، وتلويحها بالقوة في مواجهة كوريا، ودعمها إسرائيل بكل الوسائل. المهم الحفاظ على " القانون الأمريكي "، لأنه أمر يخص "عظمة الأمريكيين" ويمثل اعتداء على حريتهم! أما الاعتداء على حريات الشعوب الأخرى فأمر يمكن التغاضي عنه!

أدهشني أيضا غضب ونفاق المنظمات الحقوقية مثل هيومن رايتس التي اعتبرت الأمر "تدميرا لدليل مادي"! كأن إنشاء معتقل كامل مغلق لا يسمح للمراقبين بزيارته أمرا كان يحتاج إلي أدلة على ما يحدث بداخله! ولم أسمع خلال تلك الحملة صوتا يحتج على احتلال أمريكا العراق، أو يحتج على القتل اليومي للفلسطينيين بدعم أمريكي، أو المجازر التي تنفذها القوات الأمريكية في أفغانستان. كأنهم يريدون " استعمارا" بالقانون وليس بانتهاك القانون! فلو أن الإدارة الأمريكية لم تتلف الشرائط، ولم تتحايل على القانون، لأصبح كل شيء ممكنا: الاحتلال، والتقسيم، والقتل. لكن المهمات تستدعي وسائلها، وقد كان التاريخ الاستعماري بأكمله ظاهرة عنيفة استدعت معها كل طرق القسوة والتعذيب ولم ترافقها قوانين أخرى غير الوحشية. إنهم يوافقون على المهام ويحتجون على طريقة تنفيذها، يؤيدون دور الندابة لكنهم يريدون لها أن تكون في ثوب ملون مفرح وهي تنعي القتيل!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى