الثلاثاء ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم بشير خلف

الثقافة البيئية..البعد الغائب

أصدرت رابطة الفكر والإبداع بولاية الوادي /الجزائر كتابها السنوي الذي يحمل عنوان: الثقافة البيئية..البعد الغائب، لمجموعة من الأساتذة المتخصصين في قضايا البيئة..الكتاب صدر عن دار " مزوار " للطبع والنشر بمدينة الوادي، يضمّ الكتاب مجموعة من المحاضرات لأساتذة من جامعات جزائرية من بينهم الدكتور محمد قماري..دكتور في الطب وباحث في اللسانيات وعضو في المجلس الأعلى للغة العربية، والدكتور لشهب بوبكر متخصص في الشريعة الإسلامية ذ، والدكتور أحمد زغب متخصص في الموروث الشعبي، والدكتور برحماني محفوظ متخصص في المالية العامة بجامعة البليدة، ولأستاذ عادل محلو متخصص في الأدب والنقد العربييْن وغيرهم من أساتذة من جامعات الجزائر، والبليدة،وغرداية، وعنابة، وبسكرة، والوادي.

الكتاب من الحجم المتوسط تبلغ صفحاته 284 صفحة تتضمّن: مدخلا لرئيس الرابطة، فكلمة السيد حسن مرموري مدير الثقافة لولاية الوادي،ثم كلمة السيد محمد حمدي مدير دار الثقافة بالوادي أين انتظمت الندوة الفكرية السابعة أيام:24،25،26 مارس 2008 جاءت في وقتها ذلك أن قضايا البيئة فرضت نفسها بقوة في أغلب دول العالم من بينها الجزائر التي أعلنت على لسان وزيرها للبيئة أن سنة 2008 هي سنة البيئة في الجزائر.

إن رابطة الفكر والإبداع بولاية الوادي إيمانا منها بأن الثقافة البيئية كوعي بأهمية البيئة في حياة الإنسان، وكسلوك حضاري لا ينفصل عن الحراك الشامل الذي يقوم به الفرد والمجتمع، وإحساسا منها برسالتها التثقيفية التوعوية فقد نظمت ندوتها هذه.. ضامّة جهودها إلى أنصار الدفاع عن البيئة، وضرورة حمايتها؛ حيث ينظر أنصار البيئة للعلاقة بين الإنسان والبيئة كعلاقة متداخلة حتمية وإجبارية، وذات تأثير لكليْهما، وبهذا المعنى لا يمكن النظر إلى الإنسان بمعزل عن البيئة، ومتابعة مشكلاته الوجودية بإهمال هذا الجانب، أو عدم الارتقاء لمستوى في التفكير يعطيه ما يستحق. إذْ أن هناك تفاعلا إيجابيا أو سلبيا بين السيرورة الاجتماعية-الاقتصادية والتوازنات البيئية الأساسية. ولا يمكن للمرء أن يكون جديا في تناول موضوع الحقوق الإنسانية، والرفاه، والسعادة دون أن يضع نصب عينيه النتائج الكارثية لبعض المشكلات البيئية التي فرضت نفسها حديثا على الإنسان المعاصر أينما تواجد، وصارت تهدد حياته، وتدمر مكتسباته.

ولعل دخول ما أصبح يُعرف اليوم بالثقافة البيئية جاء محصّلة لغياب الوعي الفردي والجماعي في التعامل مع البيئة كوسط طبيعي تحيا فيه الكائنات بما فيها الإنسان، وكمحضن له يوفر له الصحة البيولوجية، والتوازن النفسي، والتوافق مع محيطه..هذه الثقافة غائبة لدى أغلب مواطنينا، وربّما يتحجّج البعض أنها مغيّبة من أطرافٍ بإمكانها أن تفعل الكثير من أجل حماية البيئة والمحافظة عليها..

في اعتقادنا أن الحفاظ على البيئة يبدأ من المواطن نفسه كتربية..كسلوكٍ مستمرٍّ في يومياته، فإذا كان الإسلام الحنيف هو ديننا، ونحن نمارس العبادات ليلا نهارا، وهذه العبادات تستند إلى الطهارة الشاملة، أفأحرى أن يكون الفرد المسلم أوْلى من يسلك هذا السلوك، ويتبنّى ثقافة الحفاظ على البيئة دون الحاجة إلى من يحسّسه في ذلك سواء بالتلميح أو التصريح.

وقد توجت الرابطة عملها بإصدار كتابها السنوي بعد الندوة بشهر ونصف..كتاب قيّم بشهادة كلّ منْ تسلّم نسخة منه، واطّلع عليه..الكتاب تحت عنوان: الثقافة البيئية..الوعي الغائب.

الكتاب تمحورت المحاضرات فيه كالتالي:
ـ المحور الأول..الإنسان والبيئة: الإنسان والبيئة تناغم أم تصادم؟ ـ التلوث اللساني ودلالاته الاجتماعيةـ الإنسان والبيئة من منظور سيكولوجي ـ الإعلام والبيئة.
ـ المحور الثاني..البيئة في الإسلام: حماية البيئة في التشريع الإسلامي ـ البيئة في الإسلام ـ البيئة والمذهب الصوفي.
ـ المحور الثالث..الثقافة البيئية: البيئة الموروث الشعبي ـ الثقافة البيئية..المهام والأبعاد ـ هل أنت مثقف بيئيا؟.
ـ المحور الرابع..السياحة البيئية: السياحة البيئية في ظل التنمية المستدامة ـ السياحة البيئية
ـ المحور الخامس..الرؤى الاقتصادية والاجتماعية للبيئة:واقع البيئة في الصحراء،وادي سوف نموذجا ـ التنمية والبيئة ـ أدوات تسيير البيئة في القانون الجزائري ـ التنمية المستديمة في الجزائرـ البيئة والفقر.
ـ المحور السادس..حماية البيئة: الآليات الاقتصادية لحماية البيئة ـ استراتيجية حماية البيئة.
ـ المحور السابع..التربية البيئية: التربية البيئية بين تحديات الواقع ومناهج التعليم ـ التربية البيئية لتلاميذ المدرسة الابتدائية ـ التربية البيئية بين المفهوم والغاية.

ركّز رئيس الرابطة في كلمته المدخلية على المشاكل التي باتت تُـؤرق العقلاء، والحريصين على سلامة الحياة على كوكبنا الأرضي أيّامنا هذه: قضيةُ البيئة، وعلاقةُ الإنسان بها، وكيفية معالجتها بما يضمن للإنسان عيشا كريما آمنا من كلِّ تهديد يترصد حياته وصحَّته وغذاءه ومحيطه بشكل عام.

ومشكلُ البيئة وليدُ التطوُّر السريع الذي شهدته البشرية في القرن العشرين كما هو معروفٌ، وإفرازاتُ الثورة الصناعية، وتنامي المدن السريع، فضلا عن السباق في مضمار الصناعات العسكرية والأسلحة الكيماوية، والمفاعلات النووية، وغيرها مما تدعو إليه ضرورة تلبية الحاجات المتزايدة للملايير المتكاثرة من سكَّان المعمورة.. لهذه الأسباب دقَّ العقلاء ناقوس الخطر، لِـما أصاب توازنَ الحياة من خللٍ خطيرٍ، أضحى يهدِّد الحياة والأحياء على كوكبنا الصغير.

وتعني كلمة "البيئة" بمفهومها العام، الوسطَ أو المجالَ الذي يعيش فيه الإنسان فيتأثر به ويؤثر فيه،فالمنزل بيئة،والمدرسة بيئة،والشارع بيئة،والحيّ بيئة،والمجتمع بيئة،والمصنع بيئة،والعالم كلّه بيئة،وهكذا... وقد تتَّسع البيئةُ لتشمل الأرضَ التي تقِـلُّنا والسماء التي تُـظِـلُّنا، وقد تضيق لتخصَّ بيتَ الإنسان وموقع عمله وسكناه، وهي باختصار "كلُّ شيء يحيط بالإنسان.

وتتجلَّى أهميـَّة البيئة في كون الإنسان ذا علاقة وطيدة بمحيطه، فمنذ فجر التاريخ والإنسان يسعى لتطوير حياته،واستغلال ما حوله بما يحقِّق رغباته ويلبِّي حاجاته، مترقيـًّا من الضروريات إلى قمة الكماليات..وفي سبيل تحقيق هذه الغايات حدثت آثارٌ سلبية لم تكن في الحسبان، لم يتفطَّن لها الإنسان في الإِْبـَّان، ثم تجلَّت مخاطرُها للعيان، فتداعى المخلصون لإنقاذ الوضع قبل فوات الأوان.

وكانت أبرزُ آثارِ تدهورِ البيئة من خلال تدخّل الإنسان، مشكلةَ التلوُّث بكافَّة أنواعها وتجلياتها، ومشكلةَ استنـزاف الموارد الطبيعية، ومشكلةَ التصحُّر.هذا ويُفرِّق الباحثون بين مفهوم البيئة، ومفهوم النظام البيئي؛ فالنظام البيئي هو وحدة بيئية متكاملة تتكون من كائنات حية، ومكونات غير حية في مكان معين؛ يتفاعل بعضها ببعض وفــق نظام دقيق، ومتوازن في حركة دائبة لتستمر في أداء دورها في إعالة الحياة، ولذلك يُـطلق على النظام البيئي من هذا المنطلق: نظامُ إعالة الحياة.

وتُـعـدُّ مظاهرُ هذا الخلل من أهم القضايا التي تُـناقشها أدبياتُ البيئة في الوقت الراهن. على سبيل المثال: قضايا التلوث البيئي- الماء والهواء والتربة- والتلوث الصوتي- الضوضاء- وأخطار انقراض بعض الكائنات الحية، كما تُطرح بشدة قضية ثقب الأوزون إشارةً إلى تأثيرها في تغير المناخ.

وهنا تجتمع إرادة الخيّرين في الدفاع عن كوكبنا هذا من خلال:
1 ـ الدفاع عن البيئة وحمايتها.
2 ـ النظرة الكلية للكون.
3 ـ استدامة التنمية، ورعايتها للبيئة
4 ـ الدفاع عن القيم: حيث يتمّ التركيز على القيم التي يعتنقها الأفراد في تعاملهم مع البيئة من حرصٍ على حياتهم، وعلى حيوات الأجيال القادمة.

إن الثقافة البيئية تهتمّ بالتوعية، والتحسيس المستمر لجميع الأفراد مهما كان عمُرهم،ومهما كان جنسهم،وأينما تواجدوا بأهمية البيئة،والمحافظة على المحيط من أجل الحفاظ على صحّة الإنسان وكذا وجود وبقاء الكائنات الأخرى سليمة حفاظا عليها كمكوّنٍ رئيسٍ وهامّ في الطبيعة من جهة،وحفاظا على التوازن البيئي من جهة أخرى..ولا تتوقف الثقافة البيئية عند هذا الحدّ؛ بل تهدف إلى أن يتمتع الأفراد بجمال الطبيعة وسحْر المحيط ممّا يؤثّر على التوازن النفسي لديهم فتكون علاقتهم بخالق الطبيعة، ومبدع جمالياتها قوية متينة،وعلاقتهم فيما بينهم علاقة محبّة ووئام، وتعاون في إطار قيمٍ سامية تِؤطّرها روح المواطنة.

ولئن كانت هذه من بعض أهداف الثقافة البيئية،فإن التربية البيئية التي عادة ما تكون موجّهة إلى المتعلمين في كل مراحل التعليم،وإلى الشبان في دُور الشباب والمراكز الثقافية،وعناصر الكشافة،وفي المساجد،فإنها تهدف إلى محاربة الجهل بشؤون البيئة، وإلى إعداد أجيال من المتعلّمين الواعين بمشاكل البيئة،والقادرين على المشاركة في حلّها.

ومن المبادئ التي يتفق العلماء على ضرورة تحقيقها في برامج التربية البيئية:
1 ـ أن تكون عملية مستمرّة طوال الحياة،وفي المدرسة،وخارجها.
2 ـ أنْ تُدرّس البيئة كَـكُل،بما فيها من مكوّنات طبيعية،ومكوّنات من صُنْع الإنسان.
3 ـ أن تكون التربية البيئية البيئية مسؤولية كلِّ الجهات القائمة على أمور التربية والتعليم،أي التربية المباشرة وغير المباشرة،وعلى كلّ المستويات.
4 ـ أن تكون التربية البيئية متعددة الاتجاهات، فتشملَ كل المجالات والعلوم المتصلة بالبيئة: اقتصاد،سياسة، جغرافيا،صحة،علوم طبيعية،قانون،إدارة...
5 ـ وحيث أنها سلوكٌ تطبيقي أساسا، ينبغي أن تكون أكثر اقترابا من منظور صوْن البيئة، والمساهمة في إنعاشها بأعمال تطبيقية داخل المؤسسة التعليمية،وخارجها كالمساهمة في عمليات التشجير،والعناية بالزهور في الحدائق، وعمليات تنظيف المساحات الخضراء، والحفاظ عليها وصيانة محيطها...

إن ترتيب المحاضرات في الكتاب راعى التكامل والترابط بينها من حيث طرْح الإشكالية في المحاضرة الأولى للدكتور محمد قماري الذي عنْون محاضرته كالتالي: الإنسان والبيئة تناغم أم تصادم؟ ولا أخالنا نختلف في أن هذه العلاقة هي علاقة تصادم أيامنا هذه أينما حللْنا..

تتالت المحاضرات في الكتاب مشخِّـصة لهذا التصادم في أكثر من موقعٍ، والخطر بطبيعة الحال عائدٌ بالضرر على الإنسان..والسبيل لتفادي هذا الضرر هو الشعور به وتفاديه، ولا يتأتّى ذلك إلاّ عن طريق التربية البيئية التي يكون منطلقها الأول المنزل، فالمجتمع بكلّ مكوّناته وفي طليعة هذه المكوّنات المدرسة، والمسجد الذي لا بدّ من أن يساهم بجدٍّ في غرْس هذه القيم بصفة دائمة نظرا لدوره التأثيري..فلا غرْو أن يُنهى الكتابُ بمحاضرة عنوانها:التربية البيئية بين المفهوم والغاية للأستاذيْن:محمد كاكي،ومحمد توفيق ومان اللذيْن يريان في آخر محاضرتهما الأخيرة في الكتاب إلاّ بالرجوع إلى الطبيعة الأم الحنون وفق ما يراه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي يخاطب الإنسان المتعب الذي أنهكته متاعب الحياة بقوله: "عُــدْ إلى الطبيعة واستلق في أحضانها ".. نعم علينا أن نعود إلى الطبيعة ونكون أوفياء لها، وهذا يتطلب الالتزام بأخلاقيات تربوية تجاه البيئة، لكي نشعر بالهدوء والسكينة والأمان بأن هذه الأخلاقيات تعتبر ثورة قوية تعمل على تعديل الاتجاهات السلوكية للإنسان نحو احترام البيئة مما يضمن إعادة التوازن البيئي، بعد أن هددته الكثير من المخاطر بسبب غياب الأخلاقيات البيئية.

وبذلك، يمكن للتربية البيئية، أن تلعب دورا أساسيا في درء مشكلات البيئة وحلها.لكنه من الواضح أن الجهود التربوية لن تؤتي أكلها إذا تجاهلت بعض العوامل الهامة الأخرى، ومنها على سبيل المثال: أن يكون هناك تشريع يسعى إلى تحقيق نفس الأهداف، وان تتخذ التدابير اللازمة للسهر على حسن تطبيق القوانين وان تفرض قرارات حازمة، وان يستعان بأجهزة إعلام الجماهير، التي يتزايد نفوذها بين الناس. وينبغي لكل هذه العوامل أن تتظافر فيما بينها، وان تشكل كلآً مترابطاً حتى تستطيع أن تسهم في حماية البيئة وتحسينها بصورة فاعلة.

إذا كان الدكتور محمد قماري يرى أن الإنسان هو الجاني وهو الضحية في الآن نفسه، فبظلم من الإنسان نفسه، وبما كسبت يداه ظهر الفساد في البر والبحر، ومن زرع الريح فلن يحصد إلا العواصف، فالبيئة الأولى البكر التي احتضنت الإنسان لم تعد كذلك وقد اعتدى عليها، وانقلبت آثار هذه الاعتداءات إلى كابوس يلاحقه في صحته ونمط معيشته، فهو الضحية والجاني، والمعتدي والمعتدى عليه..

ها هو الإنسان يقف في العراء يواجه مشكلات كبيرة، كالاحتباس الحراري، ونضوب مصادر المياه وتلوثها، وتربص أمراض مزعجة كالحساسية والسرطانات، ومن هنا طفق بعض البشر يخصفون عليهم من بقايا الحكمة ما يواجهون به الكارثة، وإن كان الوعي قد ظهر مبكرا في تاريخ البشر كتلميحات ونصائح إلا أنه مع تفجر العصر الصناعي تحول إلى صيحات نذير..

وكي لا نحرث في البحر وحتى لا تضيع جهودنا في احتفالات موسمية بالبيئة، أو في مهرجانات نظرية، أو في جلب منتجات صناعية لمعالجة مشكلات البيئة، يجب أن ننطلق من قواعدنا الحقيقية وأن ندرس الموضوع من خلال إمكاناتنا الذاتية، دون التهوين أو التهويل، من ذلك موضوع المنتجات الزراعية الوافدة في البيئة الصحراوية، فمنتج البطاطا، أو الزيتون والخضروات يجب أن يخضع للتقويم العلمي ويستفيد من الظروف البيئية المحسنة لمعيشة السكان والأحياء، وتعدي النظرة الثنائية مع أو ضد إلى النظرة الموضوعية العلمية التي تعتمد جرد السلبيات والايجابيات، والسماح بإدماج الموضوع في المخطط الوطني، بحيث يستفيد من إمكانات أكبر في تنمية مرتكزات القوة ومعالجة السلبيات..

بينما الأستاذ عادل محلّو طرح في محاضرته التي تحمل عنوان: التلوّث اللساني ودلالاته الاجتماعية ظاهرة اجتماعية أخرى من التلوث قلّما نعيرها اهتماما، بل هي غائبة عنا..فالتلوث اللساني المقصود به علاقة الإنسان بالجدار.

إنّ استعمال الجدار كفضاء للكتابة أمر قديم قدم البشر نفسها؛ إذ كتب الناس ورسموا على جدران الكهوف والمعابد منذ آلاف السنين، وقد اندرجت وظيفة تلك الكتابات والرسوم "... عند الإنسان الأوّل...في مقاومة واضحة للمحيط، وموجوداته الحيوانية المتوحّشة، أي بمعنى تحوّلت الرسوم التي هي كتابات إلى وسيلة للمقاومة السحريّة والبقاء بوسائلها الروحيّة.

وفي عصرنا الحاضر استعاد الجدار أهميّته كفضاء تعبيريّ مميّز من خلال ما نراه مكتوبا عليه كلّ مرّة من شعارات وكلمات تدعمها رسوم في بعض الأحيان. ويشير الأستاذ: أنور عبد الملك في كتابه: (الإنسان والجدار) إلى الارتباط بين الحياة المدينيّة المعقّدة وانتشار الكتابة على الجدران ؛ إذ يصفها بأنّها " حاجة مدينيّة، أي تمثّل نتاجا للحضارة ومعطياتها، لأنّ المدينة تكون عادة مولّدة للظواهر والتيارات الجنونيّة"

ومن أجل خاصيّتها المدينيّة كانت أولى الدراسات المختصّة في نييويورك حيث أصدر الباحث اللغوي الأمريكي ريد (Read) سنة 1928 أوّل دراسة تهتمّ بتحليل المفردات اللغويّة المدوّنة في الكتابات الجدرانيّة. وتنوّعت فيما بعد مداخل معالجة هذه الظاهرة أكاديميّا ممّا أدّى "...إلى نشوء مدرسة اجتماعيّة تُعنى بالبحث في كتابات العامّة بوصفها ممثّلا لثقافة المجتمع وطرائق تفكيره.

ولم يكتفِ الإنسان بالكتابة على الجدار فقط بل امتدّت يده للكتابة على عربات القطارات والسيّارات ووسائل النقل المختلفة ممّا أنتج كتابات متحرّكة من مكان إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى.

إنّ الكتابة على الجدار كبقيّة الخطابات والملفوظات اللغويّة تحوي عناصر التواصل الستّة كما حدّدها رومان ياكوبسون وهي:
أـ المرسل ب ـ المرسل إليه ت ـ الرسالة
ث ـ الشيفرة جـ ـ القناة حـ ـ السياق

أ ـ المرسل: إنّ الكتابات الجداريّة تُغفلُ عمدا اسم كاتبها لأنها غالبا ما تكون مُنتهكة للأعراف والتقاليد وكذلك لأنّ صاحبها لا يمتلك من السلطة أو الثروة أو القوّة النفسيّة ما يجعله يواجه الآخرين؛ إذ هو في الغالب الأعمّ واحد من الشباب المهمّشين الفقراء.

ومن جهة أخرى فإنّ البعض يذكر اسمه، وهي محاولة لإثبات الذات في وجه مجتمع يغمطه حقّه ولا يلتفت إلى ما لديه من موهبة أو تميّز بحسب ما يرى هو ذاتَهُ، ولذلك فهو يكتبه بحجم كبير لافت للانتباه.
ب ـ المرسل إليه: هناك نوعان من الكتابات:
ـ نوع أوّل يحدّدُ المرسل إليه:فيذكر اسما شخصيّا لفرد أو جهة ما أو بعلامة مميّزة له لا تخفى على قارئي الكتابة على الأقلّ ممّن يندرجون ضمن السياق القريب لعمليّة الكتابة، ففي كليهما اسم شخص يستهدف بأن ترسل إليه مشاعر ومواقف ما.
ـ نوع ثانٍ لا يحدّد المرسل إليه: وهو يوجّه رسالته للمجتمع كلّه ولا يسمّي شخصا أو جهة معيّنة، بل هو خطاب للنظام الاجتماعي وسلّم قيمه ونسقه الثقافي.

إنّ النوع الأوّل لا يكاد يمثّل تحديّا خطرا للمجتمع لأنه يكتسي الطابع الشخصيّ، وفي حال تفاقمه فإنّ الجزء الأكبر من الانتقام يوجّه إلى الشخص أو الجهة المقصودة. ولكن يكمن الخطر في النوع الثاني لسببيْن أساسيْن:
 الأوّل: لأنه يكشف عن وجود احتقان وضغط وحنق على المجتمع بأسره دونما تمييز بين المسؤول، وغير المسؤول عمّا وصل إليه ذلك الفرد، ممّا يُضخّم احتمال تعرّض أيّ فرد أو جهة لانتقام ذلك الفرد. وبهذا يتشكّل جوّ من الخوف والرعب في المجال المكانيّ القريب من تلك الكتابات، كما يتشكّل أيضا قلق هامّ على مستقبل البناء الاجتماعيّ.
 الثاني: لأنّه يعبّر ـ دون أدنى شكّ ـ عن شعور فئة أو طبقة أو جهة ما بالتهميش،وهو ما يدلّ على صدْع في المجتمع قد يتزايد شيئا فشيئا ليشكّل تهديدا بالفوضى والاضطراب.

إنّ مفهوم التهميش خطرٌ جدّا فهو أوخم عواقب من عدم المساواة لأنّه يعني خروج فئة ما ـ أو إحساسها بذلك ـ من دائرة الاهتمام أصلا أمّا عدم المساواة فتعني أنّ فئة ما أقلّ حظوة وهي لا تزال ـ رغم ذلك ـ ضمن سلّم الاهتمامات.
ت ـ الرسالة: تتميّز الرسالة المكتوبة على الجدران بأنّها من حيث المضمون جريئة الخطاب؛ إذ تتمحور غالبا حول انتهاك الطابوهات المحرّمة في تلك البيئة الاجتماعيّة.
وتتميّز أيضا بالمستوى اللغويّ المتدنّي لأنّها تمثّل الهامش، فهي كثيرة الأخطاء في النحو والتركيب والإملاء، وفي أحيان كثيرة تكون عاميّة لكن تُكتب كتابة خاطئة.
والتوجّه العامّ للكتابات على الجدران في منطقتنا انزاح بحدّة نحو العاميّة بعد أن كانت نسبة الكتابات الفصيحة كبيرة، وهو أمر دالّ جداّ:
 إنّه علامة على نزول الفصحى من مكانتها كأداة للتعبير عن الذات عند شرائح كثيرة من الشباب، وهو ما يَستتبع ابتعادهم عن مصادر الثقافة الفصيحة في التعبير كالمدرسة والدين بمفهومهما الذي صار كثير منهم لا يرتاحون إليه كفضاء يحمل همومهم ومخاوفهم وآمالهم ـ إن بقي لهم آمال ـ.
 إنّه يدلّ على أنّ فئة المرسِلين قليلة المعرفة بقواعد الكتابة؛ أيْ إنهم من أولئك الذين تسرّبوا من المدرسة ولم يُكملوا تعليمهم.

إنّ حجم وعدد الرسالات في الفضاء المكانيّ الواحد هو أيضا ذو دلالات اجتماعيّة هامّة، فالشارع الذي تكثر وتتراكم فيه الكتابات على الجدران يحسّ الآخرون بعدم الأمان فيه لأنّه يدلّ على وجود فئة منفلتة اجتماعيّا وهو ما يدفع بالناس إلى تجنّب المرور فيه مع عائلاتهم أو مع من يحترمون حتى لا يُحرجون من تلك الكتابات الجريئة.

وهذا التجنّب يزيد ذلك المكان عزلة ويجعل الحركة الاقتصادية فيه بطيئة جدا حيث لا يكون مقصودا للتعاملات التجارية العادية، بل يُصنّف كمكان مشبوه ويتحوّل شيئا فشيئا إلى مكان للتعاملات الممنوعة من مخدّرات وصفقات مشبوهة، لينعكس ذلك أخيرا على نظرة السلطات له فيستثنى من البرامج التنموية والخدماتيّة الأساسية، ممّا يزيده تهميشا وبؤسا.

والملاحظ أنّ شوارع منطقتنا لا تشهد لحدّ الآن كمّا كبيرا من الكتابات على الجدران، لكن يجب ألاّ نغفل عن أنّها في تزايد مستمرّ، وأن نقرأ ذلك قراءة صادقة عميقة.
جـ ـ الشيفرة: نعني بالشيفرة طريقة ترميز المعلومات المُرسلة من طرف المُرسِلٍ. ويلاحظ أنّها تعتمد استعمالات خاصّة بالشباب؛ إذ لا يكاد غيرهم يعرف معناها الحقيقيّ المقصود، وهو ما يعكس انفصالهم عن لغة الكبار التي تمثّل المركز واستحداثهم لغة خاصّة بهم لأنّهم يرفضون ذلك المركز وما يسطّره لهم من قيم.

صحيح أنّه من الطبيعيّ في كلّ المجتمعات أن تختلف لغة الشباب عن لغة الكبار، لكن ما يثير هنا هو اختلافها في تشفير ما يرفضه الكبار ؛ أيْ الطابوهات وعلى رأسها عالم العلاقات بين الجنسين، والمخدّرات والخمر، وهي ممّا يرفضهما الدّين وتعملُ السياسةُ على ضبطهما. أيْ إنّهم يحتالون على هذا المثلّث الشهير في ثقافتنا العربيّة وذلك بإعطاء علامات لغويّة جديدة لتلك المحرّمات اجتماعيّا. وبهذا يحدثُ شرخٌ بين الجيليْن يؤذن بالخطر لأنّ الكبار لم يستطيعوا مواكبة الشباب عن كثب ولمس مشاكلهم والاعتراف بكيانهم المستقلّ.

إنّ أولى خطوات المعالجة هي أن يعترف الكبار بوجود أجيال جديدة مختلفة، وأن يقبلوا التعايش معها. وإنّ طرق المعالجة المتّمثّلة في المحو السريع لتلك الكتابات لا تجدي نفعا لأنّها قد تزيد أولئك الذين يكتبون تشجيعا لأنهم يجدون سبيلا لمواجهة السلطات والمجتمع في حركات كرّ وفرّ عبر الكتابة والإصرار على إعادة ما محي وبعبارات أشدّ وأجرأ.

ويضاف إلى ذلك أنّ هذه الطريقة المتّبعة طريقة مكلّفة لأنها تستوجب تجنيد عدد من عمّال البلديات والمدارس وغيرهما، واستخدام الدهن، إلى جانب أنّها تزيد المحيط البصريّ تشويها إذ عادة ما يستخدم لون مخالف للون الجدار الأصلي للمحو فتكبر الكتابة وتصير بقعا مُنفّرة، والأدهى من ذلك أنّ بعض من يوكل إليهم محو الكتابات من على الجدران يقومون بالإعادة فوقها مباشرة متتبّعين تفاصيلها، فينتهون إلى تكبير تلك الكتابة أكثر بدلا من محوها!!!

وأما الجهات الرسميّة ـ أي البلديات ـ فإنها لا تملك إرادة حقيقية لمحو الكتابات؛ لأنّ معظم ألوان الطيف السياسي قامت هي نفسها باستغلال الكتابات على الجدران في المواقع الممنوع الكتابة عليه؛ أي خارج تلك المساحات المخصّصة للدعاية خلال الحملة الانتخابية، رغم أنّها جميعها تزيّن برامجها بالسعي إلى حماية البيئة وإعطاء مدننا وقرانا وجها جميلا... فـلا يمكن أن تنهى عن خلق وهي تأتي مثله.
ولكن الحلّ يمكن في خطوات أكثر عمقا وتحديدا وهي:
أـ تطوير الخطاب الديني:
أيْ أن يُخاطَب الشباب في عمق مشاكلهم وبطرائق قريبة منهم لُغةً وشكلا.
ب ـ تطويرالمناهج التعليميّة:
في مضامينها وطرق تدريسها بشكل يتماشى وتطوّر الحياة، كاستعمال الوسائل المعاصرة التي تجلب اهتمام المتعلّمين الشباب السمعيّة منها والبصريّة، وأيضا معالجة مشكلات الشباب من منظور جديد في تلك المناهج بعيدا عن الشكل الحادّ لثنائية الخطيئة/ الصواب، خاصّة أن معظم الذين يكتبون على الجدران هم من أولئك الذين لم يكملوا تعليمهم.
جـ ـ تنمية طرائق التعبير الجماليّ:
إنّ تلك الكتابات التي تعبّر عن مكبوتات الشباب يمكن أن تُحوّل إلى أعمال أدبية من قصّة وخاطرة وشعر ومسرح ولوحات تشكيلية إذا استطعنا أن نمكّنهم من التعبير عن أنفسهم بشكل جميل. وحتى الجدران أنفسها يمكن أن تظلّ مجالا لتعبيرهم ولكن بطرق أكثر جمالية ورمزية، لا تفقدهم خصوصيتهم وتجسيد مشاكلهم وأحلامهم كما لا تجعلهم في صدام مع المجتمع.وللأسف فإنّ مدارسنا هي أوّل مقبرة للتعبير الجماليّ بحيث يتمّ استدراك أيّ تأخّر في " الموادّ الأساسية" بالاعتداء على حصص الرسم والأشغال والرياضة والمطالعة...
دـ المعالجة بالتوجيه:
أي أن نوجّه ألشباب إلى تحويل الكتابة على الجدران إلى فنّ، ولم لا يكون ذلك في مناسبات تخصّهم حيث يبنى جدار في موضع ما داخل فضاء جواريّ ويمنحون كلّ الوسائل للكتابة عليه للتعبير عن أنفسهم بحريّة وفي ذات الوقت بمستوى رمزيّ وفنيّ، ويتمّ ذلك بإشراف متخصّصين في الفنون التشكيلية.

إنّ الكتابة على الجدران سلوك سيئ وغير حضاريّ، ونحن جميعا ننتقده وننبذه، إنّه تلويث للبيئة الإيكولوجية وإيذاء للبصر لكنّه في ذات الوقت نتاج اجتماعيّ يمنحنا مدخلا متميّزا للإطلالة على عمق المجتمع وتصوّر حركيتّه واتجاهاته.

إن كل محاضرات الكتاب ذات أهمية، وليس بالإمكان التعرض لها، وقد توقفنا عند محاضرة الأستاذ عادل محلو لأهميتها من حيث طرح موضوع نادرا ما يُتعرض له كظاهرة ملوثة للبيئة.

وللتذكير وكم أسلفنا، فإن السيد وزير البيئة والسياحة وتهيئة الإقليم يوم 09/03 2008 في لقاء احتضنه قصر الأمم،أعلن عن الاستراتيجية الجديدة للترويج للثقافة البيئية في الجزائر تحت عنوان عريضٍ ( البيئة 2008)، حيث رسم الخطوط العريضة لهذا المشروع الذي يهدف إلى ترسيخ ثقافة الحفاظ على البيئة،وحمايتها بإشراك المواطن في هذا المشروع،كونه الفاعل الأساسي في الميدان، وراهن السيد الوزير على المدارس، والمساجد لترقية الحسّ البيئي لدى هذا المواطن..بالمناسبة يومها نصّب الوزير يومها اللاعب المعروف رابح ماجر،والعدّاءة نهيدة توهامي سفيريْن للبيئة.

إن وزارة البيئة حسْب وزيرها سطّرت حمْلة تحسيسية غير محدودة في الزمن تتمحْور حوْل تكثيف العملية الاتصالية مع المواطنين على كافة الأصعدة، وتمسّ مختلف شرائح المجتمع.

إن العملية ستمسّ نحْو خمسة وعشرين ألْف مدرسة،إضافة إلى تفعيل دوْر البيوت الخضراء في توسيع التوعية في بُعْدها الجواري،كما تراهن الوزارة أيضا على دوْر المؤسسة المسجدية في ترسيخ قيم حماية البيئة.

وخلاصة القول أنّ " الثقافة البيئية " شكّلت أحد أهم الروافد التي أصبح الإنسان المعاصر ينادي بها، وهذا نظرا للأهمية الكبيرة التي تحتلها في حياة البشرية،حيث أن طبيعة التعاطي معها هي التي تحدد تداعياتها على صيرورة هذه المجتمعات سواء بالإيجاب، أو السلب؛ لأن المتتبع بطريقة علمية لمفاهيم الحفاظ على البيئة، ومكافحة التلوث بجميع أنواعه من شأنه بناءُ مجتمعٍ صحيٍّ يؤمن بهذا المقومات، ويسعى إلى تحقيقها وهو الذي نسعى إلى تحقيقه في مجتمعنا.

حيث تهدف الثقافة البيئية إلى تطوير الوعي البيئي، وخلق المعرفة البيئية الأساسية بغية بلورة سلوك بيئي ايجابي ودائم، والذي هو بمثابة الشرط الأساسي كي يستطيع كلُّ شخص أن يؤدي دوره بشكل فعّال في حماية البيئة؛ وبالتالي المساهمة في الحفاظ على الصحة العامة.

وهنا تكمن أهمية الثقافة البيئية والسعي الدءوب لتطويرها، بغية نشرها وإنضاجها لتتحول بذلك إلى مجال خاص مُهم، وقائم بذاته قادر على أن يأخذ دوره في المناهج التدريسية في كافة المراحل المدرسية والجامعية بهدف تنشئة أجيال بعقول جديدة تعي مفهوم الثقافة البيئية، وتعمل على تطبيقها؛ وعليه فمن خلال الثقافة البيئية يمكن إحداث تغييرات في طرق التفكير والسلوك البيئي عند المجتمع بحيث يتصرف كل شخص فيه وكأنه صاحب قرار ناضج.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى