السبت ٢٧ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم خالد اليزيدي

الحمار

حدثوني عن الحمار أرجوكم... حدثوني عن الحمار!

دعوا اندهاشكم يا سادة، دعـوا السخرية ودعوا الإبهام. فحينما ستدرك الأسباب ستمحــى كل علامات التعجب والاستفهام.

أ ُلقوا السمع لهذه الصيحة الفوارة من أعماق قلب اكتوى بنار وحشة وبجمرة عزلة ما شاء الله من الأعوام. إسمعوا وعــوا يرحمكم الله، وتأمـلوا كيف يكون الحمار همـّا وكيف يكون حـلا ّ في قاموس المهاجر.

وإذا لم تحدثوني عن الحمار فسأحدّثكم عنه:

لقد تعددت النوادر وكثرت الطرائف والقصصُ عن الحمار، لكن قصتي من النوع الذي يسمو ويرتقي، فيصل إلى أروقة هيئة الأمم المتحدة، يدق الباب على مكتب أمينها العام.

قصتي مع الحمار رقم صعب ٌ في معادلات القرن الواحد والعشرين.

قصتي مع الحمار محورٌ ثابت ٌ في المشروع الحضاري الأمني العالمي.

قصتي مع الحمار همزة ُ وصل وهمزة حوار بين الشمال والجنوب.

وتلك مـلفات طالما حملتها حقيبة السيد << كوفي أنان>> الذي عوّدنــا على الطيران هنا وهناك كالخفاش يبحث عن حلول لمعضلة الجياع في العالم.

وعلى ذكر الحمار أو على ذكر << كوفي أنان >>، فإن الاسم الشخصي لهذا الأخير يعني باللغة الفرنسية: حمــار. وعلى هذا الأساس استبشرت خيرا وأنا أرى هذا الزنجي الوديع يتربع كرسي الرءاسة في مجلس الأمن، وقمت أعيد النظر في موقف شاعرنا العربي الفصيح الذي لم يكن يرى العبد صالحا إلاّ والعصى معه ولم يكن يراه إلاّ من الأنجاس المناكـيد.

كنت أعتقد ـ ويا لسخافة ما كنت أعتقد! ـ بأن جذوره المنحدرة من أصول إفريقيا ستجعله يفهم معنى الهجرة جيدا. فيقوم بادخار حمير الشمال للجنوب ليريحنا من هذا العذاب.ولكن ويا أسفاه! فاتته فكرة الحمار وحكمة الحمار في احتواء الأزمات وسد بؤر التوتر، مع أن الحمار كان وما يزال أقرب إليه من أنفه كما رأيتم.

أيّ غرابة إذا ً حين يعض شاعرنا أنامله بكاء على الحظ التعس ويــنشد كمدا:

مـا كنت أحسبني أحيى إلى زمن

يسيء لي فيه عبدٌ وهو محمــود ُ

نعم. لقد راح زعيمنا <<أنـان>> يُرسي المخيمات في الصحاري، ويبني السياج حول قطيع الجياع والمهاجرين في البراري. متنكرا لبني جلدته يحرس ً حدود الغرب من آفة الجراد.

لا يا سيدي <<أنـان>> لا!.

لا أريد منكم مخيما، ولا أريد منكم سياجا بل:

حدثوني عن الحمار أرجوكم.. حدّثوني عن الحمار.

كنا بالفعل حـمُــرا ً مستنفرة فـرّت من قسـورة، حينما فرملت بنا حافلة السفر في محطة مدينة <<بروكســيل>>. مســّت أقدامنا الأرض الموعودة، فأمست تربة أبناء سيدنا عيسى لنا مــُيسرة. تنفسنا الصعداء، هنئنا بعضنا بعضا حمدا على السلامة وقمنا نـُهرول كلنا يــُمنة ويــُسرة. إذا ما استثنينا البعض منا، ممن أنعم الله عليهم، فجاءتهم الحمير تسـوقهم من باب المحطـة.

و تأملوا معي يا رفاق، كيف أن الحمـير في هذه الأوطان تســوق ولا تـُســاق.

ما كنا لنخفي علامة الأمية وخشونة البادية التي كانت على ملامحنا بادية. لكن العلم يوتيه الله من يشاء، فقد تعلمنا بالفطرة كيف أن الجهل بالقانون لا يـقبل عذرا. فتهافتنا نستظهر عن ظهر قلب البنود الأساسية في قانون اللــّعبة:

أولا: لا خلود لتأشيرة سفر.

ثانيا: إذا انتهت أيامك المعدودات فارم بجواز السفر في صقر.

ثالثا: أحسن الظن بالخالق ولا تــُحسنه بمخلوق بشرا ً كان أو بقر.

رابعا: إذا رأيت قبعة ً زرقاء فاسـتعذ بالله واستعــد للمفر.

تلكم هي القواعد التي ضمنت لي البقاء إلى حد الآن في هذا المهجر بعد أن سـدّت وزارة الداخلية المعنية بشؤون المهاجرين أبوابها في أنوفـنا وأعلنت رسميا بأنه:

ـ "لا قرار ولا إستقرار إلاّ لمن يملك الحمار"

سبع سنوات عجاف مرّت. ولا تتعجبوا..!. إنني ما أزال على قيد الحياة.!! فهذا البلد آمن ٌ أو يكاد، لو كنت كبقية أقراني أملك حماري. وإن كان الزمن بي لا يرحم فالأمل منكم لا يُــعدم..

فحدّثوني عن الحمار أرجوكم.. حدّثوني عن الحمار.

كلما وجدت وقتــا فاض ِ، جلست مع عزلتي لأرمي بذاكرتي إلى ما وراء البحر وإلى الماضي. ولا أخفيكم سرا بأن نفسي أحيانا ً تأبى الجلوس معي حين تتحسس هول المهزلة التي حلّت بي.

لقد كان جدي بكبريائه وعنفوانه يتحكم في زمام كل الأمور وفي لجــام كل الدواب. يحرث الأرض ويزرعها، يرعى الأنعام ويسقيها ثم يعود إلى البيت مرفوع الهامة والقامة. والحمــار بما يــقدمه له جدّي من الشعير راض.

وسخرية زماني هي أني أحاول التفلسف بسذاجة لشرح هذه المفارقة العجيبة بين الفاعل والمفعول. بين ذلك الحمار الذي يقد ّم له الجد الشعير وبين هذا الحفيد الذي يقــدم له الحمار الشعير.

فما سر هذه القفزة البهلوانية بين الأجيال؟ وأين هي الحلقة المفقودة في سـلسلــة هذا التطور يا ترى؟!

يقولون إنه النظام الإقتصادي العالمي الجديد. وقالوا إنها العولمة. ومنهم من قال إنها نظرية الاستغراب والاستعمار. أما أنا فأصادق ببصمة خنصري على رأي علماء الاجتماع الذين رأوْها ظاهرة من ظواهر الإستحمــار.

على كل دعونا من هذا التحليل الإقتصادي السياسي العقيم. فلو سمع جدي مني هذا الهراء لقـَـصَم َ ضهري بعصاه ولأوجعني ضربا ولطما بيده الخشنة ً ولكشـّر في وجهي صائحا:

ـ كيف ترضى بأكل شعير الحمار.. يا حمار!

ومع ذلك فلا حياة لمن تنادي، ما أزال أردد وأقول:

حدّثوني عن الحمار أرجوكم.. حدّثوني عن الحمار.

قد يقتدي بعضكم بمزاج جدي فيبادرني بالاستنكار:

ـ ألم يجد هذا الحمار موضوعا يثار غير موضوع الحمار!؟

ولهؤلاء أقول: سامحكم الله على قصر الفهم والإدراك. فما العيب إن بحنا بالأَسرار وتمادينا في الإِسرار وتكلمنا بوعي عن الحمار؟!

إن إنسانيتي أو ما تبقى منها تجعلني أقاوم، وفي الدفاع عن هذا المخلوق اللطيف لن أساوم. فالمسؤولية، يا سادة، تدعوني وتدعوكم، ترجوني وترجوكم أن نتلاطف ونتعاطف مع كل حمار.

وما دمنا نؤسس الجمعيات وندرك أهميتها في التوعية والإدراك فحبذا لو أنصفنا هذه الدابة بتأسيس جمعية حمير نعيد بها الاعتبار للحمار.

أنا لا أتهكم يا إخواني عن الحمار. حشى ومعاذ الله. بل أستنكر على كل من يردف بعد ذكر الحمار كلمة <<أعــزّك الله>>. إنها إهانة! وأمر يستوجب الإدانة. وهل بمقدوري الإستهزاء َ بالحمار والأبحاث العلمية الدقيقة والتجارب والحقيقة تثبت صحة ذكائه وتفانيه في خدمة ومراوغة صاحبه بكفاءة ومهارة.

أذناه طويلتان حقا. وتلك مزية من يلتقط ما يقال وما يثار من الأنباء والأخبار.

إن تراثنا وحضارتنا ـ يا عرب ـ تحترم الحمار بل وكم كانت في خدمة الحمار وكم تحلـّـت بصبر الحمار في منازلة وقائع الحياة. فبشراكم إن رأيتم في المنام حمارا، فذاك دليل على السعادة والعلم والمعرفة. فالحمار يحمل الأسفارَ. وهو أيضا دليل على الإنجاب والولد والزوجة الصالحة والسفر السعيد. هذا ما تقوله كتب تفسير الأحلام في تراثنا التــليد.

فكيف نستغني عن الحمار الذي هو زينة ولولا ركوبه ما كنتم بالغوا هذا البلد إلاّ بشق الأنفس.

إذا كفاكم عتابا، وكفاكم ضغينة

وحدّثوني عن الحمار أرجوكم.. حدّثوني عن الحمار.

رق قلب صديقي لحالي فجاءني مبتسمــا ً يهمس في أذني:

ـ أبشر. لقد وجدت لك حمارا وياله من حمــار!

قبلت جبين صديقي فرحا رفعت يدي إلى السماء داعيا الله أن يحفظه من كل مكروه وأن يبارك له في حماره ويجعله له غنيمة في الدنيا والآخرة. وبادرته سائلا:

ـ ومتى موعد التفاوض مع هذا الحمار؟

أجابني صديقي بعد تردد قصير:

ـ ليس قبل أن نسوى أمرا ً له علاقة بالموضوع. فالحمار الذي يـُـعرض في السوق له جحشين صغيرين لا بد أن يدخلا في الصفقة.

كدت أصفع صديقي ولكني شكرته على مجهوداته الخالصة لوجه الله على كل حال. فقلت له منبها:

ـ أن الجحشين الصغيرين يا أخي سيكبرا حتما وحينها سيملآن حياتي ضجيجا وعويلا وفوضى. وأنت تعلم يـا أخي بأن أنكر الأصوات لصوت الحمار.

سمع صديق آخر ندائي فضرب لي موعدا مع حمار أشقر هذه المرة.

حلقت ذقني مرتين.غسلت أسناني بالفرشاة لأول مرة ثم جلست في المقهى أنتظر القدوم الميمون. مرت برهة وإذا بحمار يقصدني. حمار بدين سمينٌ يكاد ينفجر شحمــا ً، يضع نظارات شمسية على عينيه ويمشي في اتجاهي بخطوات تشبه خطوات الدينصور في فلم <<جُوراسِكْ بارْكْ>>.

هممت بالفرار. لكني استغفرت الله وقلت في نفسي: لا يهمني الشكل إنما الجوهر، ما يهمني هو أن أعيش بأمان في هذا المهجر. ألقيت ببصري كــرّتين في اتجاه الحمار الذي بدأ يقترب مني أكثر فأكثر. تذكرت أبي، تذكرت أمي، تذكرت كرامة جدي ويده الخشنة كالصخر. خفق قلبي بقوة في الصدر. قـمت من مكاني. وأطلقت رجلاي للريح.

نعم هربت. فلا شكل ولاجوهر ولاهم يحزنون. فلقد كان الفرار في موقفي سيد الموقف. وإنني لأحمد الله بكرة وأصيلا على حسن الختام.

ومع ذلك فما أزال أنتظر ومن ينتظر لا يجوع. ما أزال أستعطفكم وأقول:

حدّثوني عن الحمار أرجوكم.. حدّثوني عن الحمار.

وأخيرا ً ولمن لم يدرك بعد معنى لكلامي سأروي قصة الحمار التي أوحت لي بكتابة قصتي مع الحمار.

كان يا ما كانْ، في سالف الدهر وقديم الزمانْ، رجلٌ فقير الحالِ والعيالِ لا يملك من الدنيا غير حمار يستعين به في أشغال الدارْ ويستجيره لحمل الأثقالْ. وكان للرجل ولد بلغ سن الزواج ولم يحض به. فمهْــرُ بنت الحلالْ عند هذه الأسرة معدوم ومحالْ.

فهـمَ الأب همّ وغم الإبن المكروب فأراد يوما أن يخفف عنه آلام العزلة والعزوبية ولو بالوعود الكاذبة وبالأحلام الوردية، فالتفتَ إلى الأم قائلا والإبن يستمع:

ـ ما رأيك يا امرأة لو بــِعنا الحمار وأدّينا ثمنه مهرا ً لزوجة إبننا البار.؟!

انفتحت أسارير الابن فرحا وغبطة ً لهذا الخبر السار فأرخى أذنيه بخجل وانتباه ويقظة ينتظر جواب أمه. لكن الأم أدركت مـزاح الأب وفحواه وإستحالة المشروع ومعناه فغيـرت الموضوع إلى سواه.

حينها قام الابن منتفضا غاضبا ثائرا يـُـولـولُ ويصيح:

ـ حدّثوني عن الحمار أرجوكم.. حدّثوني عن الحمار.

والآن هل فهمتم قصتي مع الحمار!؟ أم أنه بالتكرار يتعلم الحمــار

لا بأس. سأكررها إذا:

حدّثوني عن الحمار أرجوكم.. حدّثوني عن الحمار

بلجيكا 10 مايو/ أيار 2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى