الخميس ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم بوشعيب الساوري

الحنين إلى الماضي في الحزام الكبير

يواصل محمد غرناط مغامرته القصصية وفق كتابة تشتغل على اللغة العامية، بخصوبتها الدلالية والرمزية، وعلى الحبكة القصصية، وبذلك يظل وفيا لاختيار دشنه منذ مجموعة الصابة والجراد.

في مجموعته القصصية الأخيرة، الحزام الكبير(دار الامان، الرباط، 2003.)،لا يخرج عن ذلك التوجه، بالاشتغال على اللغة اليومية بكل حمولاتها وروافدها )عبارات عامية، أمثال شعبية، حكايات قصيرة(. والاعتناء بالحبكة القصصية والاشتغال على الزمن والانفتاح على الحلم، وهذا هو العنصر الجديد في هذه المجموعة، بالإضافة إلى تنويع تقنيات الإخراج القصصي، إذا تراوحت قصص المجموعة ما بين السرد على لسان المتكلم والغائب، والكتابة المقطعية المرقمة والمعنوية وغير المعنوية وغير المرقمة، والسرد على لسان ساردين.

سنركز في هذه القراءة على اشتغال محمد غرناط على الزمن والحبكة القصصية واللغة وكذلك انفتاحه على الحلم، دون أن ننسى الشكل الخارجي للكتابة.


1- ليت الماضي يعود

تشترك شخصيات قصص المجموعة في رؤيتها للزمن، وذلك بتمجيدها للزمن الماضي، إذ يشدها حنين إليه، ولا ينفصل عن مخيلاتها، ويبقى أحسن وأفضل من راهن الشخصيات، وبالمقابل ترفض وضعها الجديد، الذي دفعت إليه وتحولاته التي حملها إذ تجد نفسها مدفوعة إلى هذا الوضع إما نتيجة لتحولات الزمن أو بفعل خارجي لشخص آخر.

إن واقع الشخصيات المأزوم يدفعها إلى الانشداد إلى الماضي، والكشف عن كل ما هو مشرق فيه، مقابل ازدراء حاضرها المأزق والورطة، وتتمنى لو يعود ذلك الزمن الذهبي، الذي افتقدته.
يتجلى تمجيد الماضي لدى الشخصيات من خلال نقطتين:
أ- تمني الشخصيات أن يعود هذا الماضي، ليخصلها من مأزق الحاضر، إذ تسترجع لحظات جميلة مضت، تلك اللحظات التي تظل حية في ذاكرتها، وتحاول الاستمرار في تلك اللحظة يقول في قصة أشباح الشاطئ. "كان رزقه وافرا. السمك متعدد الألوان والأحجام، طري باذخ. يملأ الغرباوي سلته دون عناء، ويهرع إلى سوق القرية على بعد دقائق ويحث الخطو باتجاه بيته." )ص 32( يصاحب هذا الانشداد حسرة على الحاضر. "اليوم يترحم عليها، ويذكر أنها حملت معها هموم البلاد والعباد." ص 32.

ب- تثمين الماضي من خلال حكايات ترد على لسان الشخصيات يقول مثلا في قصة الحزام الكبير: "كان أبي اشتراها لها يوم زواجها" )ص 77( وتتحسر الشخصيات على لحظات أو حياة كانت جميلة في الماضي، لكنها غائبة في الحاضر يقول في قصة النم نامة: "هكذا كانت أمه، قالت والدتي، امرأة لا تهتم بأحد، تظن أن الأرض لا توجد بها بنت حواء غيرها." )ص 87(.
يترتب عن هذا الانشداد إلى الماضي أسطرته، إذ تغدو أحداثه أفعالا مقدسة، وشخصياته أبطالا أسطوريين، يتم الاحتفاء بهذه الأسطورة أثناء الاسترجاع والسخرية من الحاضر.

يصاحب تمجيد الماضي رفض اللحظة الحاضرة من خلال الوضع غير المريح، الذي تعيش فيه الشخصيات، يقول في قصة قبل ساعة: "شقة ضيقة بالطابق الرابع، فيها غرفتان باردتان، بينهما مطبخ صغير." )ص 5( نلاحظ أن السارد أعطى كل المواصفات السلبية للشقة، وفي ذلك تقديم صورة عن حاضر الشخصيات وما تعانيه الشخصيات من ضيق واختناق يقول: "بيتي صغير وحالتي سيئة." )ص 34(.
وفي أحيان أخرى يصل رفض الحاضر إلى السخرية، كما هو الحال في قصة حافلة رقم 20 التي يسخر فيها من زمن بأكمله، قد يكون هو القرن العشرين، انطلاقا من الحافلة وما تحمله من هموم الركاب بشكل يومي، يتم التقاطها من حوارات الشخصيات في قالب ساخر يتداخل فيه الحلم بالواقع: "لا يذكر القرناوي متى امتطى الحافلة [...] يقول إنه ربما ولد بها ذات يوم أو ليلة، وحينما غادرتها أمه نسيته، أو قذفت به من تلقاء نفسها بين أقدام الركاب ومضت حيث لا تعلم." )ص 47(، ويعطي للمجموعة القصصية بعدا باروديا يسخر من أوضاع الشخصيات ومن زمنها.
إذن هناك جدل وتوتر بين الماضي والحاضر، يترتب عنه رفض الحاضر والسخرية منه وتجريحه، مقابل الاحتماء بالماضي وتمجيده، إذن تنبني قصص المجموعة على لحظتين متناقضتين الأولى حميمية )الماضي( والثانية مرفوضة )الحاضر(، فالشخصيات من الناحية الوجودية تعيش الحاضر، لكنها فكريا وذهنيا تعيش الماضي وتحاول استرجاعه.

وبذلك ينفتح القاص على الذهنية المغربية الشعبية، التي دائما تحن إلى الماضي وتعتبر كل ما يرتبط به أحسن حالا من اللحظة الحاضرة، لمجرد أنه ماضي، وذلك ما أحسن فعله محمد غرناط في قالب قصصي محبوك.

2- الكتابة المقطعية

تبنى محمد غرناط في إخراجه لقصص المجموعة الاثنتا عشر الكتابة المقطعية، وذلك في القصص التالية: قبل ساعة، المفتاح، أشباح الشاطئ، حافلة رقم 20، الباب الآخر، الحزام الكبير، النم نامة، رسائل الغفران، عبداس. في القصة الأولى: هناك سبعة عناوين داخلية )عشرة( تعطي للقصة طابعها المقطعي، في القصة الثانية: هناك سبعة مقاطع تفصل بينها نجيمات... وفي القصة الثالثة، هناك مقطعان تفصل بينهما نجيمات، وفي القصة الرابعة هناك خمسة مقاطع تفصل بينهما نجيمات، وفي القصة الخامسة هناك خمسة مقاطع تفصل بينهما نجيمات، أما القصة السادسة فهي مقسمة إلى مقطعين كبيرين معنويين )حديث في زمن ما / وبعده بحوالي سنة( المقطع الأول مكون من ستة مقاطع مرقمة، أما المقطع الثاني فهو بدوره مقسم إلى مقطعين مرقمين، أما القصة السابعة فتتكون من أربعة مقاطع تفصل بينهما نجيمات، أما القصة الثامنة، فتتكون من مقاطع معنونة بالحرفين أ و ب اللذين يتناوبان، يعكسان تناوبا بين ساردين، أما القصة التاسعة فتتكون من ثلاثة مقاطع تفصل بينهما نجيمات.
نلاحظ أن تسع قصص من الاثنتي عشر المكونة للمجموعة احتفت بالكتابة المقطعية، والتي يمكن أن نفسرها كما يلي:

1- تعدد وجهات نظر الساردين من أحداث مشتركة كما هي الحال في قصة رسائل الغفران، مما يقتضي انتقالا على مستوى الورق.

2- تماشي هذه المقاطع مع أوضاع الشخصيات مع انتقالها بين أماكن مختلفة كما هو الحال في قصة قبل ساعة.

3- التركيز على لحظتين: الأولى مرتبطة بظروف الشخصية داخل البيت، والثانية مرتبطة بأوضاعها بالعمل، كما يعبر عن ذلك مقطعا قصة أشباح الشاطئ. أو تعكس فترتين زمنيتين مختلفتين قبل وبعد كما هي حال قصة الحزام الكبير.

إن هذا الميل إلى الكتابة المقطعية في هذه المجموعة القصصية يماشي جدل الشخصيات بين الحنين إلى الماضي ورفض الحاضر، وكذلك عدم استقرارها، مما يجعل أوضاعها متقطعة وحياتها متشذرة، فكانت الكتابة المقطعية هي الأقرب إلى نقل مثل تلك الأوضاع.

3- الحبكة القصصية

تنطلق قصص المجموعة، دائما، بحالة بدئية منظمة ومرتبة ثم يقع طارئ ما إما بسبب فقدان قريب أو سماع خبر ما يكسر استمرار تلك الحالة البدئية، وبذلك تنتقل الشخصيات من حالة عادية إلى حالة استثنائية، تحاول الرجوع إلى تلك الحالة البدئية. وإما تبدأ القصص بشكل مباشر في التحول والانتقال إلى الحالة الاستثنائية، مثلا في قصة عبداس: "ليلة البارحة عاد إلى البيت في حالة غير معتادة." )ص 129( يساهم هذا التحول في توتر الشخصيات وإرباكها ويساهم في تحبيك أحداث القصة. ويعمل القاص على التقاط لحظة إحباط هذه الشخصيات في وضعها الجديد، الباعث على العجز وعدم القدرة على الفعل، يقول في قصة: الباب الآخر "منذ تركت زوجته البيت فقدت حياته نظامها المعتاد" )ص 59(. هذا العجز يجعل الشخصيات كثيرة الانشداد إلى الماضي فتضطر إلى الاسترجاع، كما هي حال بطل قصة الباب الآخر الذي يسترجع ذكرى الزوجة: "كانت تنهض قبل الأطفال، تنظف وجهها بسرعة [...] وتهيئ له فطوره، ثم تدرج بهدوء نحو السرير، وتمد يدها إلى رأسه، تحركه برفق وتهتف باسمه، تمسد على شعره بأصابعها حتى يفتح عينيه، يتثاءب ويفرك أجفانه بكفيه، تقول له إن وقت العمل قد حان." )ص 59(.
كما تشترك قصص المجموعة في خاصية عامة وهي أن الشخصيات تخرج من فضاء مغلق داخلي إلى فضاء خارجي مفتوح، عبر هذا الخروج يتم الإعلان عن الخروج عن المألوف، والبحث عن سر التحول الذي طرأ للشخصيات، ونقدم نماذج من القصص الثلاثة الأولى:

  القصة الأولى: يقرأ البطل خبرا على الجريدة، وهو وفاة زوج حبيبته القديمة، ثم يخرج للبحث عنها.
  القصة الثانية: تحاول الشخصية الخروج من الأبواب التي وجدت نفسها في مواجهتها.
  القصة الثالثة: يخرج البطل إلى البحر للبحث عن رزقه. نجد الشخصيات تخرج نتيجة طارئ ما، وهذا الخروج ليس عاديا، يكسر الحياة العادية للشخصيات، وهو ذريعة بالنسبة للقاص، تنم عن تحول آلت إليه الشخصيات، ودخولها إلى برنامج سردي وفي حبكة قصصية، لتغدو شخصيات قصصية.

إذن تنبني قصص المجموعة على علاقة توتر بين الماضي والحاضر تعيشه شخصياتها، التي تحاول البحث عن الكينونة داخل راهنها المرفوض، وينتج عن ذلك نوع من الإحباط واللاجدوى. تلك هي اللعبة السردية التي أفلحت في شد انتباهنا وانتباه قارئها.

4- الاشتغال على اللغة

يتجلى اشتغال محمد غرناط على اللغة في انفتاحه على الأمثال الشعبية والعبارات العامية الدالة التي تحيل على أفق دلالي غني بالرموز والدلالات، وتحيلنا على المرجعية الشفوية والذاكرة الشعبية، وهذا التوجه ليس جديدا عند محمد غرناط، وإنما ابتدأه منذ مجموعته الصابة والجراد، وأنضجه في مجموعته داء الذئب، التي احتفت كثيرا باللغة العامية، وفجرت حمولاتها الدلالية، عبر تعريب الكثير من الكلام الدارج، مما جعل تجربته القصصية تنفتح على الواقع في حميميته.

يتخذ الاشتغال على اللغة في هذه المجموعة المظاهر التالية:

1- يتم توظيف بعض العبارات العامية كعناوين لبعض القصص. حمار الليل، خاتم السعد.

2- الأمثال الشعبية: ويتعامل معها بطريقتين:

أ – يتم توظيفها كما هي: خصوصا عندما تكون قدرته الإيحائية قوية، دون أن يكلف نفسه عناء تحويلها. "اللي خاف نجا" )ص 69(.

ب – تعريبها وتحويلها إلى اللغة العامية مع ترك آثار الشفوي فيها، وهي الغالبة بالمقارنة مع الأولى، ومن ذلك:

 "لا أحد يعرف من أين يأتيه رزقه" )ص 60( )حتى واحد ما يعرف مين يجيه رزقه(.
 "إن النملة حينما يريد الله عذابها يمنحها جناحين" )ص 63( تعود إلى )النملة ملي يبغي الله يعذبها يدير ليه جنحين(.
 "لكن النار لا تترك سوى الرماد" )ص 113( تعود إلى )العافية كتخلي غير الرماد(.

3- التقاط الحكاية الشفوية التي نسمعها كل يوم على ألسنة الناس العاديين في حديثهم اليومي، وكيف يتم إدخالها إلى السرد على لسان بعض الشخصيات مثلا: "كثيرون عاشوا مثله يتامى، ولكنهم كبروا وصاروا رجالا." )ص 52(.

4- التقاط اللغة اليومية في بعدها الساخر يقول: "شغل جهاز كاسيط وانداح صوت مغنيه أبغضها. صوت غبي، بدا لي أنها تعوي تحت ثقل نزل عليها." )ص 123 وهذه الصورة الساخرة مستوحاة من لغتنا اليومية الغنية بمثل هذه الصور.

5- ميتولوجيا الواقع

انعكس جدل الشخصيات بين الماضي والحاضر، على أحداثها وأفعالها وجعلها تتداخل بالحلم، أصبحت بعض الأحداث بمثابة أحلام يقظة، فتتراوح الشخصيات بين الحلم والواقع، إذا يغدو واقعها حلما مرفوضا، تحاول أن تجعله عابرا وتريد التخلص منه.
هكذا تقع الأحداث في تماس بين الواقع والحلم، وتبدو كثير من أفعال الشخصيات، ذات طبيعة خيالية حالمة، كما هو الحال في قصة: حمار الليل التي تحتفي بالحلم وتشتغل عليه بشكل كبير من ذلك قوله:

  "وعادت إلى بيتها تمشي مائلة كأنها في حلم." ص 110.

  "إنني لا أكون واعية عندما يحدث لي ذلك في البداية أكون مفتوحة العينين، أرى كما يرى عباد الله. وفجأة أحس كما لو أن غيمة بيضاء تغشي عيني." )ص 111(.
  "يبدو لي أنني تائهة في حلم لا نهاية له." )ص 115(.
فنجد أنفسنا أمام واقعية ميتولوجية ساحرة تولدها المفارقة التي تعيشها شخصيات المجموعة بين الحنين إلى الماضي ورفض الحاضر.

تـركيـب

انعكس الحنين إلى الماضي على البناء القصصي لمجموعة الحزام الكبير وذلك على عدة مستويات: أولا: على مستوى الزمن، جدل بين الماضي والحاضر، وثانيا على مستوى، الحبكة، بتحويل حدث عادي إلى حدث قصصي، وثالثا: على مستوى اللغة: بتفجير حمولاتها الدلالية. ورابعا: على مستوى الكتابة، بالنزوع إلى الكتابة المقطعية. وخامسا: الانفتاح على الحلم.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى