السبت ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم بسام الطعان

الحياة حلوة

برفقة الصمت المريب، والخيالات الشاردة، وفي صباح خريفي بائس، كنت أسير بقامة منتصبة خلف جنازة رفيق الطفولة والصبا، أو بالأصح بالقرب من نعشه المحمول على الأكتاف، بينما عقارب الأفكار تدق في كل خلية من خلاياي، وتريد أن تأخذني إلى عوالم الهذيان.

صديقي لم يكن ميتاً على الإطلاق، والدليل على ذلك أنه كان يتحدث إليّ دائماً، وأنا كنت أتحدث إليه وابتسم، وأحيانا أضحك بصوت عال حين يقول لي النكت الكثيرة التي يجيدها بامتياز، فتسقط عليّ النظرات المستغربة وتهتز الرؤوس أسفاً.

قبل أن نصل إلى محطتنا الأخيرة، رفع رأسه وقال لي بصوت مصبوغ بكل أنواع الحرمان:
 آه يا صديقي، آه وألف آه.. العين تبكي والقلب يتحسر.
ثم ابتسم وأضاف:
 الحياة حلوة، أليس كذلك؟
حين جاوبته وأنا أضحك كي أبعد عنه الهموم، تدلت الرؤوس الـتي فقدت ملامحها من فوق الأكتاف، حدقت العيون إلى جيداً، وطارت منها آلاف الغربان، تمتمت أفواه كثيرة، بعضها طلبت أن أطرد وأمنع من المشاركة بالتشييع الذي لم أعترف به أصلاً، وبعضها سخرت مني واتهمتني بأشياء كثيرة، أما أنا فتعجبت وتساءلت في داخلي: «لماذا لا تتدلى الرؤوس وتحدق العيون إلا عندما أتكلم أنا فقط؟».

ما إن وضعوا النعش بجانب الحفرة حتى تطلع إلى من حوله، ثم تمطط وحاول النهوض لكنه لم يستطع ولا أدري لماذا، حينئذ طلب المساعدة وهو يتوسل، فلم يستمع إليه أحد، فما كان منه إلا أن نظر إليّ وابتسم، ثم قال نكتة أضحكتني كثيراً، وبينما كنت مشغولا بالضحك، سقطت كف ثقيلة لعفريت ابن عفريت على رقبتي، كادت توقعني أرضاً، بعدها سمعت شتيمة بذيئة جدا، شعرت بحقد طاغ تجاه كل الموجودين، التفت إلى الوراء وأنا أغلي، فرأيت الوجوه الواقفة خلفي محايدة تماماً.

حين حملوا النعش، رفع رأسه فرأيت وجهه ينبض بالصحة والعافية ويلمع مثل قنديل في الليل، وحين أراد أحدهم أن يدخل رأسه إلى داخل الصندوق رغما عنه، أمسك صديقي بيده وعضها بقوة حتى امتلأ فـمه بالدماء، ولكن يا للعجب، لم يتأوه الرجل ولم يشعر بأي شيء على الإطلاق، وقبل أن يدخلوه إلى الحفرة راح يصيح بصوت مصحوب بغضب دفين:
 اتركوني.. لم أفعل شيئا..

في لحظة أكثر من هستيرية، انتفضت كل حواسي، وكان نبضي يجري عتيا بين القبور، وفجأة عفرتهم بالتهديد والوعـيد، ثم اندفعت باتجاه النعش وكل همي أن أخلصه من بين براثنهم، ولكن قبل أن ألمسه، اعترضتني الأيدي والأفواه وصادرت فمي المليء بالشجب والاستنكار، اقترب مني ثلاثة رجال وجوههم معفرة بالتراب والعرق، حملوني بصمت وألقوا بي بعيداً وعادوا إلى عملهم.

سمعته يناديني باسمي، فلملمت بعضي، ومن بين الأرجل زحفت عبر الأشواك باتجاه الحفرة، وما أن وصلت إليها حتى مددت رأسي، نظرت إليه فرأيته ينتحب بصمت ويقول بهمس: « آه يا دنيا». في البدء كاد يغمى عليّ، لكنني تمالكت أعصابي فمددت له يدي وقلت بصوت خفيض:
 انهض بسرعة لنهرب.

بغتة سمعت شتيمة مزلزلة، ثم سقطت على رأسي وظهري محتويات الأفواه، هوجمت من عدة جهات وانهالت عليّ الصفعات والركلات التي لا ترحم، وبعد لحظات وجدت نفسي وحيداً، منكسراً، مهزوماً، ومرمياً فوق الأشواك والصخور الجارحة.

لوثوا ثيابه الناصعة البياض بالتراب وهو يصيح:
 أخرجوني يا صعاليك.. لست ميتا بل أنتم الميتون.

ثم رسم لوحة بالبراءة وأضاف:
 الحياة حلوة ولم أتمتع بها بعد.

كل نداءاته ذهبت أدراج الرياح وبمغمضة عين صار تحت التراب، أما أنا فطردت كل آلامي ولملمت شـجاعتي، واندفعت نحوهم كثور هائج، أبعدتهم عن طريقي، وقفت فوقه، ناديته، ثم تمددت إلى جانبه:

 كيف افقد شهامته ورجولته ودعابته وحديثه المحبب، هذا حرام يا ناس انه لم يفرح بشبابه، ولم ينم لصق الجسد الأنثوي بعد، أرجوكم أخرجوه فمكانه ليس هنا.
لم أسمع جواباً من أي بني آدم، ولكن بعد لحظات تقدم مني أحدهم وأراد أن يبعدني بالقوة، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما سمع أحدهم يقول:
 اتركه يفعل ما يريد، انه...

بقينا أنا وصديقي وحدنا، جثة فوق التراب وأخرى تحت التراب، ولكن ظلت أصواتنا الضاحكة تعلو وتطير مع طيور اليمام فوق الأودية والسهول، بينما كان الآخرون يخرجون من المقبرة تباعاً


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى