الاثنين ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم بلقاسم بن عبد الله

الدكتور عبد الملك مرتاض في حوار خاص

• القسم الثاني والأخير.

.. وقد تتفق معه أو تختلف، ولكنك سرعان ما تعترف بقيمته العلمية والأدبية.. حيث يظل الدكتور عبد الملك مرتاض وفيا للبحث العلمي مخلصا لحرقة الكتابة، عبر قرابة نصف قرن،أنتج ما يزيد عن أربعين كتابا في شتى مجالات دنيا الأدب والنقد والإبداع..

وبعد أن تابعنا في القسم الأول من هذا الحوار الهام جديده الأدبي للموسم الحالي، وحضوره وغيابه عن المشهد الثقافي الجزائري.. نعود إليه لنسأله عن النخبة في الجزائر ومدى التواصل بين الأجيال، ثم نستمع إلى وجهة نظره في كيفية التعامل مع لغة الإبداع، إلى جانب رأيه في الجدل الثقافي بين بلدان المغرب و المشرق..

  أشرتم في حواركم لمجلة العربي في عددها لشهر نوفمبر2009 إلى بذور ظهور ما يسمى بنخبة باللغين العربية والفرنسية في الجزائر، هل هناك تواصل أم انفصال بين الأجيال؟..
 لا أعتقد، أنّ في الجزائر نخبةً ثَقِفَةً حقيقيّة على غِرار ما يوجد في فرنسا، ومصر، ولبنان، مثلاً؛ ولكن توجد مجموعة من الثَّقِفِين المتباعدين، جغرافيّاً وفكريّاً ولغويّاً، وهذا ما يجعل هذا الوضع الثقافيّ في الجزائر شديد الخصوصيّة والتعقيد. ولو قُيّض إنشاءُ مجلّة أدبيّة متخصّصة يتحلَّق من حولها كتّابٌ ومفكّرون معيَّنون لكنّا عَسَيْنا أن ننتظر تكوُّنَ نخبةٍ مفكّرة مبدعة من الطراز الرفيع، فغاية كتّابنا، فيما يبدو لي، -وأرجو أن أكون مخطئاً- أنّهم ينشرون مقالات في الجرائد اليوميّة، هنا وهناك، وهي مقالات بائسة غالباً ما تملؤها الأخطاء المطبعيّة التي تتعرّض لها نصوصهم حين طبْعها، لضعف كفاءة الراقنين، وجهلهم بالعربيّة! ومثل هذا الصنيع الثقافيّ لا يقدّم ولا يؤخّر! وكأنّه ليس حدَثاً! وكذلك أَرَى، ولا أريد أن أحمِلَ الناس على ما أَرى!..

  نعرف عن أدبهم أكثر مما يعرفون عن أدبنا.. كيف تنظرون إلى الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق؟..
 تلك مسألة قديمة، أم تريد منّا أن نُعِيدَها جَذَعَةً، بعد أن كنّا تناولْنا هذا الموضع مراراً، كما تقول العرب؟ هُم إلى اليوم، لا يكادون يلتفتون إلينا، وأوّل رأي لهم فينا أنّا لا نعرف العربيّة! غير أنّ هذا الرأي بدأ يتغيّر، فإنّي وأنا مقيم أثناء برنامج مسابقة أمير الشعراء، بالإمارات، كانت تتقدّم إليّ دُورُ نشرٍ راقيَة لأدقّقَ لغة النصوص المؤلَّفة أو المترجمة التي تنشرها. كما قدّمت إليّ مجلّة أحَدَ أعدادِها لأدقّقَ لغته. بل إنّ بعض الكتّاب كانوا يستفتونني في قضايا اللغة والنحو. ومن أطرف ما تعرّضت له في هذا المجال أنّ اثنين من الأدباء اختلفا في حرْفٍ من اللغة، فجاءَ إليّ أحدُهما، ولم يكن مُحِقّاً، يترجّاني، وأنا فقيه اللغة وعالمها كما يزعم هو، لأجدَ له مخرَجاً من اختلافه مع صاحبه، مُلتَمِسَه في النوادر والشوارد من اللغة يُفحم به صاحبَه!

وقد قال لي يوماً (أظنّ ذلك كان في سنة 1989)، وأنا بفندق سبأ بصنعاء الصديق المرحوم الدكتور مصطفى ناصف، وقد كنّا أجرينا ندوة شارك فيها عبد السلام المسدّي من تونس، وإبراهيم عبد الرحمن من مصر، وكاتب هذه الأسطار من الجزائر، وكان منشّطها الصديق الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح.. قال مصطفى ناصف ما معناه، وهو يخاطبني: أتريدون أن تعرفوا الحقيقة؟ إنّ إخوانكم في المشرق يعزّ عليهم أن تواجهوهم بشيء لا يفهمونه! (وكانت الندوة عن الحداثة النقديّة)...

جئت بكلّ هذا ليس لأفتخر بنفسي، ولكنّي سعيد بذلك لأنّي استطعت أن أغيّر من موقف المشارقة إلى المثقفين الجزائريّين...

 تعتمد كتاباتكم الأدبية على مخزون لغوي ثريّ ومتنوع، ترى كيف تتعاملون مع اللغة في إبداعاتكم الأدبية؟..
 أُلْقِيَ علينا هذا السؤال في أكثرَ مِن لقاءٍ أدبيّ، ويبدو أنّ العربيّة ضعُف شأنُها، وسقطت منزلتها، حتّى اغتدى الذي يكتب بلغة عربيّة سليمة، يعُدّه الناس استثناءً في التصنيف، وشذوذاً في التأليف!.. لقد كنت أجبت مراراً عن هذا السؤال بما معناه: إنّي، إلى هذا اليوم، أتعلّم العربيّة، وأدقّق شواردها ونوادرها، وأقُصّ مذاهبَ العرب في استعمالاتها. حتّى زعم الدكتور سليمان عشراتي يوماً أنّي لا أستعمل من مخزوني اللغويّ، حين أكتب إلاّ عشرين في المائة!..

وربما يكون في هذا الرأي شيء من الحقيقية التي هي في اللغة القديمة، ليستْ ما نفهمه من هذا اللفظ في الاستعمال المعاصر..فأنا حين أقرأ، أو أسمع، ألفاظاً مثل «الحقيقة»، والمِنْطقة، والفنّان، والناقد..وسَواءَها كثيرٌ، غالباً ما ينصرف وهْمي إلى معانيها الأولى في العربيّة، وكلّ لفظ يُحيلني، على بيت من الشعر العربيّ القديم، أو مثل سائر أو قول مأثورٍ.. وأودّ أن أُثْقل على القارئ، بأنْ أتوقّف لدى لفظٍ من هذه الألفاظ هنا، وكيف كانت دلالته في العربيّة القديمة، وهو «الحقيقة»؛ فقد كان يُستعمَل هذا اللفظُ في اللغة العربيّة قبل ظهور الإسلام، استعمالاً واسعاً بمعنى ما يَحِقُّ عليك حِفْظُه، فكانت «حقيقة الرجل: ما يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَمَنْعُه، ويحقّ، عليه الدفاعُ عنه من أهل بيته» (لسان العرب).

فالحقيقة لدى قدماء العرب كانت تعني ما يجب، أو ما يحقّ، عليك حمايتُه ومنْعُه حتّى لا يُؤْذَى؛ أو ما هو حقٌّ لك من الأشياء والممتلكات، ثمّ تُنوسِي هذا المعنى القديم، لهذا اللفظ الجميل، بضَعْف الحميّة الجاهليّة التي لم يبرَح الإسلام يحاربها، واغتدى موقوفاً على معنى الشيء اليقينيّ في التصورّ لدى الفلاسفة، ولدى أهل التصوّف أيضاً.

كما أنّ هناك مئات الألفاظ في العربيّة تُكتب مُرْفُولوجيّاً على نحو واحدٍ، ولكنّها في نطقها مختلفة، وكلّ اختلافِ نُطْقٍ يُحيل على معنىً، فيخلط العوامّ ويعيثون في العربيّة فساداً. ولذلك تراني أشكل كثيراً من الألفاظ من ذلك النوع حتّى لا يذهبَ وهم قارئي إلى غير المعنى الذي قصدت إليه من وراء توظيف اللفظ في الكِتَابِ.وهناك مئات الألفاظ التي جمعناها، وربما سنُقْدم على نشرها مع قضايا لغويّة أخرى...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى