الرحلة الأدبية والإشباع النفسي
عرف الانسان الرحلة منذ القدم لأنّه جُبل على حب التنقل والحركة ، هذه الأخيرة التي تُعدّ روح الحياة وسمة أساسية في التركيب الجسدي والنفسي للإنسان ، وقد هيأه الله لها وجعلها إمكانية ضرورية لحياته ، وهي تتسق مع الهدف والغاية التي خُلق من أجلها وهي تعمير الأرض وعبادة الله عز ّوجلّ [1] .
ولما كانت الرحلة نقلة في الزمان إذا كانت بالفكر أو الخيال ، ونقلة في المكان إذا كانت الرحلة حقيقية فإنها تعمد الى إشباع العديد من الحاجات لدى الرحالة سواء أكانت هذه الحاجات إدراكية أم معرفية أم روحية مما يؤدي الى تخفيض حدة التوتر وحلول الاتزان والتخلص من القلق الذي يهدد السلامة الداخلية للفرد .
ولما كانت الرحلة أيضا سلوكا هادفا فإنها محكومة بمثيرات داخلية تحرك هذا السلوك وتوجهه ، وهي ما يُعرف عادة عند علماء النفس بالدوافع التي رغم تنوعها"تتفق بصفة عامة في مصدرها وهدفها ، فمصدر الدافع هو حالة عدم الارتياح ،وتوتر يشعر بها الانسان ، وهدفه هو التقليل من التوتر الذي يشعر به الفرد والوصول الى حالة الاتزان " [2] والاستقرار التي يصبو اليها كل فرد سوي ، مع العلم أنّ "الدافع لا يتحرك إلا حين يشعر المرء بتهديد أو خطر " [3]، فالدوافع إذا قوى انفعالية تحرك نشاط الانسان وتوجهه نحو هدف معين .
وقد ميّز علماء النفس السلوك الذي يكمن وراءه الدافع أو عدد من الدوافع بصفات [4] نستطيع من خلالها أن نستدل على درجة الدافعية(قوة الدافع) ، يمكن رصدها فيما يلي :
1- الطاقة المبذولة :إذ كلما ازدادت كمية الطاقة التي يبذلها الفرد في سلوكه ،كلما كان ذلك دليلا على قوة الدافع الذي يحرك هذا السلوك .
2- الاستمرار أو الإصرار : فكلما قوى الدافع واشتد، ازدادت كمية الطاقة المولدة ،و ازداد إصرار الفرد على الوصول الى الهدف .
3- التنوع : كلما اشتدت الدافعية كلما نوع الفرد في الوسائل المحققة للهدف ، " فتنوع السلوك المبذول هو دالة جزئية على قوة الدافعية " [5].
فالرحالة بقدر توقه الى الترحال وقوة تحمله مصارعة المجاهيل و إصراره على اختراق الآفاق البعيدة ، بقدر ماهو محكوم بجملة من الدوافع والحاجات بوصفه كيانا متعدد الأبعاد ؛ فهو يمتلك بعدا بيولوجيا وآخر نفسيا ، وآخر اجتماعيا ، ولكي يتمتع الرحالة بحياة مستقرة هادئة في ظل علاقات اجتماعية منظمة لابد أن يحقق الحاجات المشْبعة لكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة جملة وتفصيلا . ولمزيد من الفائدة نحاول أن نفيد من علم النفس للوقوف على جملة الحاجات بأنواعها مع عدم إهمال درجة الدافعية .
تنوع الحاجة ودرجة الدافعية :
قسم موراي الحاجات الى حاجات ظاهرة صريحة وأخرى كامنة مكبوتة تعني "الحاجات التي لا تعبر عن نفسها إلا في تعبيرات ذاتية تخييلية أو تعبيرات شبه موضوعية كالخطط والتداعيات ومن أمثلتها :
1- المعرفة : وهي الرغبة في التفحص ،ويمكن أن تظهر في حاجات الشخص للاستكشاف وحب الاستطلاع والقراءة والمعرفة بكل سبلها ، بما في ذلك الرحلة التي تعد من أهم الوسائل المعرفية القديمة والحديثة ، لما للرحالة فيها من حرية في الاحتكاك بثقافات وعادات وتقاليد البلدان المزارة ، ولما فيها من استكناه واستنطاق للآخر البعيد جغرافيا .
2- السيطرة : أو ما يعرف بالرغبة في القوة المطلقة ويمكن أن تظهر في حاجة الشخص للتأثير على الآخرين أو قيادة أفراد الجماعة وتنظيم سلوكهم .
أما الحاجات الظاهرة فيمكن أن نمثل لها بالإنجاز الذي يعني أن نحقق شيئا صعبا في أكبر سرعة ممكنة وبأكبر قدر من الاستقلال الذاتي متغلبا على كل العقبات التي تواجهك وهنا نود الإشارة الى أنه "كلمـا ازداد الدافع كلمــــا ازدادت حركـيته
و حساسيته " [6] ، بمعنى أنّه "كلما قوي الدافع واشتد ،كلما ازدادت كمية الطاقة المولدة ، كلما ازداد إصرار الفرد على الوصول الى هدفه " [7].
ولما كانت الرحلة في حد ذاتها إنجازا وخاصة إذا كانت فردية** فإنه لا يهم فيها لحظة الانطلاق أو مكان الوصول بقدر ما يهم فيها ما يؤدي إليه الوصول من الإشباع وتحقيق الذات ، هذه الغاية الأخيرة التي يرى ماسلو [8] أنها من الحاجات التي لا يمكن إشباعها على الإطلاق ، ذلك أنها كلما أُشبعت كلما ازدادت نشاطا وإلحاحا وبالتالي تغذي ذاتها بذاتها ، وهو ما يفسر توق الرحالة الى المزيد من التجارب الرحلية كلما كانت رحلته أصعب وأشق ، ولعل خير مثال نمثل به في هذا المقام هو الرحالة ابن بطوطة أو "أمير الرحالين" كما حلا لجمعية كمبردج أن تلقبه في كتبها وأطالسها ، إذ رغم الصعوبات والعراقيل التي واجهها الرحالة أثناء رحلته الأولى لانعدام الأمن وعدم توفر وسائل النقل المتطورة ،إلا أنّّ ذلك لم يحد من رغبته الملحة الكامنة في نفسه لشد عصا الترحال الى مناطق أكثر غورا في عالم الآخر البعيد، عبر رحلاته الثلاث كما هو معروف .
وقد صرح ابن بطوطة في مطلع كتابه عن دوافعه الحقيقية التي جعلته يؤثر السفر والتنقل على المكوث في مكان بعينه إذ يقول : " كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر رجب الفرد عام 725هـ معتمدا حج بيت الله وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، منفردا عن رفيق آنس بصحبته ،وركب أكون في جملته ، لباعث على النفس شديد العزائم وشوق الى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم " [9] ، فإذا كان الرحالة قد أفاد في هذا التصريح أنّ دافع الخروج الرئيس روحي بالدرجة الأولى ، فإن ذلك لا يمنع البتة من وجود دافع آخر وسمه بالنفسي لم يفصح عنه بذاته وإنما أفصح عنه حسين مؤنس حين أجمل دوافع الرحالة في ظاهرة الشوق الى رؤية الدنيا والناس [10]
ولو تقرينا خبر كبار الرحالة في أدبنا الجغرافي لوجدنا أن ظاهرة الشوق الى رؤية الدنيا والناس كانت الدافع الأساس عند أكثرهم فهذا المسعودي صاحب (مروج الذهب ومعادن الجوهر ) يُقرّ بأنّه خُلق مولعا بالتنقل والمغامرة والتجربة ومعرفة أحوال الناس ، مؤمنا إيمانا جازما أن " ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمي إليه من الأخبار من إقليمه كمن قسم عمره على الأقطار ، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار واستخراج كل دقيق من معدنه ، وإثارة كل نفيس من مكمنه " [11] فالرحلات العربية وغير العربية كانت لها دوافعها التي تحركها وبواعثها التي توجدها ، وقد تعددت هذه البواعث وتلك الدوافع من رحالة الى آخر ، فمن مسافر لتحقيق رغبة نفسية ،الى مسافر هربا من أوضاع لم يتحمل العيش في ظلها - كمدام دي ستال التي خرجت من فرنسا الى ألمانيا هربا من اضطهادات نابليون لها ، فكان كتابها" من ألمانيا " بمثابة طريد ينشد ملاذا في عالم مثالي- ، الى مسافر في بعثة دبلوماسية أو علمية أو تعليمية كخير الدين التونسي ورفاعة رافع الطهطاوي وابن فضلان على التوالي كل بحسب طبيعة رحلته . وقد أثبتت جل هذه الرحلات أنّ الرحلة بماهي تجربة تمكن الرحالة من التخلص من مختلف التوترات الانفعالية و تجنبه ألوانا من الصراعات الناجمة عن تفاعل الفرد مع بيئته ، وهذه الصراعات التي تهدد سلامته وأمنه الداخليين لأن ما يهدد أمن الفرد قد يكوّن خطرا داخليا متمثلا في القلق والصراع ،كما يمكن أن يتعدى مداه الفرد الى المجتمع فيصبح خطرا خارجيا .
الرحلة والنشاطات النفسية
أولا : الرحلة والتخييل:
الرحلة وسيلة لإشباع حاجات الانسان الروحية ( إذا كانت رحلات حجية ) ، وحاجته لمعرفة خبايا العالم المحيط به لاستنطاق مكنوناته (إذا كانت رحلات استكشافية ) ، وهي لا تقف عند هذا الحد ؛ إذ تؤثر على القائم بها فتسمح له أن يحقق ذاته ، ليخرج من حالة الكمون التي يحياها ،وبمقدار ما يحقق خلالها من إشباع يتحدد اتزانه وصحته وسعادته ، ولعل أكثر ما يكون ذلك واضحا في الرحلات الخيالية باعتبارها " الانتقال المتخيل الذي يقوم به الأديب عبر الحلم أو الخيال الى عالم بعيد عن عالمه الواقعي ليطرح في هذا العالم رؤاه وأحلامه التي لم تتحقق في دنيا الواقع " [12] وربما كان من أبرز مظاهر هذه الرحلات الخيالية الرحلات الباطنية التي يقوم بها بعض الصوفية والتي "تتطلب تجربة معيشة على المستوى الواقعي ، وأخرى ذهنية لعالم متخيل ، يجنح الى صوغ أفكار وتأملات معينة تتماس مع المقولات والتصورات الصوفية والفلسفية والدينية التي ترسم رحلة النفس في بحثها عن عالم آخر يكون بديلا عن الواقع وصولا الى المطلق واليقين " [13] حيث يجد فيها الرحالة نفسه متحررا من أسر العالم الخارجي وبذلك تتحقق له مطالب اللذة التي يسعى اليها شقه الحيواني ، ومطالب الحكمة التي يسعى اليها شقه الإنساني، مما يجعلنا نعدّ الرحلات الخيالية بمثابة أحلام اليقظة التي يعرفها فرويد بأنها عدول التخيلات ،لأنها تتشكل للتعبير عن رغبات مكبوتة تتميز بالذاتية والنرجسية لا يمكن لأي مجال أن يضمن لها الستر وعدم الكشف إلا الحلم .
والرحلة أيضا بوصفها "إحدى البنيات التخييلية الأكثر التصاقا بمدارات الكتابة الروائية في الأدب الإنساني قديمه وحديثه" [14] يمكن عدّها من صميم الأعمال الفنية التي عرّفها فرويد بأنها " إشباع خيالي لرغبات لا شعورية شأنها شأن الأحلام وهي مثلها محاولات توفيق ، حيث إنها بدورها تجتهد كي تتفادى أي صراع مكشوف مع قوى الكبت " [15] ، وكما يسعى الإبداع لإحداث التوازن كذلك تفعل الرحلة التي يسعى صاحبها الى إشباع فضوله وتحقيق ذاته و إرواء حاجاته النفسية المختلفة ، وإن كان ذلك لا يكون بصورة تامة ، ولعله في الإمكان تشبيه فضول الرحالة لارتياد الآفاق واختراق المجهول ، بحاجة الطفل للمعرفة التي لا يمكن إشباعها. فهي تدفعه باستمرار لأن يعيد ترتيب أفكاره وفق النموذج الأكثر معقولية لأنه يبتغي الاطلاع على تحديات المستقبل .كذلك الرحالة يبتغي الاطلاع على تحديات الأماكن الأجنبية وما تحمله معها من مفارقات على مستويات متعددة .
ثانيا : الرحلة والتسامي :
"الإعلاء أو التسامي عملية عفوية ، ولكن الحاجة اليها تكون شعورية على الرغم من أنّ هذه العملية قد تبدأ في بعض الأحيان قبل أن يشعر بها المرء بوقت مديد " [16] ، وقد عرفه فرويد بوصفه القدرة على تبديل الهدف الجنسي الأساسي بهدف آخر غير جنسي ، كحب الاستطلاع والبحث مثلا ، بحيث يصبح البحث قهريا بديلا للنشاط الجنسي .
وكأن هذه العملية تقوم على تغيير الموضوع بالنسبة للغريزة وتحويل الطاقة المتصلة بالرغبات والدوافع الممنوعة (كالرغبات العدوانية والجنسية المحرمة ) الى توجيهات اجتماعية وثقافية وأخلاقية وفنية سامية ونافعة ، ولأجل ذلك يُعدّ التسامي أو التصعيد من العمليات الواقية من المرض النفسي الذي يدفع إليه الحرمان عادة .
ولعلنا في هذا المقام نرشح الرحالة جيرار دي نرفال كأحسن ممثل لهذا المبدأ ؛ إذ بعد فقده لحبيبته جين كولون التي أحبّها حتى العبادة حمل عصا الترحال متجها الى الشرق بل الى مصر بالذات التي كان ظل يحلم بزيارتها ، وعنها كان كتابه الموسوم بـ" رحلة الى الشرق" .
وقد ولع نرفال بطبيعة الشرق الجميلة ومناظره العجيبة وشمسه الوضاءة المشرقة ، وليس هو أول المولوعين بالشرق وطبيعته الساحرة الفاتنة ولكنه واحد من الرحالة الرومنتكيين الذين شدوا الرحال الى الشرق بحثا عن أسمى المواد والصور الرومنتيكية كما يقول فريدريش شليجل .
فنرفال برحلته الى الشرق قد حوّّل رغباته المكبوتة الى حب للاستطلاع والبحث لتحقيق حلم لطالما راوده ، فالتسامي من الوجهة النفسية هو العملية المباشرة للإبداع الفني الذي ارتقى إليه نرفال ، لقد كانت رحلته بالفعل علاجا نافعا لأنه استرد في هذا الشرق البعيد ثقته بنفسه وبالحياة وانتصر مؤقتا على شبح الجنون الذي كان يطارده .