الأربعاء ٨ شباط (فبراير) ٢٠٢٣
بقلم الحسان عشاق

الرقيع في مقهى الربيع

مقع على الكرسي، شارد الذهن، أتأمل تأملي بانزعاج متقطع،وجوه مألوفة وأخرى عابرة، أحداق فاغرة ترعى في جرائد الصباح، جماجم متعبة، انخرطت في حوارات مستهلكة،المقهى مهرجان بخس، يفتح فخديه للصالح والطالح، عيناه الضيقة موزعة بين رواد المقهى والطريق، فتاة شبه عارية، تلامس رجالها الإسفلت بنعومة، شيطان متمرد يندفع من الجسد المندلق، المقل تلتهم البطن الحليبي في اشتهاء، تنتحر فوق الصدر في قدسية،تتحلب الأفواه، ترتخي العضلات وتنقبض، الكلمات النابية فرقعت، يسيل الفم باللعاب، أراقبه باشمئزاز، تستفزني بامتعاض القهقهات المبهمة اللافتة للانتباه والسخرية المرة.

اعرفه مند سنوات، قامة طويلة، فم فارغ يشبه مؤخرة قرد أجرب، وجه كالح يتوغل في أعماق الزمن الراعف، العبارات تضمخها شراسة بدوية، كأنما ترجل عن حمار بالأمس، المخيلة سجينة قبائل تدق طبول حرب خفية، من يجالسه ويسمعه يحس أن بالروح يتصارع الماضي والحاضر والمستقبل، الصراع المرير تمخض عن تيهان شقي يكبس على الحوباء بقوة، مذعور تعتصره الرتابة، يمضغ أحداثا بلا ألوان، يحمل مدمنا من الدخان المر ، يمضمض حكما بلا تاريخ، وقبورا بلا موتى، وأشرعة بلا سفن، عنف متكلس، يسكنه، يلبسه، في كل النقاشات ينحشر، في كل الجنازات يمشي، في كل الولائم يندس، يقبل أيادي الأسياد، تدغدغه الطبطبات، فينتشي كطفل قضى سحابة يومه في الزقاق وأفلت من عقاب أب جبار، وتدمع عيناه بالفحش إن حاصره العتاب، يتخيل أندادا تترصده في كل ركن وزاوية، يسب الناس، ويجدف على الله، مواضيع يومية مقرفة لا تبرح غسيل البيوت، وفتاوى الشيخ النفزاوي، عندما يدخل المقهى، يتعكر لون الصباح، يتمزق الاحترام، تنخدش الأشياء الجميلة، يفقد السائل الأسود طعمه.

لماذا هو سخيف ووقح يقلق راحة الناس بالكلام العاهر -لأنه عاهر- يمطط الشفتان،يزمها،يحركها بدون توقف، كمن يمضغ جسما استعصى على البلع تلمع العينان الصغيرة كعيون قط جائع، لطمته رائحة السمك، انطفأت مثلما اشتعلت، لقد راني ،تسربل الوجه بالقتامة، بالأمس كان جليسي، تركته يمطرق دماغي، يسبح في محيطات لا تنتهي من السخافات، يروي عطش الصدر الملتهب، قفزت الجثث،حرائق وقنابل، زلازل وبراكين، امتلأت السماء بالدخان، الأحياء تغرق في المزابل، المدينة وكر للرذيلة، أقفرت من المثقفين والمبدعين السياسيين الشرفاء،المدينة مرحاض عمومي، أبحلق في الوجه المنقبض، القسمات تتغير، وحوش خرافية تسكن بين مقاطع الألفاظ، ترتعش الفرائص، تخرج العينيان من المحاجر، يهرب الدم من الوجه، ينضح عرقا، تأوه، تلملم، ارتشف من كوب القهوة، ألقى نظرة ثاقبة على المقهى،كشر بازدراء.

انظر إليهم أولاد الكلاب.... الأمية تزحف على وجوههم -أشار بالسبابة إلى مجموعة من الأصدقاء، طأطأت راسي، لا أريد أن أحاصر فيه شهوة الثرثرة، صمت برهة، ينتظر تعليقا ما، اندفع متهورا كاندفاع ادم نحو الشجرة المحرمة، أصدقاء، أقرباء، أبرياء، يساقون بوحشية إلى مصانع جهنمية، يوضعون فوق المشرحة، يعرون بوقاحة، تهتك الأعراض بالأسنان، يقطع، يمضغ، يفتت، يتلذذ، تشم فيه رائحة سادية متقيحة، من كثرة الكلام الفاحش والكره المدفون في أقبية الجمجمة، تخيلته يحترق، الدخان ينبعث من الأدنين و الانف الكبير، والرأس ألأشعت المتسخ، اغرورقت روحي بالأسى، شيخ يتدحرج نحو العقد السابع، يتنور بالخلاعة، يهزج لها حتى الثمالة، أن كراهيته للأخر صرخة ،إدانة لحياة مهزوزة، ذبيحة نهشتها أنياب الحرمان، وعفنها الفشل، لكثرة جلوسي مع معارفه القدامى، عرفت عنه أشياء،عرفت انه عاش طفولة بائسة، تربى في وكر يعبق برائحة العرق، الأجساد فيه أدمنت العري، كؤوس السائل الأسود تنتقل بين الأفواه، الرقص والتصفيق وهزات البطون، مفاتيح الليالي، كل ليلة تفترسه الكلمات الخشنة، وتهزه قعقعات الزجاجات الفارغة، عندما تهاجمه التأوهات المبهمة، والحشرجات الجريحة، والشجارات الدامية، يهرب مرعوبا إلى الفضاء الواسع، يمزق الدروب ويخيطها، في العقد الثاني، ابتسمت له الدنيا، أصبح موظفا يعيل نفسه، اعتقد انه تخلص من الماضي الذي لوث دمه، لكن المرأة التي اختارها أما لأولاده، وأدت الفرحة فيه إلى الأبد،ضبطها متلبسة، فاتحة الحوض للغريب، يعبث فيه، المفاجأة لجمت اللسان والعقل، قطرات العرق تنزل من الإبطين باردة،آلاف الأسئلة تناسلت،وتدافعت في الدماغ كركام الأحجار، كيف تسللت الخيانة إلى البيت، كيف لامرأة لحس عودها المخاض ست مرات، أن تدمن لعبة الفراش مع الغرباء، تحسس الأماكن التي لا تراها الشمس، تفرس في وجوه الأبناء، كأنه يراهم لاول مرة، صراخهم يمزق نياط القلب، شعر بالدوار والغثيان، الدنيا لم يعد لها معنى، الماضي اللعين يطارده، مند زمان يذرع مصارين المدينة، هاربا من سياط الفشل، واغتصاب الفحولة، حارب بجميع السبل ليمحو ماضيا ملطخا، ليلمع صورة مخدوشة، تملق،تطفل، تمسكن، تهمز، تحزب بالبطن عشرون مرة، لم يهضم فن السياسة،فارتمى راضيا في أحضان الخساسة، واستراح العقل إلى اشتعال الوشاية، اندس في العمل الجمعوي، لم يتبن قضية معينة، فاستوى متسولا، يستجدي الأبواب الكبيرة، جرب فن الكتابة، فتحول إلى بوق للدعاية، يمجد اللصوص والخونة، فالقلم معروض في سوق المزاد، مستعد أن يمشي على أربع ليركب سيده الحقير،من اجل حفنة أوراق، أو كيس شعير، فلا عجب فالكتابة أصبحت تصحو وتمشي على رنين الدراهم، فالكتابة شطارة، والشاطر من يمدح القذارة، ينمق العبارة، يزيف الحقيقة، لتنشط التجارة.

الفشل يلاحقه، يترصده، عفن الخلايا،الماضي أخطبوط من حديد، والذاكرة الموشومة بالكراهية تأتي كل صباح، من عمق الفاجعة، من ضباب الزمن الميت المسنود على القبح، تسقط متهالكة على الكرسي، تتدلى أغصان الحقد،ينفتح الفم الفارع، يقيئ نفس الوجبة الكريهة التي تعوي في الجلد،ينشر عبوسا، ويعتق عبوسا تكلس تحت الإبط مند زمن المخاض، دودة الخلاعة عشعشت في العظام، والكلمات ترقص مند المهد على أبواب الفاجعة، كل صبح تبتلعه دروب، تتبوله أخرى،يتسوق الأخبار، ينمقها، يطرزها، يتبلها، يهولها، ليقدمها جاهزة لتدفن في رأس المقهى والأماكن العامة، يقف لساعات طوال يتصفح الجرائد، يعيد التصفح عدة مرات، الجرائم الفظيعة قطرة ماء في عز الحر، برد وسلام على دهاليز الروح المسربلة بالخيانة، أخبار الشواذ والجواسيس، والخيانات الزوجية، وجبات دسمة، تلتهم بشره، يغرق نشوة إذا سقطت عيناه عل خبر مغفل شرب من الكأس التي شرب منها،صور قديمة وجديدة تنكسر على أبواب اللسان، اختنق كما يختنق الآخرون بالمواضيع الرثة، تدهشني الشطحات الجنونية، تقرفني، تغثيني، أشفق عليه، دبيب الحمق يزحف، يقضم شجرة الدماغ، ينخر الكيان، ولا غرابة أن التظاهر بالحمق أصبح من سمات العصر، فالحمقى مرفوع عنهم القلم، لهم أن يفعلوا ما شاءوا، أن يحولوا الناس إلى أقنان، قرابين رخيصة، أمام حاكم مخبول، أن يقيموا سجونا للظالم، وقمقما للكلمة الطيبة، أن يخمشوا الأفكار، أن يحاربوا الفراشات بالرداءة، فهذا زمن مداجن الأحيال. يشيعني بنظرة تحمل أكثر من معنى، يضحك ملئ شدقيه، اتكأ على الكرسي متهالكا، زم شفتيه، احتضن الرأس المتسخ بين الراحتين، اليدان ترتعشان، تملكه شعور بالضجر الممزوج بالإذلال، امتقع لونه،فار سقط في برميل من الأصباغ، طلب كوب ماء بارد، دفعه في الجوف دفعة واحدة، انعكس الخيال الشاحب على الزجاج، بحلق في السحنة، فرك الجلد المدبوغ فركا، حصان هرم، معلق فوق قوائم رخوة، لطمه الماضي البعيد كقبضة شرطي، كان يحلم أن يصبح شخصا مهما، كاتبا كبيرا، بطل في زمن انقراض البطولات، رجل سلطة بأمر ويطاع،تنهد تنهدة عميقة، هرش الرأس، شيع الدراجة الرابضة على الطوار، سرح هنيهات قليلة، يستعيدا أحداثا وشمت خارطة حياته، استعاد هدوءه، غاص في دروب الخيال الواسعة، يبني قصورا تم ينسفها، يبتدع شخصيات وهمية، يقدسها، يعبدها،يسوقها إلى الموت، يقيم حكاما من الياسمين،فيقوم بعزلهم، يتزوج، يطلق، يسكر، يصلي، يبلس جبة وطربوشا يخلق المعجزات، يكاد يحيي ويميت، ينتظر أن يطلع عليه الوحي من باطن الأرض،أوهام طرزها عقل مخرف، ينزلق مستسلما نحو هاوية الجنون، لا ادري لماذا اندفعت في ذهني قصة فاضمة،كلما تفرست في تقاسيم الوجه المحفرة، وفاضمة هذه سيدة من أذم خلق الله، أقبحهم صوتا وصورة، كانت سليطة اللسان، سيئة الطبع، تعاني من نزعة تدميرية، تحولت إلى رمز للشر والتطير داخل الحي، ولتنتقم لنفسها، أصبحت تترصد الفتيات الجميلات في الأعراس والحفلات، تمزق وجوههن بالأظافر الحادة، وخوفا من بطشها تعمد النسوة إلى إخفاء خدودهن بالحناء، ودون سابق إنذار انفجرت.

 انك رقيع مقهى الربيع وبامتياز
 كيف ….
 كما تسمع، كما انك مربي العجول ولست مربي العقول
 ....

هوت عليه الكلمات كقذيفة طائشة،انتابه غضب مهيض، لقد جرح الكبرياء الجريح، ارتفعت اليد مهددة، انتفض من فوق الكرسي مذهولا، يدي أطبقت على الزجاجة الفارغة، علق الهيكل الطويل على الدراجة المهترئة، غاص في زحمة الزقاق، خيل إلي وهو يغادر المقهى على عجل مهزوما أشبه بوثن قديم، عبثت به قرون القرون، تحول إلى شيء تافه ,القهقهات الفارغة تهتك حجاب الصمت، تتلوى الأعناق الحالمة، المنهمكة في،حل الكلمات المتقاطعة، الفم الفارغ يتبرز التفاهات، يركب موج الدمار، صاهلا حول مواجع البشر،يداري فضائح نابتة في عمق الأعماق، قدره أن يقضي سنوات العمر في العويل،يقلق راحة الناس بالآراء السخيفة التي يعصرها في الكؤوس، تعلو الضحكات، ينمسخ الوجه الكالح، يتحول إلى أخاديد تشبه خربشات طفل على الورق، لكل أخدود حكاية اكتنزت أمالا مهشمة إلى آلاف الشظايا، حفرت في النفس ندوبا غائرة، نبثث فيها الكراهية، لكن هل يستطيع إنسان عاقل أن يكره بهذا العنف، فالكراهية والحقد عاملان قويان يدفعان الفرد الذي يقع فريسة لهما إلى الدمار والموت البطيء، كيف لعقل يقف على عتبة القبر أن يهجره الاحترام ويقيم للخلاعة عرسا متوهجا، أن التفكير في هذه الأشياء يصيب بعسر فهم وتلبك، لماذا لا يجلس على قمة الصمت ساعة ليكتشف أغوار الذات...؟ ربما تخلص من عقدة الماضي، لكن هيهات لقد أدمن ركوب الحماقات، السباحة في المياه العكرة، زمن ثقيل يكبس عليه، سمم الدماء، عفن الأشياء الجميلة، إذا انخرط في حديث ما يعرج مدفوعا ويتهور ينهش أسرار الخلق، كان قوة خفية توجهه، كان الذهن كتاب مفتوح، يتغذى غسيل البيوت، فسلام على أسرة التعليم، سلام وألف سلام وقبلة، سلام هو حتى تفرق بين النحل والذباب، سلام عليها يوم تودع الرسالة في أيدي المعتوهين، في أيدي المجانين…..

كأنما تعذبه البسمة في أعين الآخرين فيسرع إلى حمل مدية الخلاعة لاغتيالها، الغريب انه يحاول أن يترك انطباعا بأنه مثقف من طينة نادرة
 صحيح عندما اسمعه لا أرى فيه سوى قرادا للقرود أو واحدا من رقاة الثعابين في أدغال أسيا.
 أن أمثاله كالأورام الخبيثة في مزارع العلم والمعرفة المصيبة انهم يتكاثرون كالجراد.
 هل لاحظت انه لا يستطيع إتمام جملة واحدة دون شتيمة....؟

استمع إلى الحوار الساخر، اضحك، انتعش بداخلي، تسافر الحمامات فوق جبيني،تقفز الفراشات، تغرد العصافير، نفخت فيه ذاكرتي، قالت له هيا شخ اهرم، تضببت الرؤى، استوى عجوزا،محدودب الظهر، الفم المفتوح محج لأسراب الذباب، الانف الكبير ازداد كبرا، السيقان الطويلة، خراطيم مياه معلقة في الهواء، صهرتها الشمس، سيقان حصان هدته السنوات وآلاف الكبوات، أسمال ممزقة نتنة، الجميع يتجنبونه، الأطفال يرمونه بالحجارة، تعامل البعض معه أشبه بتعامل الفاضلين مع الجياع عندما يسعون إلى تخفيف جوعهم، القهقهات الفارغة، تشدخ الرؤوس، الكلمات النابية سممت الجو،اختلطت الأصوات، تكلمت اليد في الوجه، سقطت المائدة، لكمة تم صفعة، تفجر الدم من الانف الكبير، هاج الشاب هيجانا شديدا،جدبه من وراء الظهر الذي احتمى به، تمزق القميص البالي الملطخ بقطرات الدم، ازداد الضجيج والصخب، رؤوس تشرئب، عيون متسائلة، حاول البعض فض النزاع، لمعان السكين في اليد، ولد التردد، جمد الدم في العروق، علت الآهات، تناسلت التعليقات، اتسعت الدائرة، ازداد المكان ازدحاما، اسقط أرضا، ضربات على الصدر والبطن، صرخات وأنات متقطعة، ترك مكورا يتوجع،سحبه صاحب المقهى إلى المرحاض، اللعين سب والدة الشاب المتوفاة.

المقهى شبه فارغة، وحيدا يجلس عيناه دامعة متورمة، والانف ازداد حجما، ينظر يمنة فيسرة، من خلال نظراته الخبيثة، رأيتني مصلوبا في ساحة عمومية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى