السبت ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم عبد السلام المودني

الزبون الوحيد

مستند بكوعه إلى المشرب الخشبي. وجهه متغضن، عضلاته متقلصة و طرفه ذاهل في نقطة بعيدة مخترقاً حدود المكان و الزمان. تململ بدون مقدمات، فأحدث ذلك قطيعة مع صمت طويل لم يجرؤ أحدهما على قتله، ثم قال بصوت متهدل، كأنه يحتاج لمدة طويلة و لدًُربة قاسية كيما ينفض عنه الغبار، كاشفا عن فضلات أسنان لبقايا فم لشظايا وجه لذكرى رجل عاش في شبه زمن.

 " باقلال" !

بحركة لاإرادية تململت لتململه المفاجئ، و زاد في ربكتها أنه أعتق أخيراً لسانه من معتقله. لكنها تملك ما يكفي من حنكة السنين لمجاراة الاحتمالات الطارئة، رغم أنها كانت تنتظر منه كل شيء إلا أن يبادرها الحديث حتّى عندما دخل بدا و كأنه ثمل، صامت متصلب في مسالك الصمت البعيد. لم يلق تحية، وعندما أراد أن يختار مشروبه لم يتفوه بكلمة بل أشار لها بطرفه في حركة حادة ، و لبت طلبه متوقعة أن يتجرأ مع الوقت و ينطلق لسانه كما يحدث دوماً مع السكّيرين من أشباهه لكنه أبداً لم يكن كظنها به من طينة الآخرين. ثلاث ساعات أمضتها رغم أنها أبدت لامبالاتها الظاهرة ،بيد أنها في قريرتها ووعيها توجست منه، و ظلت ترقب سكناته. رفعت حاجبيها بعدما ازدردت وقع المفاجأة لحظةَ ارتطام المتوقع مع الواقع، و اصطنعت ملامح دهشة أخرجتها من رف تعاملها، و قد اطمأنت إلى أن المفعول السحري للسائل الناري يصيب و لو بعد حين.
 الموقعة؟

عاد ليقول بتثاقل مضجر، و كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة أو أنه تحت رحمة كائن يجبره على الحديث معه رغم أنه البادئ و المبادر:
 الكابرال "باقلال". الكابرال رتبتي، و"باقلال" إسمي. أما الموقعة فقد سميت لأجلي كما اقترنت الرتبة باسم "كابو" الإيطالي الشجاع.

حسبت أنه أمضى زمناً لم يتكلم. كان كطفل يدرج خطواته الأولى في الحديث. هي تكره أشدّ ما تكره في مهنتها زبون صامت. و الأشد ثقلاً على نفسها و وطأة على أعصابها و طاقة تحملها أن تبتلى بآخر مجنون، تزيد الخمر في دفعه إلى أعماق هوته السحيقة حيث لا قرار غير سديم أعمى . لكن ماذا تملك غير الصبر و مجاراة الزبون الوحيد. فالزمن زمن أزمة حانات. والطرقات هُجرت إلى المضاجع مخافة الهلاك بعدما سقطت قذيفتين الأسبوع الفائت على حانتين في الشارع الخلفي فأحالتاهما إلى أثرين لبقايا حديث متشظي ملفوظ مع حشرجات الألم لقاء صدمة مفاجئة.

لاشك أنه مجنون فعلاً ليدخل في ساعة مثل تلك إلى هذه الحانة. أما هي فلا تملك و لا تعرف غيرها التي اختزلت سني تواجدها في هذه المقاطعة. اختارت مجبرة البقاء على الفرار وقالت بإصرار:

(الأجدر بالمرء أن يُقضى في مكان كسب عيشه على أن يَهلك جوعاً).
ألقى إليها بهذا الخيط الدقيق الذي لن تضيعه. ستستأجر ما فضل لها في جورب صبرها لتتحمله، وستُعمل كل حنكتها علها تظفر منه بشيء. من يدري؟ ليلة مؤداة الثمن مثلاً. أعادت تقليب صورته أمامها مرة أخرى بعدما عبثت بها مرات قبل ذلك علها تفلح في فك شفرة الزبون العصّي. كل ما كان عليه يشي بعته حقيقي يتخايل مع وجوده.

في الساعة الأولى لدخوله بدا كعسكري مستقيم يؤدي واجباً مقدساً في بزّة عسكرية أنيقة، عمد إلى فتح أزرار قميصه في الساعة الثانية. و انتهى مع بداية الثالثة إلى نزع كنزته و إلقائها بإهمال على كرسي بجانبه، و تخلّى معها عن هالة الصمت التي أدخلها معه و صحبته كل تلك المدة مطوّقة وجوده. لقنتها مهنتها المتعبة جداً أن تحفظ حدوداً وهمية تصون بها بعضاً من رمزية شخصها كأنثى وحيدة، و سلعة وحيدة معروضة في حيّز ذكوري خالص، تستثمرها فيما بعد في التفاوض في ليلة مؤداة الثمن مثلاً. لأجل ذلك أظهرت نفوراً مقابلاً لصمته المعلن في الساعة الأولى ، و بدأت تلين بعض الشيء في الساعة الثانية و كادت تبادره الحديث. ولاطفته بنظرة رقيقة لم تفعل سالف فعلها. و جربت عطرها الذي تلاشى في المسافة الفاصلة بينهما قبل أن يتسلل إلى خياشمه، لكنها أحجمت استناداً إلى قاعدتها الذهبية. و عند بداية الساعة الثالثة ركنت إلى جهاز التلفاز أنيسها الوحيد بعدما فقدت كل أمل في زبونها الوحيد.هي تلعن الزمن الذي دحرجها إلى هوّة مثل هاته لتصبح عرضة لموقف ساخر مثل ذاك.

في سني اشتغالها الأولى ما كانت لتلحظ وجود شيء مثله، بيد أنها الآن تخطت مسرعة عقدها الرابع من عمر أنفقت أكثر من نصفه في السهر و الإنطلاق إلى أن اصطدمت يوما بالأحداث الرهيبة لصور بثتها مرآتها اللعينة. فاجأتها التجاعيد مستلقية على وجه كان نضراً طرياً، و زحفت حتّى أسفل عنقها. واكتشفت متفاجئة أكثر من مرة وزنها الذي تضاعف في لحظة غفلة منها. و تراخت طبقات اللحم المطعّمة بالشحم بعضها فوق بعض في فوضى جسدية بادية، تحاول مداواتها بالتحسرعلى ما مضى، وبالأصباغ و بعض الغنج البائد.

في الماضي كان الزبناء كالنمل . حيثما ولّت وجهها تلتقي بنظرات الأمل والرجاء. يتسابق الجميع لأجلها. هي نقطة البداية والنهاية. لأجلها أقيمت الولائم والمراهنات والمقالب والمطاحنات. الكل كان يأتي لأجلها، علّه يظفر بليلة مؤداة الثمن الباهض مثلاً أو بموعد أو بكلمة مجاملة أو حتّى بنظرة تجود بها لحظة من لحظات رضاها و صفاء خاطرها. كل ذلك غدا أثراً من ذاكرة أيام هرعت فارة مقررة عدم العودة حتّى صار جسدها قفرا كالمكان تماماً.
فكرت قليلا في أن جنونه معروف يقوده كما يفعل دوماً مع جل السكارى يدارون خيباتهم بالحديث عن بطولات وهمية ، لكنه مضى أبعد قليلاً إذ زعم أن الموقعة الشهيرة التي عرفت تكبد إخوة الشمال هزيمة مريرة. لكنها مع ذلك مصرة على حفظ حبل الكلام معه. فعمدت إلى قاموس المجاراة تبحث في ثناياه عن كلمات تبقي الأحمق المدّعي أطول فترة ممكنة داخل حانتها المهجورة، المائل ضوؤها إلى الإحمرار. وبينما هي في بحثهاعن الكلمة المناسبة قال فجأة وقد انتصب و عيناه على التلفاز:

 ارفعي الصوت.

استسلمت مذعنة لأمره. أليس الزبون ملكاً؟

أخذ يحملق بعته جليّ في مقدمة الأخبار التي رأى فيها وجها آخر لساقيته. تصورهما متشابهتين حد التطابق. ملامح وحيدة، نفس الشفتين الممتلئتين و ما تفرجان عنه من كلمات ملغومة، و الطلاءات الصاخبة التي أحالتهما إلى دميتين آدميتين. كذاك كانتا فعلاً. قالت بصوت حماسي:

( يحتفل شعبنا اليوم بالذكرى الأولى للإنتصار الكبير في موقعة "باقلال" الشهيرة على العدو الغاشم، حيث كبده خسائر فادحة في الصفوف و العتاد و أجبره على التقهقر خارج "تل الملح" بصفة نهائية. وعرفاناً منه بخدماته الجليلة، قام رئيسنا المفدى بتوشيح الكابرال"باقلال" البطل الذي استطاع بمفرده التغلب على جيش العدو فألحق به العارأبداً. إليكم مراسيم منح وسام البطولة مع مراسلنا الدائم من القصر الرئاسي العامر).

تابعت باهتمام مزيف اهتمامه المحموم بالموضوع، ثم ما لبثت أن شرعت عينيها دهشة بصدق هذه المرة لمّا رأت زبونها الوحيد نفسه يقف متصلباً أمام الرئيس في مراسيم التوشيح بوسام صنع خصيصاً له. كان يرقب الجهاز صامتاً و من خلفه دوي مدفعية العدو وأشلاء جثت تتخبط في رقعة الموت. وجوه تستغيث بالموت و أخرى تهذي. كل تلك الوجوه يعرفها ، يحفظها. أصابته شظية عمياء في ساقه اليسرى جعلته يترنح قبل أن يهوي بلا حراك. و استفاق على دوي أناشيد النصر الحماسية تصك صماخيه. و أمعنت في التودد له بعدما اكتشفت أنه لم يكذب، بأن رفعت صوت الجهاز بيد أن ردّة فعله أتتها مخيبة محاولتها مجدداً إذ صاح بصوت مجلجل:

 غيري لنا هذه القذارة.
و بدون قصد منها،هُرعت قناة العدو إلى واجهة الجهاز، إذ كانت التالية على اللائحة كأنها تتعقبه أنّى اتجه. و لمّا لحظت أهتمامه الكبير الذي تواطأ مع رغبتها المنطلقة، أبقت على الصورة مثبتة على قناة العدو. أعاد حملقته مجدداً في مقدمة الأخبار التي بدت شبيهة بمن سبقتها و ساقيته. وبنفس الصوت الحماسي قالت:

( يحتفل شعبنا اليوم بالذكرى الأولى للإنتصار الكبير في موقعة"الزيزي" الشهيرة على العدو الغاشم حيث كبده خسارات فادحة في الصفوف و العتاد أجبره على التقهقر خارج "تل الملح" بصفة نهائية. و عرفاناً منه بخدماته الجليلة، قام رئيسنا المفدى بتوشيح الملازم "الزيزي" البطل الذي استطاع بمفرده التغلب على جيش العدو فألحق به العار أبداً. إليكم مراسيم منح وسام البطولة مع مراسلنا الدائم من القصر الرئاسي العامر).

تابع بحذر شديد صورة الملازم و حركاته. كان كالماثل بين يدي موت آتيه. وقف قبالته تماماً بعدما استعاد وعيه. لاحظ أنه مصاب أيضاً لكن في ساقه اليمنى . وقف متصلباً و بندقيته اتجاه صدره. شيء ما يمنعهما من الحركة. أتاهما دوي مرعب لأناشيد احتفالية. روحها الوطنية دفعتها إلى خفض الصوت. فعلت ذلك مترددة ما بين ادعائين كالحقيقة تماماً. كلتا الجبهتين تصران على أنهما انتصرتا، و قدمت للشعبين صيغتين مختلفتين لنفس الرواية لكن بنهايتين متناقضتين. لم يعد يهمها شيء أكثر من معرفة الحقيقة التي كان زبونها الوحيد جزءاً منها. لم تعد تعنيها ليلة مؤداة الثمن مثلا ً. أدخلها دوّامة جديدة .عليها أن تحسن التصرف إذا ما أرادت كسب ثقته و فك لسانه الذي أضاف بتثاقل واضح و قرف كبير:

 غيري لنا هذه القذارة.
تتكالب الصدف تباعاً، و تبزغ قناة الحقيقة إذ كانت التالية. يظهر وجه ذكوري هذه المرة، لا تلتقي تفاصيله مع أحد ممن سبقه، فقال بصوت رصين:

( نحتفل اليوم بذكرى مرورعام على الإنتصار في موقعة "تل الملح" حيث نجحت قوات الحلفاء في القضاء على المتمردين و ردعهم عن أرضنا أبداً في بداية حرب تشهد هذه الأيام آخر فصولها. وحتّى نعيد إلى ذاكرتكم مظاهر قوة جيش الحلفاء التي ستُكرر عمّا قريب، نبث لكم الحقيقة لتلك الأحداث الموشومة في أرشيفنا الوطني. إليكم الصور كما التقطها المصور المصاحب لجيش الحلفاء).

كأنها تتنصت على وجيب صدرها المدوي و هي تكافأ على طول صبرها. مدرعات تشق المسافات في "تل الملح" حيث وقف رجلان أو بقايا جيشين، أحدهما في مواجهة الآخر و كلاهما يحمل بندقية موجهة صوب صدر الآخر، و ساد بينهما تصلب اضطراري عجزا معه على الحركة بعدما بلغهما هدير مرعب لآليات آتية من الغرب صوبهما مباشرة. و في نفس اللحظة تماماً كأنهما ينفذان أمراً عسكرياً صارماً، تراجعا مستديرين و قد بدا عرجهما.

كانت التحذيرات من عقلاء الشمال و الجنوب الأخوين قد انطلقت منذ مدة، تقول أن الوحدة سبيلهما الوحيد لمواجهة جيش الحلفاء، بيد أنهما لمّا اقتربا كثيراً و أوشكا على الحدث المأمول، اشتبكا في حرب أنهكت الجند والميزانية. فزحف جيش الحلفاء بسهولة و يسر دون أن يجد من يعترض سبيله. حينما استفاقت من صدمتها التي ألقتها إلى وهاد الصمت، أرادت سؤاله عن مكمن الضعف و الخلل.

( لا يمكن أن يحدث هذا، لقد قالوا أننا انتصرنا، و احتفلنا بذلك. واليوم يوم ذكرى و عيد و...) لكنها لم تجده أمامها، بينما هرعت نظراتها تحاول اللحاق به، فأدركت شظايا طيفه يعرج مخترقاً باب الحانة، وقد خلّف كنزته حيث وضعها أول مرة. و على المشرب الخشبي بضع وريقات نقدية كانت كل ما تسلمه من القيادة العامة، و هي ثمن سنين كذب مؤداة الأجر، و وسام يلمع. أخذت الوريقات ثم وضعتها بعناية و حرص في جارور خزنتها . ترددت لحظة ثم أخرجتها بحركة عصبية و ألقتها و الكنزة والوسام في سلة القاذورات، بينما جرتها صور قناة الحقيقة التي انتصبت على زاويتها العلوية كلمة "مباشر" ، وهي تتعقب مُدرعات جيش الحلفاء.

أطفأت الجهاز والهلع يركبها. لا زالت تسمع ذلك الهدير القوي المرعب. خرجت شبه مهرولة خارج
الحانة لتجد نفسها في مواجهة جيش الحلفاء مباشرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى