الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش

السارد في رواية "يالو"

تميز الدراسات النقدية الحديثة بين الكاتب والسارد، في حين لم يلتفت، قديماً، للتمييز بينهما، فقد نُظر إليهما على أنهما شخص واحد، من منطلق أن كل ما يكتبه الكاتب يُعد تعبيراً عن ذاته. لكن مع تطور الكتابة الروائية، وما رافقها من حركة نقدية، أصبح هناك ميل لجعل الكاتب خارج نصه، والتركيز على دراسة النص من الداخل.

فالكاتب حين يكتب، يستخدم تقنية السارد، ليكشف بها عالم قصة - أي أن السارد هو ذلك الشخص الذي يحكي لنا الحكاء- وهو مجموعة من الشروط الأدائية التي تمكن من يروي بأن يظهر كما لو أنه فعلاً سمع ورأى ما يروي، وكما لو أنه على علاقة فعليه بما يروي.

مع السارد، تقوم المسافة الفنية اللازمة لاستقلالية العمل، ولاستقلالية شخوصه. تلك المسافة تعادل قدرة الكاتب على إبداع شخصيات حية قادرة على النطق بصوتها لا بصوته. [1]

قد يُبقي الراوي على مسافة ما بينه وبين ما يروي، وقد يتدخل، فتحدد نسبة تدخله هويته الفنية. فقد يكون متوارياً، متحفظ الحضور، خجول الطلعة، وقد يستحيل إلى شخصية مركزية في الرواية. قد يبتعد كثيراً أو قليلاً عن شخصيات الحكاية التي يحكيها، وقد يختلف عنها أخلاقيا ًو فكرياً وزمنياً، وقد يتماهى معها. لكن يبقى هدفه الأول، أنه يريدنا أن نصدق الطريقة التي يسرد بها لنا هذه الوقائع، سواء اعتمد على زمن واحد أو على تداخل الأزمان، وسواء رويت الأحداث على لسان إحدى شخوص الرواية، أو رواها لنا مباشرة.

رواية "يالو" موضوع هذه الدراسة، كغيرها من روايات الكاتب، تندرج تحت رواية الحداثة التي يعرفها حليم بركات بأنها "رواية تحررية تجمع ما بين الجد واللعب الفني"، و "تسعى لأن تكون نصاً مفتوحاً على الاحتمالات والآفاق كافة، ومنها أفق المسكوت عنه، متعددة الأصوات، ومستويات اللغة". [2]

لكن كيف نميز السارد؟ ومن هو السارد؟ وما هي أهدافه، وكيف يرى ما يروي؟ تساؤلات عديدة يثيرها هذا اللفظ، نحاول الإجابة عليها من خلال الرواية، التي يتخذ فيها خوري راوياً لحكايته. هذا الراوي يستند في سرده على ذاكرة البطل، تلك الذاكرة التي بدت كأرشيف مميز، نظراً لامتلائه بالأحداث والوقائع، بفعل حياته الزاخرة بالتجارب، ابتداءً من طفولته البائسة ومحيطه العائلي وشبابه في الحرب وهربه إلى باريس، مروراً بأحداث" بلونه" وعشاقها، وانتهاءً بتجربة السجن والتعذيب، وتجربة الكتابة.

ينوع الكاتب أساليبه السردية، فيتخذ لعملية التبئير النصية، تارة "زاوية الرؤية من الخارج" حيث معرفة الراوي أكبر من معرفة الشخصية، وتارة أخرى يتخذ "زاوية الرؤية مع"، معرفة الراوي على قدر معرفة الشخصية الحكائية. يستخدم في هذا الشكل، ضمير المتكلم / الأنا، أو ضمير الغائب / الهو، أو تقنية السارد / المُخاطَب، أو التداخل بين الضمائر في السرد. لكن مع الاحتفاظ بمظهر الرؤية من الخلف، أو بمظهر الرؤية مع.

وبناءً على ذلك يمكن تقسيم أشكال السرد في الرواية على النحو التالي:

1- من صفحة (9-187)، ومن صفحة (189-204)، ومن صفحة (221-259)، السرد من خلال ضمير "الهو".

2- من صفحة (179-187)، ومن صفحة (205-219)، ومن صفحة (261-269)، السرد من خلال ضمير "الأنا".

3- من صفحة (261-372)، السـرد من خلال اللعب الروائي، "تداخل الضمائر في السرد".

السرد بضير الغائب:

يحرك الكاتب مسار الوقائع منطلقاً من السرد بضمير الغائب، بناءً على هذا التقسيم، حيث يحتل السرد بضمير الغائب / الهو جزءاً كبيراً من الرواية، انطلاقاً من ذاكرة الشخصية المتشظية، التي تمثل ذاكرة الحرب الأهلية بكل ما فيها من بشاعة وقسوة، ومن خلال تقنيات متعددة كالتداعي والحوار والاسترجاع للماضي.

يبدو هذا الراوي عليماً بكل شيء، يهيمن على عالم روايته، رغم اعتماده على ذاكرة الشخصية، فهو يختار موقعاً يسمح له بنوع من الرؤية الكلية، الأمر الذي يمكنه من التدخل. لكنه يكون مكشوفاً أحياناً، وخفياً أحياناً أخرى. مكشوفاً لا قصداً، بل لأنه ضعيف فنياً، لا يمتلك تقنيات السرد الفني. يبدو كالإله على دراية بالظواهر والخفايا، يستطيع أن يدرك ما يدور بذهن أبطاله، يدرك رغباتهم الخفية، التي ليس لهم بها وعي هم أنفسهم.

يقدم الراوي رؤيته للموقف من موقعه الخلفي الذي استطاع من خلاله أن يلم بما غاب عن الشخصية [3] "حين وجد نفسه محاصراً بحائطين: حائط السجن… وحائط الأوراق البيضاء، التي وضعت أمامه، من أجل أن يكتب عليها قصة حياته." لم يكن يالو يعلم أن هذه التقنية لسحب الاعترافات من المتهم هي الأكثر شيوعاً في العالم العربي مع السجناء السياسيين. [4]

ويبدو الراوي كلي المعرفة خفياً، أحياناً أخرى، بفضل قدرة الكاتب على بناء عالمه القصصي، وقدرته على الإمساك بتقنياته الفنية التي تمكنه من الخفاء والظهور بمظهر المحايد. فالراوي هنا مجرد وسيط، ناقل للمحكي، ما يعرفه يتساوى مع معرفة الشخصية. لا يقدم لنا معلومات أو تفسيرات، إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها. "الست غبريال قالت إنها ستعود إلى بيتها القديم، وإنها تكره ضاحية عين الرمان… قالت إنها لم تعد تطيق هذه الحياة، وإنها اشتاقت إلى جيرانها القدماء، وإن الحرب الأهلية انتهت أو يجب أن تنتهي". [5]

وقد تجنح بنية السرد – أحياناً – لتقويض سلطة الراوي العليم الذي تصدر السرد في الرواية، فيتحول إلى مجرد ناقل للمحكي، يُبقي على مسافة ما بينه وبين ما يروي، يروي من الخارج، ما يرويه من أحداث لم يقع في حضوره، فهو ليس عيناً تشهد وتروي، يروي فقط ما شاهده الآخرون، وما سمعه من آخرين الأمر الذي يعطي سرده قدراً أكبر من المصداقية والموضوعية. "الكلام الذي نسب إلى السائق، جاء بعد رحيل ماري وابنها إلى جهة مجهولة. قيل إنها انتقلت للإقامة في قرية الشويفات، حيث عاشت في كوخ…". [6]

وفي أكثر من مقطع يظهر الراوي بمظهر غير العارف، أو العارف الذي يمتلك الحقيقة ولا يمتلكها، مما يولد الالتباس بحقيقة ما يروي. فأحياناً يُشعرنا بأنه يعرف كل شيء بصفته راوياً للحكاية "كانوا يسمونه الروسي، لكنه لم يكن روسياً، كان يدعي أنه روسي أبيض، يقول إن روسيا كلها حمراء، ولا يوجد فيها سوى نقطة واحدة بيضاء اسمها الكسي، لكنه كان سريانياً نسي لغة أجداده". [7]

لكنه في مواضع أخرى يُشعرنا إنه لا يعرف "لا يعلم أحد كيف اختفى. فجأة لم يعد الأشقر موجوداً، بحثوا عنه في كل مكان فلم يعثروا له على أثر…". [8]

وتوظيف الكاتب للراوي كلي المعرفة حيناً، وتقويض سلطته حيناً آخر، لا يأتي من فراغ، إنما يأتي ليجعل بنية الشكل تقول إن الراوي لا يمتلك الحقيقة، ولتشكك في حقيقة ما يرويه.

2- السرد بضمير المتكلم / الأنا:

مع توالي السرد يتحول الراوي للسرد بضمير المتكلم / الأنا، يكتب يالو حكايته بناء على طلب المحقق، بعد أن اعتقل ووجهت له بعض الاتهامات أهمها: صلته بعصابة المتفجرات. يكتب يالو حكايته مرات عديدة، فنقرأ ثلاث صياغات لها، تروى جميعها بضمير الأنا، الضمير الذي تولدت نشأته عن السيرة الذاتية. [9]

يستخدم الراوي ضمير الأنا، ليكشف عن طيات نفسه وليعريها بصدق ويفضح نواياها، متخذاً من نفسه ومن غيره موضوعاً لسرده، يحكي عن نفسه وعن جده ووالدته، وإلياس الشامي، والكسي… وغيرهم. وهو إذ يروي عن نفسه، وعن الآخرين لا يتحرج في أن يكشف جوانب مخجلة من حياته، وحياة من يروي عنهم، مهما كانت درجة بذاءتها. فهو لا يجمل ماضيه وماضيهم، بل يعريه، ويكشفه بصدق ليقدمه كما هو، لا كما يجب أن يكون.

وباتخاذه ضمير الأنا يذيب النص السردي في الناص، ويجسد الرؤية المصاحبة، كما يقول (تودروف). أي أن كل معلومة سردية، أو كل سر من أسرار الشريط السردي، يغتدي متصاحباً. مع "الأنا" / السارد. مع الأنا المستحيل إلى مجرد شخصية من شخصيات هذا الشريط السردي. [10]

يروي يالو بضمير الأنا، في الزمن الحاضر عن يالو الذي كأنه في الماضي، ومع السرد تنهض مسافة زمنية، هي مسافة التحول بين ما كانه وما غدا عليه؛ مسافة تنهض عليها الذاكرة وتسمح بإعادة النظر والنقد والتقييم لحياته الماضية. يكتب حكايته فيكشف فيها أشياء لم تكن تخطر على باله من قبل. لذا يقرر التوبة وطلب الرحمة على ما قام به في الماضي "وأنا أعترف الآن… وأطلب الرحمة لروحي، فأنا قررت التوبة…". [11]

وباستمرار السرد يوالي يالو قصه عن ذاته من الداخل حيناً، ومن الخارج حيناً آخر، من خلال التداعي والاسترجاع معتمداً على ذاكرته كَمرْجِع.

3- السرد من خلال اللعب الروائي "تداخل الضمائر في السرد":

يبرز اللعب الروائي في يالو ما بين الصفحات (261-379)، فالكاتب يداخل بين أساليب السرد. تارة يستخدم تقنية السارد / المخاطَب (يالو / المحقق)، وتارة يستخدم ضمير الغائب، حيث يجرد من نفسه شخصاً آخر يروي عنه. وتارة أخرى يتداخل الضمير الأول / الأنا مع الضمير الثالث / الهو في السرد. "أؤكد لك يا سيدي القاضي أنني صرت إنساناً آخر. أعرف قصتي لأنني كتبتها، وسوف أكتبها من جديد إذا أردتم، لكنني أشعر، وأنا في السجن أنه لم يعد لي أية علاقة بالماضي. لم أتعلم من الماضي سوى الحب. نعم يا سيدي، لقد بدأ يالو حياته، عندما اكتشف الحب، لكن هذا الحب كان أيضاً سبب موته، يعني يالو وقع عندما وقف، وتشرشح عندما أصبح بني آدم". [12]

لكن يبدو اللعب الروائي على نحو أوضح منذ الصفحة (287)، وما بعدها حين يصير البطل ظلاً لنفسه، يحكي عن حياته وكأنها ليست حياته، يجرد دانيال من نفسه شخصاً آخر.

يروي عن نفسه وعن يالو الذي كانه. يروي وكأنهما شخصان مختلفان. "أنا دانيال سأكتب عني وعنه و عن جميع الناس… أنا جسد وهو روح". [13]

يفرز الراوي هنا أناه الظاهرة من أناه الكامنة، من تحت الذات الإنسانية والذات النصية، جاعلاً هذه الثنائية محوراً: الأنا الباطنة / والأنا الظاهرة، وكأن أناه الظاهرة شاهدة على أناه الباطنة. "الماضي يخيفه ويخيفني، لأن الأحداث اختلطت في شكل عجيب، يقول البارحة ويقصد منذ عشرين عاماً… وهذا الضياع أعيشه ويعيشه" [14] فالراوي ينبش الغائب من الأنا، ويلقي عليه ظلالاً تؤهل أبعادها للحضور، كشخصه تتماوج في حيز النص، تحاورها شخصية الراوي / السارد. فتُفتح من خلال الحوار فجوات بين الداخل والخارج، لتكشف أن الإنسان ما هو إلا نتاج بيئته التي يعيش فيها، بمحيطها وثقافتها، وبما تنتمي إليه من تاريخ وحاضر معاً.

هذه التقنية في السرد تأتي لزيادة الكشف عن اضطرابات الشخصية، وحالتها النفسية، بقصد تعرية جوانب الشخصية، وارتباطها بالماضي وتأثيره عليها.

وكأن بنية الشكل هي التي تنطق وتقول أن يالو ما هو إلا نتاج لواقعه، واقع الحرب الأهلية التي تغوص بجذورها إلى مذابح شهدها لبنان منذ عام 1860، فالحرب ذهبت بمستقبله، كما ذهبت بمستقبل العديد من الشباب، إضافة إلى الفقر والتربية المتزمتة التي عاشها في طفولته، ومحيطه العائلي. كل ذلك ساهم في صياغة حياة يالو بكل ما فيها من سواد ومآسي.

وأخيراً يمكننا القول أن هذا الأسلوب السردي الذي اتخذه الكاتب في روايته، طرح رؤيته غير المتشددة للحرب، تلك الرؤية التي توحي بتعدد الأسباب المسئولة عن الحرب في لبنان وتشابكها، متمثلة في تشرذم البنية الاجتماعية، والتناقضات الطائفية، وفي تاريخ لبنان المأساوي في الحروب الأهلية. وكأن كل ذلك اختزن في اللاوعي ليشكل ذاكرة اللبنانيين، وليتقاطع مع الواقع البائس للإنسان العربي في لبنان خاصة والعالم العربي عامة، متمثلاً في السجون ووسائل القمع والتعذيب وغياب الحريات.


[1انظر، العيد، يمنى: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، بيروت، دار الفارابي، 1990، ص90-98.

[2انظر، بركات، حليم: المجتمع العربي في القرن العشرين، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص799.

[3انظر، العيد، يمنى: تقنيات السرد الروائي، ص 97-98. وانظر، الحمداني، حميد: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000، ص45-49.

[4انظر، خوري، إلياس: يالو، ط1، بيروت، دار الآداب، 2002، ص228.

[5انظر، المصدر السابق، ص41.

[6انظر، المصدر السابق، ص163.

[7انظر، المصدر السابق، ص 137.

[8انظر، المصدر السابق، ص139.

[9انظر، مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية "بحث في تقنيات السرد"، الكويت، عالم الفكر، 1998، ص189.

[10انظر، المرجع السابق، ص 185.

[11انظر، خوري، إلياس: يالو، ص187.

[12انظر، المصدر السابق، ص 262.

[13انظر، المصدر السابق، ص 288.

[14انظر، المصدر السابق، ص 293.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى