السبت ١٩ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم نادية بيروك

السجن الرهيب

الظلمة الحالكة تحيط من كل جانب، الصمت المرعب يخنقني، وهذه الزنزانة الضيقة تكتم أنفاسي. رغم أنهم يزعمون أنني محظوظة لأنني أملك غرفة منفردة، لكنهم واهمون. لقد عزلوني هنا ليسجنونني، إنني أعيش بينهم أسمع ضحكاتهم أتحسس همساتهم ودعاباتهم، لكني لا أشاركهم بهجتهم تلك، حكم علي أن أكون الكبيرة، الكبيرة في كل شيء. في البداية كنت سعيدة بهذه العزلة، لقد سنحت لي أن أصادق الكتاب، أن أحبه كل الحب. على الأقل هو قادر على مساعدتي، بل هو الذي جعل مني تلميذة نجيبة، تحظى بإعجاب الأساتذة

وتقديرهم. على الأقل هو قادر على الدفع بي لتصدر الصفوف الأولى. قلما كان يخذلني الحظ، وما أكثر الأيام التي كانت تبتسم لي كلما خطوت نحو النجاح. لكن الكتاب غدا سجاني، أضحى قطعة من أحشائي. ألفته، تعودت عليه، ولاشيء جديد، لاشيء جديد. حتى بين أهلي، أشعر بالعزلة والإقصاء. لا مكان لي بينهم. عندما كنت أحاول اقتحام أحاديثهم، أقرا في نظراتهم شيئا من الرفض، علي أن أعود أدراجي من حيث أتيت. أن أتوجه صوب غرفتي لأنزوي هناك بين الأوراق، لأبتعد، فلا يصح لي أن أتصنت على أحاديث لا تخصني. فأنا الكبيرة. والكبير وجب أن يتصرف بمسؤولية، أن يبتعد عن محادثات كهذه. هذا ما كانت تقوله نظراتهم. لقد أصبحت أشعر أنني ولدت كبيرة وأنني سأظل كذلك من المهد إلى اللحد. فلا أذكر أنني مررت بمرحلة الطفولة أو بمرحلة المراهقة، كلاهما سيان بالنسبة لي. كلما قرأت عن هذه المراحل أغرق في الضحك فهي تبدو لي حبرا على ورق. فالإنسان كبير بطبعه، خاصة في هذا الزمن العجيب الذي يسبقنا دائما، فتجد نفسك قد كبرت وأنت في اللفة. كانت غرفتي في البداية ملاذا ومرتعا عذبا لي، كانت الأم الحنون التي يدفئني سكونها الهادئ. كانت الأب الرحيم الذي يأخذنا إلى دنيا الكلمة الطيبة والنغمة الصادقة، كانت الأخ الذي أسامره وأعاتبه، كانت الصديق الذي أبته شكواي وأحزاني، كانت تشهد ميلاد فرحة تجود علي بها نهاية العام. كانت تشهد أيضا انهمار دمعة تسكبها عيناي كلما أتعبها التأمل وصدتها البسمة. أما اليوم أصبحت غرفتي سبب نكبتي، أضحت سجن رهيبا، سجنا مخيفا، تلفه الوحدة ويشحنه الغموض، أصبحت أشعر بالفراغ، بالخوف من المستقبل، فأنا قابعة هنا اليوم أترقب مسيرة الحياة الصامتة. أعيش اللحظة تلو اللحظة ،لا أكاد التمييز بين اللحظات، أصبحت أدور في حلقة مفرغة، في حلقة مستديمة، إنه سجن مؤبد قضبانه من فولاذ، نسجتها السنين ودعكتها الأيام، تحكمت فيه العادة فألفه الطبع، فلا أنا استطعت التخلص منه ولا أنا استطعت الاستغناء عنه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى