الاثنين ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم السيد نجم

الســـــلام!!

بداية تعد الدعوة للسلام وتحمل تبعاته من أشكال المقاومة. تلك التي لو وجهت إلى الأنا توصف بالمقاومة السلبية، وان اتجهت إلى الآخر المعتدى وصفت بالايجابية.

المقاومة الايجابية.. هي الصورة الأقرب إلى الأذهان، حيث تعد الجانب الايجابي والمرغوب من فكرة (العدوان). وان كان (العدوان) مذموما بالعموم، إلا أنه لا يعد كذلك عندما يصبح دفاعا عن الذات الجمعية، أو تكيفا مع القدرة على الصمود، أو عملا فاعلا لمواجهة خطر ما. ذاك الخطر يتسم بتهديد مصالح (الجماعة) الحيوية أو يسيء إلى القيم العليا. يوصف فعل العنف في المقاومة الايجابية، بذاك الفعل الذي يتجه إلى الآخر المعتدى، والمنتمى إلى جماعته (هويتها وقيمها).

بينما المقاومة السلبية.. هي (أيضا) فعل العنف النابع عن إرادة وقرار ثم فعل، إلا أن هذا العنف يتجه إلى (الأنا) أو (الذات).. وقد يتجه الفعل إلى نقد الآخر وفحصه وتحليله من أجل كشف الجوانب السيئة في هذا الآخر المعتدى، دون أن يتسم الفعل بالعنف المباشر، على هذا الآخر. بينما قد يصل إلى ذروة عنفه مع الأنا أو الذات. لعل نموذج الزعيم الهندي (المهاتما غاندي) أكثر النماذج نضوجا وتمثيلا للمقاومة السلبية. قال في كتابه (في سبيل الحق) أو (قصة حياتي) ملامح المقاومة السلبية. لعله في ذلك وظف ثقافته الهندية التي في جانب منها (المفهوم الخاص بالصمت).

كلمة (الصمت) تتجاوز معناها الانجليزي الذي يعنى (السكون). وتعنى في اللغة السنسكريتية بما يتجاوز هذا المعنى المباشر، وتعنى :السلام ، الهدؤ، السكينة. وهى تخص الفرد القادر على الاستنارة دون اللجوء إلى معلم، يكفى أن يقطع عهدا على نفسه بالتزام الصمت لينصت إلى صوت الوجود الذي يستمد منه الأمان والحرية المطلقة.

*إجمالا يمكن القول بأن الفعل المقاوم في المقاومة السلبية لا يتسم بنفس تأثير حجم الاذاء المباشر على الآخر، وقد يؤذى الأنا الفاعلة أكثر. وبالعموم للمقاومة أشكالها المباشرة وغير المباشرة.. ومنها البسيط كإزالة عائق ما أمام الذات كي تتحرك للأمام، من أجل حياة أفضل أكثر رقيا وكرامة ورفاهية، ومنها المعقد إلى حد الصراع العنيف والحروب.

ماذا عن السلم؟

(السلام) هو مطلب الإنسان في كل زمان ومكان، هو فطرة الإنسانية، في مقابل (العنف) الذي يرفضه كل عقل راجح. كم عانت الإنسانية من العنف، حتى أن بعض الدارسين أكدوا أن الإنسان عاش في صراع على الأرض إلى حد الحروب، بما يمثل 80% من جملة أيامه وسنين تاريخ البشرية على الأرض.

تمثل العنف في تلك الحروب التي لم تفرق بين المقاتل والضعيف من أطفال ونسوة وشيوخ، حتى رصدوا بالإحصاء أن الضعفاء هم الأكثر تضررا من المقاتلين أنفسهم. ربما آخر إحصاء حول حروب القرن العشرين الميلادي ترصد مليونا نسمة قتلوا بسبب العنف الغاشم الذي استتبع المعارك.. لم يفرق بين سكان المدن والمسلحين في ميدان المعركة، ولا بين مقاتل وغيره من الضعفاء.

ويشير المتابع للتقدم التكنولوجي لوسائل المقاتلة خلال الربع الأخير من القرن الماضى، هول الخسائر المتوقعة مع كل سلاح جديد. يكفى الإشارة إلى مثال واحد: أن الأسطول الإنجليزي في القرن التاسع عشر ضرب الإسكندرية واحتلها(وبالتالي مصر كلها فيما بعد) باستخدام 3000قذيفة، نجح منها في تحقيق الهدف 30% فقط.. بينما قتل بقنبلة واحدة(ذرية) القيت على هيروشيما اليابانية حوالي ستون ألفا غير المصابين، والمعاناة التي تعانى منها منطقة التفجير حتى اليوم.

وقد سعت الإنسانية إلى محاولة مواجهة العنف بكل صورة، بوازع عقائدي، وعاطفي إنساني، وأيضا كل الأيديولوجيات الأكثر تقدما، وبعيدا عن تلك العنصرية التي تذكر في كتب التاريخ من مدخل التذكر والاعتبار. ففي القرن الماضي تشكلت عصبة الأمم المتحدة من أجل الهدف الإنساني نفسه، وان فشلت فقد جاءت بعدها هيئة الأمم المتحدة.. ومازال السؤال قائم حول تقييم دورها خصوصا مع بدايات القرن الواحد والعشرين. إلا أن السؤال نفسه ومهما كانت الإجابة مع أو ضد تلك المنظمة التي أنشئت في منتصف القرن الماضي.. هذا التساؤل لا يعنى سوى الرغبة الدفينة الأصيلة في الإنسان من أجل تحقيق السلام، ورفض كل صور العنف.

إن اختيار (السلام) يعنى اختيار (الحياة) التي جبل الإنسان على حبها، وبالتالي الاهتمام بضرورة إنجاز متطلباتها، ولا يتحقق ذلك إلا بتحقيق السلام العادل للجماعات، والسلام الروحي للأفراد.


*ربما يجدر الإشارة إلى بعض التعريفات:

(العنف): ضد الرفق (وقد أبرز د.سيد عويس في دراسة منشورة له حول العنف أن المقصود بالعنف في الخطاب العام الإعلامي.. أنه ذلك العنف الإنساني، أي الذي يصدر عن البشر.. حيث يوجد العنف في الحيوان أيضا).

وقد يحدث العنف بين الأفراد كنمط سلوكي، أو بين الهيئات والمنظمات والجماعات مثل التنظيمات السياسية أو المهنية وغيرها. ومن مظاهر العنف (الثأر) أو المشاجرات العنيفة.. وكلها ترتكن على ثقافات اجتماعية تزكى العنف.

(السلام): هو ضد مفهوم العنف. والطريف أن البعد الأنثروبولوجي لبعض الشعوب، قد يكون أميل إلى السلام، بينما شعوب أخرى أميل إلى العنف إلى حد الحرب. وقد أوضحت الأساطير والحكايات الشعبية للصين أنها من النوع الأول، بينما الهند من النوع الثاني!

وربما من المجدي الإشارة إلى مصطلح (الصراع)..حيث أن العنف يتبدى بالصراع جليا، والسلام يجعل من الصراع تنافسا شريفا كما في الصراع الرياضي. فالصراع يعد عند رجال الاجتماع، نوعا من العمليات الاجتماعية وفيه يحاول أطراف الصراع أفرادا أو جماعات أو حتى الدول تحقيق كل الرغبات التي يحتاجها، ومنع الآخر من تحقيقها. وهو على درجات منها اليومي والهين والشديد إلى حد العداوة.

كما أن مصطلح (الضمي) يتداخل لتفضيل العنف أو السلام أو حتى الصراع أو العداوة. وهو البوصلة التي ترشد الأفراد والجماعات إلى الخبيث والى الطيب من الأعمال والأقوال والأفكار. به يستقبح المرء أمرا أو يقبله ويندفع نحوه. والضمير يتشكل يوما بعد يوم منذ اليوم الأول لمولد الإنسان، بفضل الثقافات والخبرات المتوارثة والمكتسبة.

وبالتالي فما أحوجنا الآن للإشارة إلى مصطلح (التربية) التي اختلفوا حوله، فليس هو التلقين اليومي من الكبار إلى الصغار، بقدر أن التربية هي الخبرات المكتسبة والقابلة للتعديل والتبديل إلى الأفضل بفضل سعة الأفق، وعملية التقييم المستمرة.. حتى تزدهر ملكات الإنسان ليحقق إنسانيته التي فطره الله عليها.

هناك العديد من الأمثلة والتي أوردها د.سيد عويس (في دراسة له)، لبيان مظاهر العنف عند الأفراد، وبالتالي تعبر عن أسلوب من أساليب العداوة:

( الإثارة)، (التسلط)، (التعبيرات البدنية)، (المعارضة المطلقة)، (مركز الانتباه)، (التمييز ضد)، (المعاملة في غير احترام)، (الأنانية)، (إرباك الآخرين)، (التعبير عن الإحساس بالسمو)، (المزاح العنيف)، (المعاملة النفعية)، (الجزع الزائد عن الحد)، (الاعتداء البدني)، (الوقاحة)، (التحكم التام مع التسليم يذلك)، (تحميل شخص ضعيف خطايا غيره)، (عقاب الذات)، (المعاملة الصامتة)، (إفساد ذات البين)، (لهجة الحديث)، (الإذعان دون اقتناع).

أما الأمثلة حول العنف عند الجماعات أو الدول، فقد أورد منها:

(التفرقة اللا إنسانية مثل التفرقة العنصرية بسبب لون البشرة)، (السجون باعتبارها مؤسسة قمعية وليست تهذيبية)، (الحروب على كافة أشكالها المحلية منها والعالمية)، (المؤامرات والدسائس العنيفة)...

كما جاء (السلم) في معجم (مختار الصحاح) بالمعاني التالية:

السلم (بكسر السين وسكون اللام)= السلام (أدخلوا في السلم كافة) وذهب بمعناها إلى الإسلام.

السلم (بفتح السين وكسرها)= الصلح.

السلام (بفتح السين)= اسم من أسماء الله تعالى.

وقد عمق الإسلام مبدأ السلام والدعوة إليه، يقول الرسول (صلعم):

(السلام قبل الكلام(..(إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا)

ومن أجل أن يكون (السلام) بين الناس والجماعات، كفل الإسلام جميع حقوق الإنسان..

:حق الحياة..(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)..سورة المائدة آية 32

:حق صيانة المال.. (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) ..سورة النساء آية29

:حق العرض.. (ويل لكل همزة لمزة..) سورة الهمزة آية1

:حق الحرية.. والمتمثلة في حق المأوى وحق التعلم وإبداء الرأي وغيره، يقول تعالى:

(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض ذاك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا أن الله غفور رحيم)..سورة المائدة33

اذا كانت القاعدة هي (السلام) فلا مبرر للحرب في نظر الإسلام إلا في حالة الدفاع عن النفس والعرض والمال والوطن، وكذا رد العدوان مع الدفاع عن الدعوة إلى الله.

مما سبق كانت العلاقة بين المقاومة والدعوة إلى السلام.. فالمقاومة بمعناها الشامل (سلبية وايجابية) ركيزة للحياة الكريمة، كما أن السلام هو جوهر تلك الحياة الكريمة ومحركها. وفى الدعوة إلى السلام دعوة لإزكاء المقاومة (السلبية) التي تعضد الذات الفردية/الجمعية لترسيخ قيم الانتماء وحب الأرض والجماعة والوطن، وبالتالي رفض العدوان، والتأهب لمواجهته.

إن كانت الدعوة للسلام فعل غير عنيف موجه إلى الآخر، فهو فعل في حاجة إلى مجاهدة لتبعات تلك الدعوة، فلا سلام مع ضعف، ولا تكون الدعوة إليه إلا بقوة ترتكن على قوة مادية ومعنوية في حاجة إلى مكابدة ومثابرة، ومن هنا كانت الدعوة إلى السلام.. مقاومة أيضا.

وغالبا ما تكون الدعوة إلى السلم.. رائجة وضرورية (ربما)، في حالتين: أثناء فترات استشعار الخطر أو فترات التهديد مع عدم الرغبة في المواجهة العنيفة (صراع)، أو حتى أثناء فترات الصراع والحروب.. رغبة في إزكاء روح التسامح والقيم العليا (حيث القاعدة للحياة الإنسانية هي السلام).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى