الاثنين ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم توفيق الشيخ حسين

السماء تعود الى أهلها

حلم الطفولة يعلن الرحيل.. ذكريات تمتزج مع لحظة الوداع.. تبتعد المسافات داخل الزمن.. يسكنها الوطن..

تتخطى الكلمات حدود الريح لتعانق الألم على جنح الظلام.. تدور بها الأيام.. كلام صامت يعذبها ويقلقها.. تعيش في المنفى غريبة تحمل مأساتها مع رياح السموم.. هويتها العذاب.. تظل مصلوبة على وجهها تتحسس قيدها في أختصار الزمن.. هاجرت عبر بوابات الأمل لتبحث عن وطن.. تحمل نخيل البصرة.. وترسم طفولتها عبر المجهول...

تبدأ الرواية بحوار الفنان التشكيلي وليد مع زوار معرضه الأول في لندن، شارحا حالات انفعالاته ومعاناته...

وليد أبن البيئة الفقيرة في مدينة الناصرية.. كان يشـّم رائحة أبيه " بائع النفط " في رائحة الزيت الممزوج بألوانه.. الفقر يحول دائما دون تحقيق الرغبات الا انه يفجر الأبداع.. يخلو الى لوحاته في غرفة المرسم فيجد انه يحـدّث البياض.. يترك الريشة من يده ويهيئ نغمة بيضاء.. وفي مساحة قماش أبيض يقرأ بداية لون جديد..

من هنا تبدأ الحكاية.. يودع في زنزانة ضيقة التي بالكاد كان يرفع رأسه فيها.. ويبدأ التعذيب وهو يتابع الفزع في السواد والزرقة والتورّم وتفحم أصابع يسراه بعد أقتلاع الأظافر منها... ويقرر الطبيب بالبتر.. يهاجر الى لندن ليكمل مسيرة ابداعه الفني...

وتكتمل الحكاية مع الشخصية الثانية في الرواية.. شخصية " راوية " التي تأخذ حيزا مهما في الرواية.. أستعادت لأنفاسها النقية خوفها من أيام تجهل كيف سترتب لها المشهد القادم وتخطط لها حياتها القادمة.. أحتياجها لقلب بعد أن طردها قلبها.. أحتياجها للمسة حنان حقيقية...

يقول د. عمر الطالب:

" ان القصاص الجيد هو الذي يحاول اعطاء شخصياته الفرص المتكافئة للظهور على مسرح الرواية ومن ثم يتركها تنمو نموا ً فنيا ً كاملا ً، ويتبع الحدث الشخصية في التدرج النموي الى ان يكتمل الحدث بعد ان تكون الشخصية قد أكتملت نموا ً فنيا ً "...

من هنا رسمت الكاتبة وفاء عبدالرزاق شخصياتها بدقة وهي تفهم الحياة والأحياء وتفسرها من وجهة نظر خاصة ترى منها الحياة وتتغذى من الواقع وتتزاوج واياه في الشخصيات.. وخاصة شخصية وليد.. وليد في حديثه عن مأساته بأغتيال ذكوريته وأحراق ذراعه التي كان يرسم بها.. كل ذلك كان منسجما مع شخصيته النفسية والأجتماعية والأنسانية.. بأعتباره كائنا أجتماعيا متطورا... تركت في قلبه هوة وفي نفسه أزمة وفي صدره صراعا وفي وجدانه أحاسيس.. شخصية وليد تعاني الألم ويمارس تجارب قاسية لكنه لا يعرف اليأس أو الأنهيار
.. وعرف كيف يصمد ويقاوم ويستقبل حياته بصدر منشرح والذي يمثل الروح العراقية...

وليد طبيب الوان.. يعالج مرضاه بالألوان وليس بالدواء هكذا يقول لأمه التي كانت ترغب ان يصبح طبيبا يمد ّها بالطمأنينة ساعة وقوع المرض.. فانه كان يطمئنها ويداعب ضفيرتيها: أبنك يعالج المرض باللون يا أمي...

في لندن يحوك عزلته في غربة نفسه، مجموعة لوحات تنتظر من يعرفها أو يستكشف ببياضها مجاميع من الأماني لا وقت لها الآن ولا محل لها في ركن من الحياة..
يحتمل الموت الذي يجتاح الروح.. يحمل في حنايا القلب حزنا ً وصبرا ً.. يمده كخيط ينشره في كل مكان.. رغم اليأس رسم لوحة الأماني والأحلام.. لوحة الشقراء والسمراء.. اللوحتان اللتان عبـّر للعالم كيف يكون الحب والعشق مع عيون حزينة.. يتمرد على الليالي ويفتش عن نفس في ذاكرته.. الجرح يؤلمه.. أصبح أسطورة الأحزان...

تتفتح الجراح وترسم بالكلمات مع كثير من ذكريات السجن المؤلمة.. تفر الروح من الجسد ولا تجد من يواسيها.

ذكريات تحمل عبق الحقيقة المغموسة بالدم.. وأنتظار الموت الذي يلامس الوجع الكامن في النفس... في جوف الليل تهب الرياح متثاقلة.. قلوب تتمزق وأجساد وعظام تهتز ألما كالصرير.. صرير الريح الضائع مع ذئاب مجنونة.. يعذبها قلبها الذبيح.. قد حان الرحيل..

"كان المكان يرضع دماءنا، وكنا نتقاسم القوة ويشـّد القوي منا الضعيف. لم نكن نعرف بأية لحظة ستمتد لنا يد جلاد. ليلا ً، فجرا ً، ظهرا ً، لا يهم ّ، ما يهم ّ هو اقلاق راحتنا وأن لا يغمض لنا جفن. كما لم أكن اعرف أن لليل لسانا ً، يتحدث معنا في كثير من الأحايين ليخفف من آلامنا "...

أشرعة الرحيل ترسو بأبناء الوطن خارج الوطن.. فأي أرض تزلزل أبناءها وتسلــّمهم لشبح الموت؟..

أهي خطيئة الأرض، أم خطيئتنا نحن.. كل شيئ بعيد عن العراق يعيدنا اليه.. شئنا أم أبينا...

وقوف تام لدقات القلب.. هل سيكون ذاك القلب آحن ّ عليك ِ من تلك القضبان؟..
لغة الروح.. لغة ارتعاش الجسد.. ترسم صورة وتسمع صدى الهمسات، لتبقى أسيرة الذكريات.. الدم يسري في العروق وبين ثنايا القلب ويرتحل مع كابوس الظلام الى زمن الأوجاع...

"مددت يدي للبحث عن أي شيئ وأن كان حشرة، فقط لأشعر بأني أملك حواسي.. كان خبز الحياة في سوق

 المغايز، وشاي أم البروم -.. رأيت نخيلات خضرا ً توضأتُ في نهر الخورة، شواطئ متلهفة مثلي الى خطوات تحاصر أبجديتها، أعشابي المتكسرة وخزتني فهاج ألم لم أقو على تحمله، بدا لي خدر الكلمات يتباطأ، ثم ولى وترك الألم يصعب علي ّ تحمله "..

دقت ساعة الرحيل.. الرحيل بلا صوت.. القلب ينزف ويحتضر.. يودع شمس الوطن.. انه الرحيل الى عالم مجهول.. عالم يقف فيه الحزن ويواري الحلم تحت ثرى الألم...تصرخ بصمت وترى الأفق يخنقه الظلام.. يرافقها أشلاء الماضي وأشباح الخوف من المستقبل...

" في لندن أختبأت بين سطور رواياتي، أحاول اصطياد هواء نقي ليس فيه غبار مراهنات وسياسة وصراعات يومية مع الموت، والكتابة هي أضعف الأيمان، وكما أختبأت بين السطور، خبأت ذكرياتي في خزانتي ورحت أصارع الحبر مع أوراقه ""...

رغم قسوة العراق معها الا انها ما زالت تحمله جرحا ً متكبرا ً، ولم تستطع المنافي أن تسرق لمعان النخيل في عينيها.. غنت للعراق كثيرا ً لأنها أبنة ذلك النخيل وأبنة شط العرب...

تبقى وفاء وكما قالت في احدى لقاءاتها انسانة ان عرفت نضحت عراقا ً، وان أبتسمت سال نهراها، وان تحدثت نطق الشعب بلسانها، وان أنـّت فهو أنينها.. هي عراقية الأنتماء.. بصرية الهوي.. جنوبية الترحاب.. عراق صدرها يضم كل من ينتمي لعراق الكون ولكون العراق...

* وفاء عبدالرزاق، رواية السماء تعود الى أهلها، دار كلمة، مصر،2010

* نشرت ضمن إصدارات مؤسسة المثقف العربي، تكريم وفاء عبدالرزاق " أفق بين التكثيف والتجريب "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى