السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
تقديــــــم
اليوم لي عظيم الشرف أن ألتقي في رحاب هذه الجلسة العلمية مع صفوة من الأساتذة الأجلاء، وذلك بقصد تقييم وتقويم ما أنجزته من عمل متواضع بتوفيق من اللطيف الخبير، وإنه لمقام معرفي كريم يتمناه كل طالب علم، حتى يتمكن في ما يستقبل من الزمان من تسديد خطواته على درب البحث العلمي، وإغناء تجربته الإنسانية والمعرفية، وما هذه الأطروحة الجامعية في النهاية سوى ثمرة لسنوات التحصيل التي قضيتها طالبا يتشرف بانتمائه إلى هذه المؤسسة الجامعية العتيقة، ويفخر بأخذه حظا يسيرا من بحر المعارف الأدبية والنقدية، وقسطا ثمينا من غنى الثقافة الإنسانية، وذلك على يد نخبة من الأساتذة الأفاضل الكرام، الذين أحيي الشاهدين منهم وأتشرف بحضورهم، بقدر ما أحيي من خلالهم كل من أخذت عنه سببا من أسباب العلم، كما أتوجه بذات التحية إلى كل من جاء يشهد هذه الجلسة العلمية وأتشرف بحضوره.
لا شك أن أدب السيرة الذاتية سيظل على امتداد التاريخ الإنساني كائنا لغويا حيا بدلالاته، وإيحاءاته، ومضامينه وجنسا أدبيا مثيرا لأسئلة معرفية وعلمية كثيرة، وسيبقى نسيجا سرديا مؤهلا أكثر من غيره لاستيعاب التجارب الإنسانية، يصل الذات الكاتبة بالذوات المتلقية، ويختزل في الوقت ذاته سمات وعوالم كثيرة من تاريخ البشرية قديمه وحديثه؛ إنه مرآة تعكس حياة الإنسان في عمقيها الفردي والجماعي، وذاكرة موضوعية غنية بالعديد من التجليات والفضاءات، إذ يجسد بوضوح ما هو كامن في الذات الإنسانية من قوة النزوع إلى الكشف عن مجاهل الحياة وأسرار النفس البشرية.
بدء الاهتمام بموضوع الأطروحة
إن اهتمامي بأدب السيرة الذاتية ليس من قبيل الانشغال العابر أو طموحا معرفيا حديث السن؛ بل إن بوادره تعود إلى طور دراستي الثانوية، التي قرأت فيها أيام الأديب والناقد المصري طه حسين، وهي أول سيرة ذاتية أطلع عليها في حياتي الدراسية، ثم إن جذوة ذلك الاهتمام لم تخبو يوما، باعتبار ما تراكم لدي طيلة سنوات التحصيل الجامعي من استفهامات متراكبة ومتشعبة حول هذا الجنس من الأدب، وعلى مدى سنتي الإجازة واستكمال الدروس زاد اهتمامي واشتد بهذا الضرب من التعبير الأدبي، خاصة عندما قرأت ) إلغيات( الأديب والناقد المغربي محمد المختار السوسي، فكان بحث الإجازة الذي أنجزته سنة ألف وتسعمائة وتسعين من الميلاد تحت إشراف أستاذي الجليل أحمد بوحسن، والمترجم بـ² دراسة نص محمد المختار السوسي .. الدكتور طه حسين في ) إلغ (² ، ثم بحث شهادة استكمال الدروس الذي أنجزته في السنة الموالية، تحت إشراف أستاذي الفاضل أحمد يزن، في موضوع:² فن المقالة عند محمد المختار السوسي² ، مناسبة طيبة للاقتراب أكثر من سيرة محمد المختار الذاتية، ومن جنس المحكي الذاتي بوجه عام، وإني شاكر لأستاذي الكريم أحمد بوحسن جزيل الشكر، إذ كان اقتراحه السديد سببا في اهتدائي إلى إلغيات محمد المختار، وكان اطلاعي على هذا العمل الأدبي النقدي المتميز الذي تحتفظ به ذاكرة الأدب المغربي الحديث خطوة رئيسة على درب اهتمامي بأدب السيرة الذاتية، كما أني بذات الشكر أتوجه إلى أستاذي الجليل أحمد يزن، وأنا مدين له بحسن مبادرته إل اقتراح موضوع "السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة " ليكون مدار بحث في أطروحتي الجامعية.
دوافع البحث الذاتية وبواعثه الموضوعية
ومن المؤكد أن ثمة عدة دوافع ذاتية وبواعث موضوعية، كانت محفزة لي على طرق موضوع "السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة"، والاشتغال عليه:
§ أما الدوافع الذاتية فبالإمكان اختزالها في حرصي الشديد على تلبية فضول علمي ذاتي، وهو العامل الذي أعتبره القوة المحركة لمختلف تجليات وفضاءات هذا العمل المتواضع، إلا أن النفاذ إلى عمقه وجوهره أمر عصي، بقدر ما أن الإحاطة بأبعاده مسألة غير يسيرة، لكن اليقين الذي لا يتسرب إليه أدنى شك هو أن ذلك الباعث الأساس كان حاضرا وفاعلا في مختلف المراحل الشاهدة على سيرة هذه الثمرة الجامعية، والأكيد كذلك هو أن هذا الجهد البسيط يمثل في حد ذاته بعضا من تمام الاستجابة لذلك الفضول العلمي أو المعرفي الذي اجتهدت في تلبيته قدر الإمكان، وكل ما أستطيعه هو أن أبسط أمامكم بعضا من ملامحه دون إسهاب، والتي تجسدت في حرصي الشديد على استكشاف ما يسم أدب السيرة الذاتية الإسلامية من قيم تعبيرية وشعورية، وما يميزها من خصائص، وتمثلت في طموحي إلى تحقيق قراءة في هذا الكائن الإبداعي الذي يعود بنسبه القريب إلى أدب السيرة الذاتية بصيغة نقدية إبداعية جد مركزة ودقيقة.
وأما البواعث الموضوعية الكامنة وراء اختياري موضوع هذه الأطروحة، فبإمكاني أن أستعرضها بإيجاز، وهي كالآتي:
الباعث الأول: يمكن إيجازه في ندرة البحوث الجامعية الأكاديمية، والدراسات الحرة حول موضوع أدب السيرة الذاتية، وارتباط أغلب ما جاء في هذا الباب بمؤلفات قليلة، وبجملة من المقالات تم نشرها في بعض الصحف والمجلات.
الباعث الثاني: هو أن لا أحد في أغلب الظن خص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بدراسة وافية أو بحث مستقل، وهذا الأمر يعد من بين الاعتبارات والبواعث الموضوعية الرئيسة، التي جعلتني أتمسك أكثر بإنجاز هذه الأطروحة الجامعية.
فبالعودة إلى أدب السيرة الذاتية - قديمه وحديثه - بإمكاننا أن نلاحظ مدى التقصير الذي يشوب الإنتاج النقدي العربي في هذا الباب، بحيث أن الساحة الأدبية النقدية في سائر البلاد العربية الإسلامية – مع بعض الاستثناء النادر جدا - تكاد تكون شبه خالية من أي دراسة مستقلة ومستفيضة في الموضوع، وهذه الحقيقة الواقعة أفرزت صعوبات كثيرة في سبيل البحث وخط سيره العام، إذ أن غياب الدراسات والبحوث الجادة والدقيقة حول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على وجه الخصوص، يعني غياب أي مرجعية نقدية خاصة بهذا الفرع الأدبي الإسلامي.
وإذا استثنيت بعض الإشارات الجزئية العابرة، التي عثرت عليها في مؤلفات ومقالات قليلة جدا، فإن حصيلة البحث والدراسة، وتراكمات النقد الأدبي في العالم العربي الإسلامي عموما في موضوع أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة تكاد لا تذكر، ومن بين أهم أسباب ضعف هذه الحصيلة، هو اهتمام الدارسين، والباحثين، ونقاد الأدب بالبعد العربي القومي في اشتغالهم على أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة، وإغفالهم البعد الإسلامي الكامن في حظ من هذا الأدب، وهو غير يسير بطبيعة الحال، فترتب عن هذا التقصير إهمال آخر، وغض طرف شديد في حق أدب السيرة الذاتية الأجنبية الإسلامية المواكبة لذات العصر، مما خلف ثغرة نظرية وتطبيقية ملحوظة، وهذه حسب اعتقادي ظاهرة تثير الإستغراب والإستفهام في ذات الوقت.
§ الباعث الثالث: هو أن معظم الباحثين، والدارسين، والنقاد الغربيين، يجزمون جزما قاطعا بأن العرب المسلمين كانوا يجهلون أدب السيرة الذاتية، وأنهم لم يعرفوا أصلا ممارسة كتابته، ولم يكتشفوا نبع إبداعه إلا حديثا، بل ذهبوا في ما يزعمون مذاهب شتى لا تقوم على أي أساس علمي، ولا يقرها التاريخ الأدبي، ثم إن زعمهم سرعان ما غدا فكرة شائعة واعتقادا متداولا في الأوساط الأدبية والثقافية الغربية، مفاده أن السيرة الذاتية جنس أدبي تنفرد الثقافة الغربية – على الإطلاق – بالسبق إليه دون منازع لها فيه أو منافس، وأن ضمير ) الأنا ( في الممارسة الأدبية هو من إبداع الحضارة الغربية!!
فإن شئنا أن نصف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بترجمة تعريفية وجيزة، قلنا: هو ضرب من التعبيرالأدبي الذاتي، الذي ينفرد بخصائص وسمات معينة، أهمها الحضور المكثف للذات المسلمة في فضاءات خطابه، على أن اللازم لهذا الحضور والمطلوب من الذات المعنية به، هو أن لا يدل حكيها الذاتي على ميل إلى الرياء من قريب أو بعيد، أو ينطوي على رغبة في المباهاة، ثم أن لا يعبر عن استجداء مدح، أو يلمح إلى طلب شهرة دنيوية معينة بين الأحياء.
المادة المصدرية للأطروحة
لقد انتقيت لموضوع هذا البحث عنوان "السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة"، ولم أعتمد عنوان "السيرة الذاتية الإسلامية المعاصرة "، لأن الأعمال الأدبية التي اشتغلت عليها بالدرس والتحليل، منها ما هو حديث، ومنها ما هو معاصر، لكنني أخذت بالصفة " الحديثة" في صياغة عنوان هذه الأطروحة الجامعية، بحكم أنها صفة تشمل المعاصر والحديث من الأعمال الأدبية موضوع البحث.
أما السير الذاتية الحديثة - التي شكلت في مجموعها المادة الرئيسة في اشتغالي على موضوع هذه الأطروحة - فهي أعمال منشورة باللغة العربية، سواء إنشاء أم ترجمة، إذ منها ما أنشئ أصلا من قبل أصحابه باللغة العربية، ومنها ما تمت ترجمته من لغته الأصلية الأجنبية إلى اللغة العربية، وأكثر هذه الإنتاجات الأدبية المترجمة، هي في الغالب لأفراد غير عرب دخلوا في الإسلام، ولذلك ارتأيت أن يكون عنوان هذه الأطروحة جامعا من خلال الصفة (الإسلامية).
ولا شك أن الإلمام والإحاطة بمختلف الأعمال الأدبية المنتمية إلى هذا الفرع من الأدب الإسلامي سواء في البلاد العربية الإسلامية أم في البلاد الأجنبية، يعد عملا غير هين، ومطلبا عزيزا، إن لم أقل مستحيلا بالنسبة للمجهود الفردي المتواضع، الذي لن يتمكن صاحبه مهما حاول أن يوفي مادة الموضوع حقها من الجمع والدرس والتحليل؛ بحكم أن السعي إلى تحقيق هذا المقصد يتطلب جهدا جماعيا متواصلا.
المادة المرجعية للأطروحة
ثم إني أنفقت من مسافة البحث شطرا غير هين للوصول إلى ما أمكنني إدراكه من مادة علمية مرجعية – عربية كانت أم أجنبية – سواء منها تلك التي اتخذت أدب السيرة الذاتية موضوعا لها، أم امتدت بعرق إلى هذا الجنس من التعبير الأدبي، أم وصلته بأحد الأسباب، إذ كان الغرض هو الإستعانة بها في إيضاح واستكشاف كل عنصر أو مكون ذي رابط معين بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، على الرغم من أن الحصيلة المرجعية الخاصة بهذا الفرع من الأدب الإسلامي هي في واقع الحال جد متواضعة، كما حرصت على أن تفيد خلاصة تلك المادة المرجعية المتنوعة والشاملة في تسديد وإضاءة مسالك البحث، بقدر ما تفيد في تحقيق أهداف هذه الأطروحة.
المنهج المعتمد في مقاربة موضوع الأطروحة
وعلى مستوى آخر كانت مسألة اختيار المنهج المناسب للإشتغال على موضوع بهذه الطبيعة، تقتضي إعمال النظر الدقيق، والتفكير بروية، لأن الأمر يتعلق أصلا بأحد أهم أركان البحث العلمي، ولا يخفى أن أي بحث جاد يطمح صاحبه إلى أن تكون له منطلقات منهجية سليمة، وذلك حتى يتمكن من الوصول إلى نتائج نظرية وتطبيقية، من شأنها أن تضيف جديدا معرفيا أو خلاصات علمية إلى منظومة البحث الأدبي والنقدي بصفة عامة.
إن القاعدة التي اعتمدتها منذ البدء في اختيار منهج البحث هي محاولة الإجتهاد في طرح الأسئلة الدقيقة، بقصد الوصول إلى إجابات واضحة ومحددة، وأمام تنوع الاختيارات على مستوى مناهج البحث المعتمدة في دراسة أدب السيرة الذاتية، والمنتهجة في مقاربة أدب السيرة الذاتية العربية على امتداد العصر الحديث، كانت عودتي لازمة إلى ما يشتمل عليه أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من خطاب، وبالفعل أعانني الأخذ بهذا الإجراء المنهجي من الحسم في مسألة اختيار المنهج المناسب، ولم يستقر رأيي في هذا الشأن إلا بعد قراءات متفحصة للمتن العام، وضبط لأهم مرتكزاته، واستكشاف لمختلف تجلياته وفضاءاته، فكان القصد الموجه لي في سبيل تحقيق الأهداف التي طمحت إليها منذ البداية، هو الاجتهاد في تحقيق مقاربة منهجية فاعلة لموضوع البحث، اعتبارا لوظيفتها المنتجة لإضافات معرفية جديدة، واستفادة من مدى مرونتها وقدرتها على التجاوب مع الخطاب الأدبي القائم في ما هو حديث من أدب السيرة الذاتية.
لقد حاولت طرح أسئلة جد مركزة في مختلف أطوار البحث النظرية والتطبيقية، ولم يكن سعيي إلى محاولة الإجابة على أكثر الأسئلة بأقل من السعي الأول إلى الاستفهام، اعتقادا مني بكون الاجتهاد في بناء الأسئلة الدقيقة وطرحها لا يقل أهمية عن بذل الجهد في إيجاد الأجوبة وتشييدها على أساس متين وركن شديد، وكان الشرط الأساس في تحقيق هذه القراءة المنهجية واستخلاص ثمارها، يتطلب النظر في جملة من العلاقات الواصلة بين مختلف المكونات والمحاور، خاصة منها علاقة الذات الكاتبة بالإسلام، باعتبار أن النواة الجوهرية في موضوع هذا البحث، هي ذلك التفاعل القائم بين قطب الذات الإنسانية وقطب العقيدة الإسلامية.
ثم لا يخفى أن اللجوء إلى فرض أي منهج بالقوة على أي خطاب أدبي لا يصله بسبب، هو عمل غير صائب، وخطوة ليست من المبادئ المنهجية السليمة ولا من القواعد العلمية في شيء، إذ أن البحث الأدبي العلمي الجاد لا يتحقق بمجرد الإنبهار بنبر المصطلحات الغربية وغير الغربية أو الإنسياق وراء رنين صورها السمعية، ومن ثم الإقبال عليها في غير روية أو تمييز أخذا بالنواصي والأقدام، وليس من منهج الدراسة السليمة سرد تلك الإصطلاحات قهرا متراصة متنافرة، أو باقتراف تجريب قسري واعتباطي على الأدب العربي الإسلامي لما تنتجه المدارس النقدية الغربية من الرؤى والمعتقدات النظرية على مقاس وغير مقاس، دون أدنى فحص أو تمحيص.
وعلى أساس هذه الرؤية استقر بي إعمال النظر على اعتماد منهج تكاملي، يرتكز على وسائل وأدوات إجرائية متعددة، وينتهي إلى تحقيق غاية واحدة متمثلة في النفاذ إلى جوهر موضوع البحث، إيمانا مني بضرورة الإستفادة من ثمارمختلف مناهج الدراسة، وقد طمحت بتوظيف المنهج التكاملي في دراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، باعتباره منهجا يستقي قوته من ممارسة نقدية مركبة ومتكاملة إلى حد ما، تجمع بين مختلف الأبعاد، التي أذكر منها على سبيل المثال: البعد التعبيري والشعوري، والنفسي والإجتماعي، والفكري والتاريخي والعقدي، وبحكم أنه ينزع إلى الإرتكاز على رؤية شمولية، ثم إنني سعيت إلى اعتماد قراءة تحليلية تواصلية مؤهلة لمحاورة الذوات المسلمة من خلال سيرتها الذاتية، الماتلة في ما أنتجته من أعمال أدبية ذات الخصائص المتفردة في جنسها الإبداعي.
ثم إني قصدت باعتماد المنهج التكاملي إلى تحقيق أهداف محددة، وبلوغ نتائج ذات قيمة علمية وأهمية معرفية، فحاولت أن أتجنب دوامة التأويلات الشاذة، والأحكام الجاهزة التي لا تستند إلى أساس علمي واضح، وحتى لا أنهج أسلوبا اعتباطيا في البحث ينحرف بمساره السليم، أو أنأى بخطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة عن أدبيته وجماليته وإطاره الثقافي والمعرفي العام، ارتأيت أن أتخذ المنهج المعتمد أداة مساعدة على قراءة هذا الضرب من الخطاب الأدبي، دون الاستعلاء عليه أو تجاوزه.
لقد حرصت في هذا العمل المتواضع منذ البداية على إنجاز قراءات محورية استقصائية وتحليلية في ضوء ما يسم المنهج التكاملي من معالم وخصائص، ويحكمه من مبادئ وقواعد، تقضي بعدم إغفال أو إقصاء أي من المكونات التي يشتمل عليها الخطاب الأدبي، وهي عناصر رئيسة تأتي في مقدمتها - بالنسبة إلى خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة - الذات المسلمة الكاتبة، والذاكرة الإسلامية المكتوبة، والعقيدة الإسلامية، والظرف التاريخي الحديث، والآثار البيئية والوراثية، والدينية، والنفسية والإجتماعية و غيرها.
§
أما منتهى ما تطلعت إليه طيلة سنوات البحث المنقضية، فأوجزه في ما حاولت أن أقيمه من حوار أدبي نقدي بين موضوع الأطروحة والمنهج المعتمد في الاشتغال عليه، إذ قصدت من هذه المبادرة اجتناب كل ما من شأنه أن يحدث تنافرا أو هوة فاصلة بين ما يجسده أدب السيرة الذاتية الاسلامية الحديثة من خطاب موصوف وخطاب المنهج الواصف، ثم إنني اجتهدت من جهة ثانية لتكون اللغة الواصفة لموضوع البحث فاعلة في تأدية وظيفتها على مستوى الكشف عن حمولة خطاب هذه الأطروحة، ومن جملة الأهداف التي وضعتها في مستهل اهتمامي أذكر:
§ أولا: العمل على إيضاح فساد الاعتقاد السائد في الأوساط الأدبية والنقدية الغربية، الذي يدعي أصحابه أن
أدب السيرة الذاتية له مهد واحد هو الحضارة الغربية ، وبيان أن ممارسة الكتابة والابداع في فضاء
هذا الجنس الأدبي، ليست موقوفة على الآريين دون الساميين، وأن معرفة العرب المسلمين القدامى
أدب السيرة الذاتية حقيقة ثابتة ومتجذرة في التاريخ الأدبي للجماعة الانسانية، وإن لم يحمل هذا
اللون من التعبير الأدبي ذات المفهوم والإصطلاح الحديث.
– ثانيا: تحديد ماهية وخصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
– ثالثا: ضبط مكونات هذا الفرع الأدبي الإسلامي.
– رابعا: رصد مختلف أشكال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ومضامينه، وأهم وأعمق دلالاته الخطابية.
– خامسا: الكشف عن مدى إسهام هذا الأدب في الحركتين الأدبيتين: الإبداعية والنقدية، داخل وخارج العالم
العربي الإسلامي، من خلال مقاربة تاريخه الابداعي والنقدي.
– سادسا: رصد نوع وطبيعة تأثير هذا اللون من التعبير الأدبي على مستوى الخطاب في القارئ المتلقي من ناحية،
واستقراء كيفية وطبيعة تلقيه من طرف الذات المتلقية من ناحية ثانية.
– سابعا: استقراء آفاقه المستقبلية.
وإذا كنت مطمئنا بتوفيق من الله عز وجل إلى ما حققته من أهداف، وإلى ما بلغته من نتائج وخلاصات، من شأنها أن تضيء كثيرا من الجوانب ذات العلاقة بجنس السيرة الذاتية على، وبأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، إلا أنني بطبيعة الحال لست في وضع يسمح لي بتقييم مجمل النتائج والحقائق وتفاصيلها التي انتهت إليها فصول هذا العمل المتواضع، كما أني لست في مقام يمكنني من تحديد ما دلت عليه وأوحت به تلك الغايات من آفاق البحث ومسالك الدراسة المرتقبة مستقبل بمشيئة الله تعالى، ثم إني لست في موقع يساعدني على استعراض ما يكون قد أضافه هذا الجهد اليسير من آثار نظرية وتطبيقية جديدة.
أبواب وفصول الأطروحة
واعتبارا للطبيعة التي يمثلها موضوع هذه الأطروحة، وبالنظر إلى ما يتطلبه الموضوع أصلا من قراءات فاعلة ومتكاملة، ارتأيت بعد تأمل دقيق ورؤية فاحصة أن يشغل البحث ثلاثة أبواب، تغطي في مجموعها ستة فصول، على أن يشتمل كل باب على فصلين، فضلا عن مقدمة وخاتمة عامتين ومدخل نظري.
وقد بسطت في المقدمة العامة موضوع البحث، وبواعث اختياره، والدراسات السابقة في شأنه، ثم قمت بعرض المنهج المعتمد في دراسته، كما حرصت على تحديد الأهداف المؤمل مسبقا تحقيقها، وعرفت في منتهى هذه المقدمة بأبواب الأطروحة وفصولها.
أما في فضاء المدخل النظري فقد أنفقت ما يلزم من الجهد في سبيل تعيين جملة من المحاور، التي اعتقدت في ضرورة طرحها وإثارتها، نظرا لما تكتسيه من أهمية، فعرضت أولا لطبيعة الصلة بين أدب السيرة الذاتية والتاريخ، ثم اجتهدت في الإلمام بمفهوم "السيرة الذاتية"، وما يدل عليه اصطلاح "الترجمة الذاتية "، بناء على اقتناعي بوجود فوارق واضحة ومحددة بين اصطلاحي: (الترجمة) و(السيرة)، تتجاوز في حد ذاتها منطق الاستعمال الاعتباطي أو ما جرت عليه العادة، و إذا بدت هذه المسألة الاصطلاحية جزئية متجاوزة للوهلة الأولى، فإنني أعتقد – على العكس من ذلك تماما – بأنها مسألة بالغة الأهمية، وتستدعي بحثا دقيقا ونظرا فاحصا.
ثم إني تحدثت عن مدى إمكانية تحقيق كتابة "السيرة الذاتية الشعرية "، وخلصت في هذا المحور إلى أن لا شيء يمنع من وجود هذا النمط من التعبير الشعري، وأن السرد ليس وقفا على النثر وحده دون الشعر، كما أن لا شيء يمنع أدب السيرة الذاتية الشعرية من اعتماد الحقيقة والصدق في نقل تجارب الحياة الفردية، شأنه في ذلك شأن أدب السيرة الذاتية النثرية، وفي سياق هذا المحور دعوت منبها إلى ضرورة إعادة إعمال النظر العلمي والنقدي أساسا في تعريف أدب السيرة الذاتية الشائع والمتداول بين أكثر الباحثين والدارسين، والمتمثل في تلك الصياغة التعريفية المبنية على خطأ إثبات الصفة النثرية لأدب السيرة الذاتية ونفي السمة الشعرية عنه، وإني لأتساءل عما إذا كان الوقت قد حان لوضع تعريف دقيق، يترجم لنا حقيقة هذا الأدب ترجمة منصفة.
بعد إثارة هذه المحاور، وقفت لتحديد مفهوم "الأشكال الأدبية" ومفهوم "المكونات الأدبية" في علاقتهما بأدب السيرة الذاتية، وحرصت على إيضاح ما بينهما من فرق وتمييز، إذ كان الباعث لي على إنجاز هذه الوقفة المنهجية، ما عثرت عليه من خلط بين المفهومين في جملة من المراجع، التي اتخذ أصحابها السيرة الذاتية مدارا لبحوثهم ومقارباتهم النقدية، فصارت الأشكال الأدبية – تبعا لمواضعة غير سليمة – في حكم الأجناس الإبداعية الصغرى أو المجاورة لأدب السيرة الذاتية، أو ما فضلت تسميته بالمكونات الأدبية الكبرى لهذا اللون من الأدب.
وقد بسطت الحديث حول مصطلح "الأدب الإسلامي"، بقصد الوقوف عن هويته وماهيته، مجتهدا في ضبط حدوده التعريفية، إذ حاولت قدر الإمكان مناقشة ماجاء في موضوعه من قراءات، ومفاهيم، ورؤى نقدية، و غاية ما انتهيت إليه في هذا المحور، هو أن الأدب الإسلامي لم يكن يوما مجرد تجربة عابرة، أو عبارة عن مغامرة فردية أو جماعية، أو تعبيرا شاع أمره في العقود الأخيرة؛ بل هو أدب له من الخصائص المادية والروحية ما يجعله ينفرد بأسس مميزة، لا تصدر عن مفاهيم وضعية، أو أهواء ومنازع بشرية؛ بل هي سمات وقيم مستمدة من أصول العقيدة الإسلامية، القائمة على القرآن والسنة النبوية.
وفي ختام هذا المدخل النظري نبهت بإيجاز شديد، ومن خلال قوس مفتوح إلى ضرورة تقويم وإعادة النظر في اعتماد جملة من (الإشتقاقات اللفظية) أو (الإصطلاحات) المنحوتة من لفظ "الإسلام"، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر:(الإسلاموية)، و(الإسلاموي)، و(الإسلاماتية)، و(الأسلمة)، و(الإسلاموفوبيا)، وهي ألفاظ أضعها بين قوسين، لأمر بسيط جدا، وهو أنها في أمس الحاجة إلى فحص وتمحيص، وسبر عمقها إن كان لها عمق في واقع الحال، وأنا أتساءل عما إذا كانت بالفعل لهذه الإصطلاحات مدلولات قد وعتها العقول والأذهان قبل أن تلهج بدوالها الألسن ؟؟ ومن باب الغيرة على الإصطلاح العلمي الذي ينبغي أن يقوم على أساس معرفي سديد، دعوت مخلصا إلى إعادة النظر في مسألة توظيفها داخل سياقات خطابية مختلفة.
§ أما عن الباب الأول من هذه الأطروحة، فقد استقر الرأي على أن يقترن بعنوان: "السيرة الذاتية الإسلامية .. التأسيس والتجنيس"، على أن يشمل الفصل الأول منه "طور التأسيس قديما"، وضمن هذا الفصل اقتفيت ما لهذا النوع الأدبي من أثر في تراث الأدب العربي الإسلامي القديم، وذلك من خلال البحث عن جذوره وبوادر تأسيسه ونشأته في عمق التاريخ الأدبي، والوقوف على مدى علاقته بالتاريخ العام، كما تحدثت في ذات الفصل عن بواعث وخصائص هذا الفرع من الأدب الإسلامي.
وقد حاولت رصد أثر الذاتية الإسلامية في ضوء تجلياتها المرحلية، التي كانت سبيلي إلى معرفة طبيعة اهتمامات الذات المسلمة قديما، ونهجي في الإقتراب أكثر من ظروفها الحياتية، كما أنها كانت دليلي إلى الوقوف على مدى حضور وعيها بتميزها الإسلامي في ما خلفته من آثار وأعمال يقتسمها البعد الأدبي والعمق التاريخي، فكانت الغاية التي طمحت إليها في هذا المقام من البحث مجسدة في تمثل الذات المسلمة داخل فضاءات واقعية دالة ومعبرة، سبق و أن سجل فيها الإنسان المسلم حضورا متفردا طوال قرون خلت.
§ وفي الفصل الثاني عرضت لأدب السيرة الذاتية الإسلامية وهو في "طور التجنيس حديثا"، وفيه تحدثت عما شهدته كتابة هذا الضرب من الأدب الذاتي في العالم العربي الإسلامي الحديث من إحياء، وما عاشته الذات العربية المسلمة من ظرف دقيق بحثا عن ذاتها، خاصة في عصر نهضتها الحديثة، وقد أرخ القرن التاسع عشر الميلادي لهذا الطور من حياة الإنسان العربي المسلم، ثم إنني نظرت في ظاهرة المحاكاة التي عرفها هذا اللون من التعبير الأدبي، وانتقلت بالنظر بعد ذلك إلى ما شهده حديثا ذات الأدب من تحولات مستجدة في ضوء نزوع الكتاب إلى تجديده بالصقل والتطوير، فكان إسهامهم في هذا الباب شاهدا على الجهود التي بذلوها من أجل تحقيق الصفة الفنية لأدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية.
ومن أهم ما تبدو الإشارة إليه واجبة، هو ما قام به كتاب عصر النهضة العربية الإسلامية الحديثة من إمداد سيرهم الذاتية وإغنائها بمضامين وأساليب جديدة، ومزاوجتهم بين النهل من روح الثقافة العربية الإسلامية القديمة، ممثلة بالأساس في النماذج التراثية المنتسبة إلى أدب السيرة الذاتية، والإنفتاح على ما تزخر به الثقافة الغربية من الأعمال الأدبية الدائرة في فلك التاريخ الفردي الخاص، ثم إن مما يستحق الذكر هو ما أضافه الكتاب غير العرب في العصر الحديث من أنفاس إبداعية خصبة، ومن معالم أسلوبية موحية إلى أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، فضلا عن كونها شاهدة على قيمة ما أسهموا به من قراءات متنوعة ومتكاملة في الرصيد الثقافي والحضاري للجماعة الإنسانية، وهي تعد بحق إضافة نوعية وكمية جد هامة، تستحق أكثر من وقفة تأملية وأكثر من دراسة مستفيضة.
لقد شهد أدب السيرة الذاتية – حسب ما خلص إليه اعتقادي - ثلاث مراحل تاريخية رئيسة موازية لثلاثة أطوار أساسية من الوعي الأدبي، بدءا بمرحلة التأسيس وما سادها من وعي تأسيسي، ومرورا بمرحلة الإحياء والمحاكاة وما اتسمت به من وعي إحيائي، ثم انتهاء إلى مرحلة التجنيس وما احتضنته من وعي تجنيسي.
§ أما الباب الثاني فقد خصصته للنظر في تجليات الذات المسلمة من جهة، ثم لاستقراء فضاءات الذاكرة الإسلامية من جهة ثانية، بحيث أفردت الفصل الأول منه لتجليات تلك الذات، وفيه تناولت بالدرس والتحليل موقع الذات المسلمة بين تميزها الفردي وعمقها الجماعي، وخلصت إلى أن لكل ذات سمات شخصية تنفرد بها عن بني جنسها، وفي هذا دليل على انعدام وجود كيان فردي ذاتي بحت أو كيان جماعي موضوعي صرف، بحكم ما تنطوي عليه كل ذات فردية من جوهر جماعي، و ما هو كامن في كل ذات جماعية من عمق فردي.
ثم إني نظرت في ما للبيئة، والوراثة من تأثير في الذات المسلمة، ومن بين أهم ما يسم التأثير البيئي على هذه الذات ويشكل جوهره، أستحضر عامل التواصل والتفاعل الذي يحكم علاقة الفرد بما حوله من موضوعات وبالأفراد الذين يحيطون به، كما تبين بوضوح أن جميع المظاهر الوراثية، التي وقفت عليها في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ما هي إلا آثار تعود في الأصل إلى الوراثة الطبيعية، التي يتأثر بمفعولها الإنسان قبل وبعد ولادته، ثم طوال حياته، أو هي نتيجة نابعة من الوراثة المكتسبة، التي تنبني أساسا على الميل إلى تقليد الآخرين، و هي وراثة أكثر ما تكون ذات أثر جلي في الأطوار المتقدمة من حياة الإنسان.
كما حاولت استقراء العلاقة بين الذات الإنسانية والعقيدة الإسلامية، فتبين لي أن الإسلام - على درب البحث عن النهج السوي - هو ما يمثل عمق الحياة المادية والروحية للإنسان في مختلف أطوار حياته الدنيوية، ومن أهم ما وقفت عليه في سياق هذا المحور، هو أن الذات المسلمة – عربية كانت أم أجنبية - ابتليت في حرصها على التمسك بعقيدتها بأعنف الهزات وشديد المحن على كافة المستويات، وشهدت تحولات كثيرة في ظل معاناة رهيبة، اتخذت صورا وأشكالا مختلفة.
ومن المؤكد أن ما ينطوي عليه أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة من خطاب، يكشف بوضوح ما أصاب الإنسان العربي المسلم من مآسي وآلام كانت بحق محكا واختبارا له على مدى صموده في وجه القوى التي سعت جاهدة إلى محاصرته بمختلف ضروب الفتن، واقتلاع جذوره العربية الإسلامية، والعبث بمكونات شخصيته وقيمه السامية، وإذا كان كثير من أهل العلم والفكر والأدب في سائر البلاد العربية الإسلامية – سواء المغمورين منهم أم ذوي الشهرة – قد استعانوا بذلك الكائن الأدبي للتعبير عن انشغالاتهم وتطلعاتهم، فذلك لأنهم وجدوه لسانا فصيحا يترجم حال الذات المسلمة في حاضرها، وهي تسعى جاهدة إلى تجاوز انكساراتها، ثم النهوض من جديد بعد ركود طال أمده.
ومما أضيفه في مسار هذا السياق، هو أن علاقة الذات الأجنبية بالإسلام، كانت في مختلف مراحلها التاريخية لقاء بين إنسان مضطرب حائر وعقيدة ثابتة، إلا أن تجربة الدخول في الإسلام تظل فريدة من نوعها، وثمرة بحث طويل وشاق – أحيانا – عن الدين الحق، ونتيجة للحظة اكتشاف ويقظة في وسط اجتماعي يفتقد العقيدة الصحيحة ويعاني اختلال النهج، وأما اليقين الذي لا يتسرب إليه أدنى شك، هو أن تلك التجربة ما هي إلا ترجمة فصيحة لما يشهده أهل البلاد الغربية والأجنبية عموما من صحوة إسلامية ما تزال في بداية أوجها ومستهل عنفوانها.
فهل آن الأوان لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي الحديث باعتماد ما تم إنتاجه من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ؟ باعتبار أن الكثير مما يطلع عليه القارئ من حقائق تاريخية، وما يصادفه مخطوطا من أحداث، ومواقف، وشهادات كثيرة في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، يجسد في مجمله ومفصله ذلك الوجه الآخر لناريخ الذات المسلمة، الذي لم يكتب بعد.
ثم إني تحدثت عن مظاهر اغتراب الذات المسلمة في مختلف الأوساط الإجتماعية – عربية كانت أم أجنبية – فوقفت - على سبيل المثال لا الحصر - عند نوعين من الإغتراب المتعدد الصفات، الذي يعيش الإنسان المسلم أوج سطوته وفتنته في العصر الحديث، فأما النمط الأول فيمكننا أن نصطلح عليه أو نصفه بـ"الإغتراب الديني"، وهو نوع من الإغتراب الذي يكاد يكون قاسما مشتركا بين مجموع الأفراد الذين يدينون بالإسلام، سواء في العالم العربي الإسلامي أم في العالم الغربي والأجنبي عموما، وإذا كانت ظاهرة الإغتراب تتخذ سمات متنوعة في الغالب، وتتجسد تبعا لظروف وأوساط اجتماعية معينة، فإن حدة الشعور بآثارها تختلف حسب طبيعة الأفراد والجماعات.
وأما النوع الثاني من الإغتراب، فبالإمكان الإصطلاح عليه بـ "الإغتراب العرقي" ومظاهره كثيرة ومتنوعة، إلا أن المظهر المأساوي البارز فيه والمثير للإستفهام المتواصل، هو اغتراب المسلمين السود في الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، واعتبارا لهذا الواقع الذي يتخذ طابعا مأساويا، اعتمدنا اغتراب الإنسان المسلم بعرقه في أمريكا فضلا عن اغترابه بدينه، وهو اغتراب مزدوج ومضاعف في واقع الحال.
§ وفي الفصل الثاني قمت باستكشاف "فضاءات الذاكرة الإسلامية الحديثة" في ضوء موضوعات رئيسة كبرى، أذكر في مقدمتها: الزمان، والمكان، والحدث، فنظرت أولا في مدى تأثيرها في الذات المسلمة، باعتبارها من أكثر العناصر ارتباطا بالإنسان، وبحكم أنها دعائم ومرتكزات يقوم عليها الفعل الإنساني، فكانت لي قراءات محورية محددة في جملة من موضوعاتها الفرعية الصغرى، التي تنفرد فيها الذات المسلمة بشعور الإنتماء إلى الإسلام.
§ أما الباب الثالث والأخير فقد اتخذته محورا ومدارا للإشتغال على خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وتلقيها، إذ خصصت الفصل الأول منه لبسط وتحليل مظاهر الخطاب ومكوناته ووظائفه، كما أني نظرت في بواعث وأساليب كتابة هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث بالدراسة والتقصي، ثم حاولت مساءلة درجة الصدق الخطابية الكامنة فيه.
وقد حاولت في هذا الفصل من الأطروحة أن أحيط أكثر بهذه المحاور الهامة جدا – حسب اعتقادي – متخذا هذه الخطوة المنهجية للكشف عما لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من خطابية، ومن قوة على مستوى التواصل الثقافي الإنساني، باعتبار أن الخطاب الأدبي بوجه عام ليس مجرد صياغة وتركيب، ومضامين ووظائف؛ بل إنه نتاج ذو معالم ومجالات أكثر تشعبا وإيحاء، وكائن ينطوي على خفايا وأسرار مثيرة للبحث العلمي، فضلا عن عما يشتمل عليه من عناصر دقيقة ومجردة، تضرب بجذورها في ذات الإنسان وذاكرته.
§ أما في الفصل الثاني فقد اتخذت من مسألة تلقي خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محورا للدرس والتحليل، بحيث عرضت لمواثيق قراءته، وبواعث تلقيه، وآفاقه المستقبلية، وذلك في ضوء الغاية التي من أجلها تم إنتاج هذا الجنس من الخطاب أصلا، والمتمثلة في إشراك الذوات المتلقية له ودعوتها للإسهام في استقرائه، وفي ما يعثر عليه القارئ في فضاءاته من معالم وإيحاءات، قد تستجيب لآفاق انتظاره المرتقبة.
ثم قصدت بسعي منهجي إلى اقتفاء أثر الذات المسلمة بين تخفيها وتجليها في ما تنتجه من خطاب أدبي منتسب إلى جنس السيرة الذاتية، فانتهيت إلى خلاصة بإمكاني أن أوجزها في أن: ما ينفقه الأدباء، والمفكرون، والمؤرخون وغيرهم من جهد غير يسير طوال حياتهم في سبيل الكتابة، ما هو إلا دليل على سعيهم المتواصل إلى الإمساك بحقيقة وجوهر ذواتهم، ثم إن مجمل ما تقدم ذكره من خلاصات ونتائج، قد أتيت على ذكره تصريحا وتلميحا في الخاتمة العامة، وعمدت على صياغته موجزا في غير إسهاب.
مقترحـــــــات
وحسبي في هذا المقام الختامي أن أبسط جملة من المقترحات، وهي دعوات متواضعة ذات صبغة اقتراحية في واقع الأمر، أوجهها إلى كل مهتم بدراسة أدب السيرة الذاتية ونقده، بحيث أقترح الآتي:
– أولا: أن يسهم الطلبة الباحثون باجتهاداتهم في استكشاف ما يختزنه أدب السيرة الذاتية من عوالم
وآفاق، وفي دراسة ما يسمه حديثا من تحولات وإضافات مستجدة، وعسى أن يتم البحث
مستقبلا في السيرة الذاتية الروائية، والشعرية، والمسرحية، والسينمائية، وفي غيرها من
الموضوعات ذات الصلة بالمحكي الذاتي، إذ من المؤكد أن الإشتغال عليها سيكشف عن الكثير
من أسرار وسيرة هذا الكائن الأدبي.
– ثانيا: أقترح تنظيم مجموعات بحث مشتركة بين الأساتذة والطلبة الباحثين في سائر الجامعات المغربية،
وذلك بهدف العناية بدراسة أدب السيرة الذاتية.
– ثالثا: العمل على إنشاء مكتبة أو مكتبات خاصة بأدب السيرة الذاتية، وفسحة الأمل أن نشهد في أحد
الأيام مكتبات جامعة للأعمال الأدبية والنقدية، على أساس أن يتم تخصيص كل واحدة منها لأحد
الأجناس الأدبية.
– رابعا: السعي إلى إنجاز موسوعة مطبوعة وثانية إلكترونية على شبكة الأنترنيت، مخصصتين لأدب السيرة
الذاتية العربية والإسلامية ونقده.
– خامسا: العمل على إنشاء مركز للأبحات والدراسات الخاصة بأدب السبرة الذاتية.
– سادسا: تنظيم ندوات، وملتقيات، وأيام دراسية مكثفة حول أدب الحكي الذاتي، النثري منه والشعري، والمكتوب منه والشفهي في العالم العربي الإسلامي.
– سابعا: إنجاز ببليوغرافيا شاملة للسير الذاتية العربية والإسلامية، وببليوغرافيا ثانية تشمل جميع الأعمال
النقدية ذات الصلة بهذا الفرع من التعبير الأدبي الإنساني.
هذه بعض المقترحات أرى من باب الواجب العلمي أن أبسطها، اقتناعا مني بما تكتسيه آثارها الآنية والمستقبلية من أهمية كبيرة، وباعتبار ما سيجنيه طلاب العلم والمعرفة من ثمارها، وهي على أي حال لا تمثل سوى القليل جدا من آفاق انتظار كثيرة، لن يتم إدراك تحقيقها، وتشييد محتواها في الساحة الثقافية إلا بالجهد الجماعي القائم على التكامل، وأضرب المثل في هذا السياق – على سبيل شحذ الهمم وحشد الجهود - بما تشهده الساحة الأدبية والنقدية الفرنسية من مبادرات وحركة ثقافية نشيطة خاصة بأدب السيرة الذاتية، ومن اجتهادات جماعية علمية بالغة الأهمية في هذا المجال، ويكفي أن أستشهد بما قام به الناقد الفرنسي ) فيليب لوجون – PHILIPPE LEJEUNE(، عندما أسس جمعية أدبية نقدية، أطلق عليها إسم: )جمعية من أجل السيرة الذاتية – ASSOCIATION POUR L’AUTOBIOGRAPHIE (.
ثم لا أعلم هل سيأتي اليوم الذي سنرى فيه جميعا بمشيئة الله عز وجل ثمار تلك المقترحات يانعة وقد حان قطافها أم لا ؟ وكأني بالشاعر أبي الطيب المتنبي يجيب من بعيد في الزمان والمكان، ببيتين من أخلد شعر الحكمة لديه، فيقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكـارم
وتعظم في عين الصغير صغارهـا
وتصغر في عين العظيم العظائم
خاتمـــــــة
من المؤكد أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد أسهم بقوة وفاعلية في بناء خطاب نقدي عربي إسلامي مميز ومتسم بدرجة أعلى من النضج على مستوى الوعي المنهجي بسؤال أدب السيرة الذاتية عموما، وخير دليل على ما نراه اليوم ونترقبه غدا، هو أن الباحث الراصد للمشهد الإبداعي والنقدي العربي الإسلامي الحديث، يلاحظ في يسر ودون عناء نزوعا قويا للأنا المبدعة والناقدة على حد سواء إلى مساءلة الذات وضبط المرجعية، بقدر ما يلاحظ سعيها الحثيث إلى الاقتراب أكثر من جوهر الكتابة عن الذات، وهذه إشارة بليغة الدلالة إلى ما يستشعره الإنسان العربي المسلم في باطنه من طموح جلي إلى قراءة ذاته وترميم سيرته وتاريخه الجماعي.
وإني لأ عتقد أن معالم العودة بوعي جديد إلى إبداع ونقد أدب السيرة الذاتية بدأت تلوح بقوة في الأفق القريب، وما هذه العودة في عمقها الدلالي إلا إعلان صريح عن رد تمام الإعتبار إلى هذا الجنس من التعبير الأدبي، لاسيما وأن الأسئلة الدقيقة التي يطرحها لم تتم الإجابة عنها بعد، وهذه الحال القائمة اليوم قد تبعث الباحثين والدارسين في البلاد العربية الإسلامية على المزيد من الإجتهاد في قراءة سيرة هذا الكائن الأدب المميز، الحي في مختلف العصور، والحاضر لدى جميع الشعوب.
لقد أتاح لي البحث في موضوع هذه الأطروحة الإطلاع على الكثير من التجارب الإنسانية، وتحصيل معرفة وخبرات حياتية ثمينة جدا، وخلص بي من جهة ثانية إلى الإقتراب أكثر من بعض أسرار ودقائق النفس البشرية، فكانت بحق محاوراتي لذوات مسلمة، عربية وغير عربية، من خلال ما أبدعته من أدب السيرة الذاتية غنية ومفيدة جدا في تقديري، وقد أسفر السعي بعون الله وتوفيقه عن هذا الجهد المتواضع، الذي لا أدعي فيه سبقا ولا أزعم فيه فضلا، ومنتهى ما أطمح إليه أن يكون سعيي وما اجتهدت فيه خالصا لوجه ذي الجلال والإكرام عز وجل، وأن يعثر فيه كل طالب علم على اليسير مما كان يترقبه ويقتفي أثره.
وفي الختام أتقدم مرة ثانية بالشكر الجزيل إلى الأساتذة الأجلاء أعضاء لجنة المناقشة، الذين حرصوا برحابة صدر على قراءة فصول هذه الثمرة الجامعية الدالة على سيرتها، كما أتقدم بذات الشكر إلى كل من رافقني طيلة سنوات البحث بالسؤال والإهتمام، والمساعدة العلمية في سبيل إنجاز هذا العمل، كما أتوجه بمنتهى الشكر والتقدير إلى جميع الأهل، والأقارب، والأصدقاء، والأساتذة، وطلاب العلم والمعرفة، الذين شرفوني اليوم بحضورهم هذه الجلسة العلمية الكريمة.
نص مناقشة رسالة دكتوراة تاريخ مناقشتها: الاثنين 15 ذو القعدة سنة 1425 هجرية الموافق لـ: 27 كانون ثاني - ديسمبر سنة 2004.
مكان المناقشة: مدرج الشريف الإدريسي - جامعة محمد الخامس - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط - المملكة المغربية.