الجمعة ١١ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم علي شمس الزينات

السيمفونية العربية

متى ستبدأ " السيمفونية العربية " عزفها ؟

في يوم 8 أيار 1945 كانت نهاية الحرب العالمية الثانية ؛ إذ استسلمت ألمانيا في ذلك اليوم بالكامل, وخرجت من الحرب مدمرة ؛ فهناك خمسة ملايين أسير ألماني في سجون الأعداء . مات منهم من مات , وتشوه منهم من تشوه .

وأصبحت البنيه التحتية في ألمانيا بعد الحرب شبه مدمرة ؛(90%) من المباني انهارت , مدن دمرت مبانيها بالكامل مثل مدينة "كولون" , ناهيك عن انعدام الموارد الأساسية فيها . وباتت ألمانيا كلها مقسمة إلى أربع مناطق , ترزح تحت نير احتلال الدول الأربع : أمريكا وإنجلترا وفرنسا و روسيا .

وعلى ضوء ذلك الحال المرثي لألمانيا تسرب اليأس والإحباط إلى نفوس المواطنين الألمان, فكان الحل لديهم هو الحبل ! , كان كل واحد منهم يبحث عن حبل ليشنق به نفسه. وفي ذروة هذا الوقت العصيب ظهرت فكرة نبتت في عقول النساء الألمانيات , فبدأن بجمع الطوب الأحمر من بين الأنقاض لبناء البيوت و المدارس , وبدأ الشيوخ بتنظيف الشوارع , لم تكن في ذلك الوقت حكومة تقود عملية البناء , فقد كانوا يكتبون على الجدران " لا تنتظر حقك . افعل كل ما تستطيع . كل امرأة تزرع أمام بيتها البطاطس لتأكل منها" .

في عام( 1975) وبعد مضي ثلاثين عاما من الحرب تمكن الألمان من بناء ألمانيا من جديد , فقد تمكنوا من بناء المصانع , وجذب رؤوس الأموال والاستثمارات إلى ألمانيا . وها هي ألمانيا الآن تحتل المراتب الأولى في القوة الاقتصادية والتكنولوجية على مستوى العالم , وأصبحت صناعاتها تنافس وتضاهي صناعات الدول التي احتلتها .
وتأكيدا لتجارب النجاح تلك , يظهر النموذج الياباني كمثال واضح على إرادة الحياة والنجاح .

فاليابان خرجت أيضا من الحرب العالمية الثانية مدمرة تماما , أكثر من ألمانيا . فقد تعرضت مدينتيها ( هيروشيما ونجازاكي ) إلى التدمير شبه الكلي بفعل القنابل الذرية . فمات الملايين من اليابانيين البشر في لحظات , وتحولت الأرض إلى خراب ملوث بالإشعاعات النووية , ما أدى إلى إصابتهم بتشوهات جسدية متوارثة عبر الأجيال . ولكنهم ورغم ذلك المصاب العظيم الذي أصابهم لم يستكينوا ولم يستسلموا أمام ذلك الطوفان الهائل الذي دمر بلدهم بالكامل , بل على العكس من ذلك فقد بدأوا بالتفكير الجدي والعمل لإعادة بناء اليابان , فكان نهوضهم من خلال فكرة( أيضا) جسدتها تعاليم بوذا التي تحرص على العمل و تقديسه , فأصبحوا يروجون بينهم أن" بوذا يبشرهم بالنصر" .

وانطلق الجيش الياباني المهزوم من ساحة المعركة إلى المصانع , استمروا بالعمل ليل نهار , واتجه الشباب الياباني إلى التعليم من خلال منح وبعثات علمية إلى أمريكا( البلد الذي ساهم بإبادتهم وتقتيلهم وانهيارهم ) , كان الشاب الياباني يذهب لنيل الدكتوراه في أمريكا، ثم يعود بعد أن تمكن من التدرب على تركيب موتور ماكينة , فيلقي بالدكتوراه جانباً ؛ ليتفرغ إلى تركيب الماكينات بيديه, وكانت الصحافة اليابانية تحتفي بكل شاب عائد من دراسته وتقول " زادت قوتنا واحدا " !!

وعندما مر رئيس وزراء اليابان ( في تلك الفترة) بجانب إحدى البنايات , سمع هدير "المواتير" فقال :" الآن فقط تبدأ السيمفونية اليابانية عزفها " .
استطاع اليابانيون أن يبنوا أنفسهم في 30 سنة أيضا , فقد كانت صادرات اليابان عام 1952 صفرا , أما في عام 1973 أصبحت( 3,8 ) بليون دولار , وفي عام 1991 ارتفعت الصادرات لتصبح( 386 ) بليون دولار .

إن عرضي لهذين النموذجين ليس من باب استعراض تاريخي لهما لا , بل من أجل أن نمنح لأنفسنا فرصة للتأمل والاعتبار من تجاربهم تلك .

فبالرغم من قوة الإمكانات المادية والاقتصادية والبشرية التي يمتلكها العرب , فإنها لم تسعفهم في تنمية الشعوب العربية ولا في تقدمهم , بل على العكس من ذلك فقد أسهمت في تقهقر أحوالهم وتخلفهم عن ركب الدول الأخرى .

والحقيقة التي لا بد أن نعيها ونستشفها من التجارب التي ذكرت , هي عدم وجود" الفكرة" والتي هي أساس أي عمل , وهي إن وجدت فإنه ينقصها الإيمان والاعتقاد القوي بها , وبالتالي إحالتها إلى واقع عملي ملموس .
فعندما وجد الألمان واليابانيون أنفسهم عراة تحت الشمس مدمرين ومنهكين , ومهددين بالزوال والاندثار , زرعوا في أنفسهم أفكارا وآمنوا بها أشد الإيمان , فهبوا إلى العمل والبناء .

على النقيض تماما من العرب , فلم تحرك الانكسارات والإنهزامات "المتوارثة" في أنفسهم وعقولهم ساكنا , فأصبح العرب يعيشون بدون معتقد وأفكار وغاية يؤمنون بها ويسعون إلى تحقيقها , فقد أورثت تلك الكوارث فيهم ردة فعل عكسية قائمة على الكسل وعدم الانتماء والتفكير والعمل .

إن البداية الحقيقية لمجد وتقدم العرب من جديد تكمن في زرع فكرة وجودية للعرب في داخل نفس وعقل كل عربي , والسعي الحثيث ( بدافع الإيمان المطلق بتلك الفكرة وبدافع الانتماء الحقيقي للعروبة والإسلام ) نحو العمل على تحقيق تلك الفكرة جملة وتفصيلا في التعليم والصناعة والزراعة وفي كل مجالات الحياة ؛ مرتكزين في سبيل تحقيق ذلك على التفكير والتخطيط العلمي والمنظم ؛ لا على العاطفة .
فعندما آمن العرب والمسلمون بفكرة الإسلام واعتقدوا بها أشد الاعتقاد ؛ قدموا أرواحهم ودمائهم في سبيل بقائها ورسوخها وتحقيقها , فنشروا الدين الإسلامي في شتى بقاع الأرض فاتحين , وأقاموا إلى جانب الدين حضارة علمية وفكرية واقتصادية عظيمة أسهمت في تقدمهم وسيادتهم على العالم في تلك الأيام .

واليوم , ونحن نعيش حالة يرثى لها من الضعف والذل والتردي , لا بد من وقفة تأمل جاد وتفكير جدي وانتماء حقيقي لذواتنا , ولا بد من إعادة النظر في طريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا , ولا بد من التخطيط المنظم لسلوكياتنا .
فحتى تعود الحضارة العربية والإسلامية قوية كما كانت , فإنه يقع على عاتق كل شخص منا مسؤوليات جسام , فلا بد من كل واحد فينا أن يتجه إلى العلم والعمل والنشاط والإيمان والبناء والتعمير , ليس من أجل غايات شخصية رخيصة ؛ بل من أجل أن نبني أوطاننا العربية ؛ ونحيل دمارنا هذا إلى بناء عظيم .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى