الثلاثاء ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم صلاح سرميني

السينما 500 كيلومتر

لمخرجه السعوديّ عبد الله آل عيّاف

فيلمٌ تسجيليٌّ يرصدُ حالةًً فريدةً في العالم

السعودية من أكثر البلدان استهلاكاً للأفلام، وليسَ فيها صالةٌ سينمائيةٌ واحدة

مجموعةٌ من الشباب المُحبّين للأفلام، يعشقون الذهاب إلى السينما، بدأوا قبل سنوات متابعة الأفلام، وأصبحوا اليوم كتاباً سينمائييّن في أهمّ الصحف المحلية، والعربية.
مشكلتهم، أنهم يضطرون لمُغادرة بلادهم في كلّ مرة يودّون فيها مشاهدة فيلم في السينما.

***

المملكة العربية السعودية
المساحة : 2.24 مليون كم2
عدد السكان : 22.7 مليون نسمة
عدد صالات السينما : صفر

هكذا، وبعفوية لا تنقصها روح المرح، والدعابة، والمرارة، يبدأ الفيلم التسجيليّ (السينما500 كم)، وفي( 42) دقيقة تجمع ما بين التحقيق التلفزيونيّ(الريبورتاج)، والصيغة التسجيلية المُصطنعة، والرغبةً الروائيةً المُضمرة، والقليل من سينما المؤلف، يُلخص السعوديّ (عبد الله آل عياف) رحلة الشاب (طارق) من مدينته (الرياض) إلى (البحرين)، والتي يقطع خلالها 500 كم ذهاباً، ومثيلها إياباً، وذلك (فقط) لمُشاهدة فيلم في صالة سينمائية لأول مرة في حياته.

بنفسّ هادئ، يتابع الفيلم إجراءات حصوله على جواز السفر: تحضير الأوراق، والصور اللازمة، دفع المُخالفات المرورية، الذهاب إلى الحلاق، ومن ثمّ إلى المُصور، تنظيف الملابس، وكيّها،....

ومنذ البداية، وحتى دخوله إلى إدارة الجوازات، وانتظاره، وخروجه، وتقدمه بخطى مُتثاقلة نحو السيارة، وجلوسه، وشرحه ما حدث معه داخل المكاتب، ... يتباطئ المخرج بالكشف عن استعدادات تقتطعُ حيّزاً زمنياً كبيراً، وتُساهم في تصدّع سيناريو يتردّد ما بين الخاصّ، والعام، ويُثقله بمعلومات تصل إلى المتفرج مضاعفة، الأولى صورةً (الكاميرا تتابع طارق)، والثانية حكياً (تعليقاته، وتفسيراته السابقة، أو اللاحقة)، مما أصاب المونتاج بخللّ إيقاعيّ، ولعلّ أوضح مثال، عندما يحكي عن بداية عشقه، وعلاقته بالأفلام، ومن ثمّ نشاهده يدخل محلاً لبيع، وتأجير الأقراص المُدمجة، فهل كان ذلك المشهد (عودة إلى الماضي)، أم (تفسيراً بصرياً لاحقاً) لمعلومة وصلتنا حكياً ؟.

والأكثر مدعاة للقلق، رجحان كفة الصيغة السينمائية لصالح نمطيّات التحقيق التلفزيونيّ (المُقابلات الريبورتاجية) .
ومع أنّ (السينما500 كم) يمتلك كلّ الاحتمالات التعبيرية ليكون (فيلم طريق) بامتياز ـ كما تُشير الكيلومترات الكثيرة التي يتضمّنها العنوان ـ إلاّ أنّ إجراءات الحصول على جواز السفر جعلت (الطريق) نفسه هامشياً، ومع هذا الانحياز، تأخرت الكاميرا، وانشغلت بخطوات ضرورية لمن يسافر لأول مرة خارج البلاد، ونحن نعرف بأنها سوف تصبح أكثر سهولةً، وروتينيةً في المرات القادمة.

واختطفت (الزيادات التحضيرية) اهتمامنا بالرحلة، وحرمتنا من متابعة بحثّ بصريّ عن خصوصية المكان(السعودية)، والمُفارقة الغريبة بين تحريم الصورة دينياً، وغياب صالات السينما، وحضورها الطاغي في أشكالّ أخرى .
كما افتقدت تلك (المرّة الأولى) أحاسيس الدهشة، ولهفة الاكتشاف، وأشعرتنا بأنها رحلة (طارق) الـ....17 .
باختصار، لم ينطلق المخرج مباشرةً نحو موضوعه الأكبر، الأفلام الحاضرة بقوّة، وصالات السينما الغائبة، والطريق نحو السينما.
لقد بدأت الرحلة في الدقيقة الـ 18 من الفيلم، وكان كلّ ما سبقها تمهيداً عسيراً لها، بدون أن تُستثمر تلك الدقائق الكثيرة بتجوال الكاميرا(مثلاً) في المدينة، وأسواقها، ومُجمّعاتها بحثاً عن الأفلام، والسينما، والجمهور، وتقلص ما أُمكن من الحكي، و(ربما) كان من الطريف البحث الافتراضيّ عن صالة سينما وهمية، وسؤال الأهالي عنها.

لقد استرخت الكاميرا في تفاصيل استعدادات فرديةً، طغت كثيراً على الحالة الجماعية، وتخيّرت عفويةً في التصوير، والمونتاج لصالح الشخصية الرئيسية، وعلى حساب الآخرين .

وما نُشاهده في الفيلم على فترات مُتعاقبة، ما هي إلاّ مشاهد (إعتراضية/تفسيرية) لما يحكيه (طارق)، فهو الذي يُعرّفنا على كل شيئ، بما فيها محاولات إيجاد بدائل لصالة سينما(خيمة، وستارة بيضاء معلقة بمشابك غسيل، وجهاز عرض فيديو).
وبغضّ النظر عن التسلسل المُونتاجي وُفق تلك الصيغة التفسيرية، يتضمّن الفيلم لقطتين في مكانين مختلفين، نشاهد فيهما أفراد المجموعة يؤدون الصلاة، وهنا، أزعم بأنّ المخرج لا يقصد توصيل أيّ رسالة أخرى (أخلاقية مثلاً) من خلالهما، ولكنهما دالتان بما يكفي، فهؤلاء الشباب مولعون بالسينما مشاهدةً، وكتابةً، وإنجازاً، وهمّ في نفس الوقت ملتزمون دينياً، يؤدون فرائضهم مثل أيّ مسلم، وهما إيحاءٌ ضمنيّ لحالة الفهم، والتسامح، والتصالح مع الصورة، بعد أن كانت(وما تزال) إشكالية عقيمة.

وفي لقطات (اعتراضية) أخرى تقطع استعدادات السفر، يشعر المتفرج (المحظوظ سينمائياً) بالخجل، وهو يشاهد هؤلاء مجتمعين في سينماهم/خيّمتهم حول جهاز كمبيوتر يشاهدون فيلماً ما، وخاصةً عندما يقول (طارق) بحسرة :
ـ أنا لا أحبّ السفر، ولكن ماذا أفعل، إذا لم تأتِ السينما عندنا، فنحن سوف نضطر للسفر إليها.

ما تزال المسافة طويلة جداً من (الرياض) إلى (البحرين)، ومع الدقيقة الـ21 من الفيلم، يبدأ المخرج بتجميع آراء باقي أفراد المجموعة التي تحدث عنها في مقدمته.

يقول (محمد بازيد) ـ مخرج الفيلم القصير القطعة الأخيرة ـ :

ـ إننا نعيش مفارقات غريبة، فنحن ننتقل من دولة إلى أخرى لمُشاهدة فيلم، بعضنا متزوجٌ، ولديه أطفال، ماذا يفعل لو حدث مكروه لأحد أفراد أسرته؟، آخرٌ يعمل في القطاع العسكري، ولا يستطيع السفر خارج فترة إجازته السنوية، ثالثّ لم يبلغ السنّ القانونية بعد، ويتوّجب عليه اصطحاب أحد أولياء أمره.
أتصور بأنّ فكرة الفيلم خطرت في بال (عبد الله آل عياف)، ولم يكن يمتلك (خلال فترة التصوير) سيناريو محدّد لتنفيذها، فاستخدم رحلة (طارق) خطاً واصلاً بين بداية الفيلم، ونهايته، وعمد إلى تطعيمها بمشاهد (اعتراضية) لدعم الفكرة الأساسية : اللقاءات، مشاهد في أحد محلات تأجير الأفلام، وأخرى في الخيمة،.. كما أظنّ بأنه استخدم أكثر من كاميرا رقمية، وكانت الأقلّ كفاءةً تقنيةً من نصيب الرحلة.

وكان للمخرج نصيباً من التعليقات المكتوبة على الشاشة، وبنفس روح الدعابة في بداية الفيلم، يكشف التعليق التالي عن مرارة، وخيبة أمل :
(خلال تصوير الفيلم، تحدثت الصحف السعودية عن تنظيم أمانة مدينة الرياض لأول عروض سينمائية بالبلاد أيام عيد الفطر لعام 1426 هـ يتمّ فيها السماح للأطفال، والنساء فقط بمشاهدة أفلام مختارة).

ولكن، ربما يكون طريق الألف صالة، (واحدةٌ) تقدم عروضاً سينمائية/لأفلام مختارة/فترة الأعياد /للأطفال، والنساء (فقط) .
يليها تعليقات دمثة لـ(رجا المطيري) ـ ناقدٌ، ومخرج الفيلم القصير هامش ـ وآخرين :
نحن نحلم، ونطمح بصالة عرض حقيقية، ودائمة، تعرض أفلاماً من كلّ أنحاء العالم، ومن أجلها نرتدي أجمل ملابسنا، ونخرج من بيوتنا، وفي مداخلها نتفرج كالأطفال على المُلصقات، والصور المُعلقة، ونختار فيلماً ما، ونشتري تذاكر الدخول، ونجلس في كراسيها المُريحة، نقرمش البطاطس المقلية، والذرة المُحمّصة، ونشرب المياه الغازية، ونبحلق في شاشة كبيرة تزدان بصور ملونة(بتصرّف).

وحتى يتحقق تلك الأماني، لا يمتلك هؤلاء (العاشقين)، وغيرهم من بديل غير السفر إلى صالات الدول المُجاورة.
سينمائياً، كنت أتمنى بأن يبدأ الفيلم مع تلك اللقطات التي ظهرت في الدقيقة 29من الفيلم، الكاميرا داخل السيارة تصور الطريق المُمتدّ أمامها، حيث تنطلق الموسيقى لأول مرة، ومع تلك اللقطة بالذات، تخيلتُ عنوان الفيلم يظهر على الشاشة، وبينما كانت الكاميرا تتمهل قبل ذلك، أصبحت منذ تلك اللحظة مستعجلة، فانحرفت مباشرةً نحو اليسار لتصوّر ـ بالصدفة ـ جثة سيارة جاثمة على طرف الطريق، وأكملت حركتها النصف دائرية، لتظهر لنا مرافقي (طارق) نصف نائمين في الكرسي الخلفي، مستسلمين للانتظار، والإرهاق، وصوت أم كلثوم .

وفي الوقت الذي كان المونتاج مُسترخياً في بداية الفيلم، أصبح يستعجل الكيلومترات المُتبقية، ليختصرها في دقائق(باقي على نهاية الفيلم 12 دقيقة).
تلك اللقطات الأكثر تجسيداً للفكرة الجوهرية للفيلم(الرحلة، والطريق نهاراً، وليلاً، والانتقال من موسيقى إلى أخرى تعبيراً عن تدفق الزمن) اختصرها المونتاج صورة، وصوتاً، وأفقدها الكثير من الشعرية، وكنت أتمنى بأن تبقى، وتطول، وتتداخل.
وقبل أن تصل المجموعة إلى حدود (البحرين)، كان من المفيد بأن يتفطّن المخرج ـ في مرحلة مزج الأصوات(الميسكاج) ـ إلى صعوبة فهم الحوارات المُتبادلة داخل السيارة مصحوبةً بموسيقى، وأعتقد بأن تلك اللحظات لم تكن بحاجة أبداً لأيّ كلام.

وتتابع الكاميرا في حركة بانورامية البحر المُمتدّ من الحدود السعودية إلى البحرينية، يُفسدها تعليق أحد أصحاب صالات السينما عن إقبال السعوديين عليها فترة العطل الأسبوعية، والأعياد، ويُضيف عبئاً (ريبورتاجياً) على الفيلم، لتعود الكاميرا مرةً أخرى إلى حواجز الجمارك بين البلدين(منطقياً، لم تصل المجموعة بعد إلى البحرين، أو إحدى صالات السينما فيها، فما هو مبرر وضع التعليق في ذاك المكان بالذات ؟ ).
لقد اختار المخرج متابعة الرحلة من خلال الشخصية المحورية(طارق)، وما بين اللقطة الكبيرة لوجهه في بداية الفيلم، وتلك التي ظهرت في نهايته، يستخدم (آل العياف) مونتاجاً مجازياً يوحي باقتراب تلك التجربة من الحلم، أو الكابوس.

ينتهي الفيلم بلقطة دالة لم تتواجد في ذلك المكان صدفةً، لقد تخيرها المونتاج عمداً، وفيها يستيقظ (طارق) من غفوته، ويهمهم : هل وصلنا ؟.
يتبعها تعليقٌ ختاميّ مكتوبٌ على الشاشة :
(في رحلته الأولى لمُشاهدة فيلمه الأول في دار سينما، غاب طارق عن المنزل 42 ساعة، وصرف من المال 281 ريالاً سعودياً، وقطع مسافة 1012 كم).

فكم يحتاج المخرجون الشباب في السعودية من الغياب، والمال، والوقت لتحقيق أهدافهم، وغاياتهم، وطموحاتهم لتكوين ما يمكن أن نسميه (سينما سعودية) ؟

يمتلك (السينما 500 كم) فكرة فيلم فريدة، يفتقد معالجةً سينمائيةً تجعله واحداً من (أفلام الطريق)، المُهمّة، والمُتميزة، وأنشودةً سينمائيةً نتغنى بها، وعلى الرغم من عقبات الفيلم الأول، ينضمّ (عبد الله آل عياف) بشغف لمسيرة الشباب السعوديين المغرمين بالسينما إلى حدّ الوله، هؤلاء الذين تعلموها عن طريق المُشاهدة، والقراءة، والكتابة فقط، وأتوقع، مع الوقت، والمُران، والتجربة، كما الخطأ، والصواب، بأن يكون لبعضهم شأناً مهمّاً في السينما العربية، بالتوازي مع بعض مخرجي الدول الخليجية الأخرى (الإمارات العربية المتحدة) تحديداً.

البطاقة الفنية، والتقنية للفيلم

تسجيلي، ملون، 42 دقيقة ، إنتاج : طريق الفن للإنتاج الفني، والتوزيع عام 2006
كتابة، تصوير، صوت، مونتاج، إنتاج، وإخراج : عبد الله آل عياف
شارك في المونتاج، والصوت : حسام البنا
شارك في التصوير : علي عمران، عبد العزيز بصيلان
نسيّ (عبد الله آل عياف) الإشارة إلى استعاراته الموسيقية.

عبد الله آل عياف :

 يعمل مهندساً، وهو عضو الهيئة السعودية للمهندسين.
 يحرّر، ويكتب في عدد من صفحات السينما في صحف سعودية، وعربية.
 أخرج فيلمه الثاني (إطار) الذي حاز جائزة لجنة التحكيم الخاصة للمُسابقة الخليجية في الدورة السادسة لمُسابقة أفلام من الإمارات/ 2007

لمخرجه السعوديّ عبد الله آل عيّاف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى