الشاطئ
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يفعلها سامي .. فقد تعود أن يتوجه إلى ذات المكان المطل على الخليج كلما اشتد به الضيق وزاد في قلبه الألم .. ولكنها كانت المرة الأولى التي يشعر بمثل هذه المشاعر تجاه البحر .. وهو الذي كان يرى نفسه فارس البحر ، وشاعره ، وصديقه ، وسمير ليله .
كان الجو في تلك الليلة يميل إلى البرودة قليلاً .. ولكنه لم يكن بارداً بحيث يحرم الجالس لذة التأمل في البحر .. وبدا الهلال صغيراً فقد كان في نهاية دورته .. ولكن بعض النجوم المنتشرة في السماء أعطت الصورة جمالاً فحيثما قلبت نظرك فسترى منظراً جميلاً .. أما في الأفق فقد بدت مجموعتان من الأنوار تدل على وجود حياة في المدينة البعيدة .. وبينهما بدا فراغ أسود كان في الحقيقة مساحة من البحر مظلمة ومنها بدا خيال سامي في الانطلاق .
نسمات الليل وحركة المد إضافة إلى الظلام الدامس أعطت الجو مزيداً من الهيبة .. فبدا كأن البحر عملاقاً سيلتهم الشاطئ .. وبدت نقطة الأفق المظلمة كفمّ كبير يوشك أن يهجم على الشاطئ .. وبالرغم من ذلك بقي في مكانه يتأمل ويفكر .. ربما كان يشعر وفي هذه اللحظة بالذات بالرابط القوي بينه وبين البحر .. وكأن هذا الشعور أعطاه نوع من الأمان .
على الشاطئ ألقيت صخرة صغيرة .. لا يدري كيف وصلت إلى هنا .. ففي هذه المنطقة لا يوجد غيرها .. ربما حملها أحد البشر وألقاها هنا .. تخيل الصخرة الصغيرة تكبر وتكبر .. ربما كانت قطعة من صخرة كبيرة وقفت شامخة على الشاطئ في مكان آخر .. وربما انتقم من شموخها بعض الصغار فقطعوا هذه القطعة وألقوها هنا .. ابتسم من خواطره ، لماذا يصر على أن يهب الحياة لكل الجمادات حوله .. عاد للصخرة ثانية .. ربما ارتطمت الأمواج لمئات السنين في أصل الصخرة الأم .. وفي النهاية تمكنوا من أخذ وليدها منها .. بعد هجمات الأمواج المصرة العنيدة استطاعوا أن يأخذوا هذه الصخرة الصغيرة .
وقف يتأمل لحظات في كلمتي الأم والوليد .. كان هذا هو المنظر الوحيد المتغير والذي أوجد في حلقه غصة كادت أن تتحول إلى دموع .. فهذه المرة من المرات القلائل التي يأتي بغيرها إلى هذا المكان .. شعر بخواء المكان حين تذكرها .. وبقي ينظر في مكانها ويحدث نفسه .. هاهنا كانت تجلس .. تلتف بعباءتها من نسمات البحر الباردة .. وتصب له الشاي وتقدمه رافضة أن يقوم هو بأي دور هنا .
– لقد كبُرتِ .. ولابد أن أقوم بكل شيء بدلاً منك .
– لا .. لن تقوم بشيء .. أنت سامي الصغير . ألا تفهم ؟
– ولكن يا أغلى البشر .. أنا أحب أن أقدم لك الشاي بنفسي .
– أتدري يا سامي حين كنت صغيراً .. كنا نزور البحر مع أبيك .. كنت تحبه كثيراً .
– ولازلتُ كذلك .
– ولكن .. ماذا ستفعل بعد رحيلي ؟
– لا تقولي ذلك جعلت فداك .. سنأتيه معاً دوماً بإذن الله .
– الأيام لا تدوم .
بقي يتأمل في كلمتها .. "الأيام لا تدوم" .. لم يكن يتوقع أن تتغير الأيام سريعاً .. لا نشعر بالتغير في بعض الأحيان لأنه يتم ببطء .. ولكن الرحيل لا يكون بطيئاً .. إنك تشعر فجأة بفقدان من تحب . وأنك أصبحت وحدك .. وأن العالم كله قد تخلى عنك .. وفي ظلام الليل تلتمس نورهم لتسير على أثرهم .. وفي صقيع الشتاء تضم أكفهم لتشعر ببعض الدفء يغطي روحك الباردة .. وحده الفراق هو مايجعلك تشعر بتغير الأيام .
عاد ينظر إلى البحر .. ارتفع المد من حوله .. بدأ يضرب في قدميه ومع ذلك لم يتحرك .. وصله صوتها:
– يا سامي ابتعد عن الماء قليلاً .
– ضم قدميه قليلاً وابتسم .
– انظر ماذا فعلت بنفسك .. كانت تخاطبه بغضب .. أنت تتسخ مثل الأطفال .
– أنا طفل معك .. قالها وابتسم .
– شعرت بالسعادة وأشرقت بسمتها : نعم يا ولد .. غلبتني هذه المرة .
عاد إلى واقعه .. شعر أن عليه أن يكون عملياً .. لقد تمنت الكثير .. ولم تر إلى القليل .. ليحاول أن يعيد لحياته النور الذي رحل برحيلها .. ماذا سيفعل ؟
– تزوج ؟
– سأتزوج .. ولكن ليس الآن .
– متى يا ولدي .. لقد كبرتُ وأريد أن أرى أبنائك قبل أن أموت .
– أطال الله في عمرك وملئه بالطاعات .. لا تقولي ذلك .
ارتفع نشيجه ليقاوم الأمواج .. لقد رحلت قبل أن ترى أحفادها .. لماذا تأخر لماذا ؟ .. شعر بملوحة دموعه .. نظر إلى البحر .. وعاد لتأمله .. كل شيء أصبح مالحاً بعدها .. كل شيء .