الخميس ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم صلاح السروي

الشاعر والشيخ والأعداء

سيأتى زمن يتحدث فيه المؤرخون عن أن بلادنا قد عاشت فى منعطف الألفية وضعا من أغرب ما يمكن.. تحديدا.. عندما كان الأعداء يحتلون أرضنا ويقصفون اخواننا بقنابل الدايم والفوسفور الأبيض، ويطلقون الصواريخ العابرة للقارات محملة بأقمار التجسس، ويصنعون الطائرات بدون طيار وينتهكون سيادتنا ليل نهار ويهددون بضرب السد العالى واغراق قرانا ومدننا، وربما الغاء وجودنا الفيزيقى نفسه..

فى هذا الوقت بالذات سيطرت جماعات من المشايخ المتأسلمين على البلاد والعباد، وأخذوا على عاتقهم مهمة ملاحقة المبدعين من المثقفين والشعراء والكتاب والفنانين وأصحاب الآراء الحرة، واعتبروا أن كل قصيدة انما هى مشروع كفر، وأن كل فكرة انما هى مشروع هرطقة، وأن كل دعوة انسانية للتسامح والفهم الايجابى الجدلى للاختلاف انما هى مؤامرة على الدين الحنيف. فضاقت بنا الدنيا بما رحبت، وأظلم الوجود على الموجود، وأخذ كل مبدع يفكر ألف مرة قبل أن يمسك بقلم ليخط خطا فى ورقة، خوفا من أن يشى به واش، أو أن يحتسبه محتسب، أو أن يقرأه عن سوء طوية قارىء، فيجرجره الى المحاكم محام متملق باحث عن الشهرة.

فكانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك أن تراجع الابداع بأكثر مما هو متراجع وتدنى التفكير بأكثر مما هو متدن وانحط الوعى بأكثر مما هو منحط. مما أدى الى تخلف المجتمع بأكثر مما هو متخلف وبهتان حضوره الثقافى والمعرفى والعلمى بأكثر مما هو باهت، فضاعت قوته الروحية الآسرة التى بها حقق سؤدده فى الخارج، وحقق تماسكه وقوة وعيه بذاته ووجوده فى الداخل. فسيطرت روح الملق والنفاق الاجتماعى والدينى بأكثر مما هى مسيطرة، الجميع يسعى لكى يأخذ اعترافا واقرارا بتدينه وصحة ايمانه من الباقين، وذلك ليس بالعمل الصالح ومكارم الأخلاق، مثل اتقان العمل والامتناع عن الرشوة والغش والسرقة، بل بالاتشاح بأزياء غريبة، ومظاهر شكلية، والأهم هو بالتربص بالآخرين والتسقط لأخطائهم وأفعالهم، وممارسة أشد أنواع العدوانية تجاه أى محاولة منهم لاظهار الاختلاف أوالمغايرة، حتى ولو بشكل تلقائى أو بدون قصد.

والتوجس من كل ماهو غير معتاد أو يحتمل أى امكانية لتأويل مختلف أوبه قدر من عدم الاعتيادية. فكان دعاؤهم الذى يلهجون به صباح مساء، ويستعيدون به أمجادهم الغابرة فى عصورهم السحيقة التى جرفهم الحنين اليها: (يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف)، وأخذ الناس يقرأون المعوذتين كلما التقوا باختراع جديد، أو رأوا اكتشافا غريبا، حتى أضحى الانسان أجبن من فأر وأكثر ذعرا وضعفا من ابن عرس، ولهذا أخذو يلتمسون القوة من التلصص على بعضهم البعض والعمل كرقباء يحصون حركات وسكنات بعضهم البعض. كل يحاول قياس أفعال الآخرين على مازورة الايمان المبين الحق الذى لالبس فيه ولا شك، والذى ليس أكثر ولا أقل من ايمانه هو بالذات أو فكرته هو الخاصة عن الدين والتدين.

وتعطلت ملكة التفكير واستقلال العقل تماما لديهم، فهم فى حاجة دائمة الى فتوى كلما خطرت بذهنهم خاطرة: هل يتلقونها ويفكرون فيها أم يطردونها بقراءة آية الكرسى، فهى من زيغ الشيطان. وهم فى حاجة الى فتوى كلما جال بوعيهم معنى أو سؤال: هل يتابعونه ويناقشونه ويطورونه أم يطردونه فهو من وساوس أهل الجان.

لقد أضحوا كائنات مترهلة كسولة تعيش فى سذاجة وبلهنية عقلية لاتدرى من أمر نفسها شيئا ولا تقوى على حسم أى موقف ولا تستطيع التصدى لأى قضية، فلقد وقر فى أذهانهم أنهم أحقر من بعوضة، وبالتالى، أضعف وأضل وأتفه من أن يعرفوا شيئا، أو أن يفرقوا شيئا عن شىء، أو أن يقرروا لأنفسهم شيئا. كائنات أدمنت الفتوى، ولم تعد تقوى على العيش بدونها. فهى لا تستغنى عنها فى حل أو مقام فى ليل أو نهار. يستوى فى ذلك المتعلم والجاهل، بل حاجة المتعلم لها أكثر من غيره، فهو لديه استعداد طبيعى للضلال والكفر، من خلال ماتعلمه من العلوم التى لاتنفع، والتى أفتى بعضهم بحرمة تعلمها، لأنها مما تعوذ منه النبى ص فى حديثه " اللهم انى أعوذ بك من علم لاينفع "، أما العلوم النافعة فهى وحدها علوم الشرع الحنيف، لذلك على هذ المتعلم اعادة تأهيل نفسه والتقدم لتلقى هذه العلوم من جديد، قبل أن يموت ميتة جاهلية. وهذه العلوم لايصح تلقيها على أى شيخ والسلام، بل لابد أن يكون من أعلى المشايخ صوتا، وأكثرهم عدوانية وزجرا، وأسرعهم رفعا لقضايا الحسبة على المخالفين، وأكثرهم احتقارا للعقل، وتحبيذا لقراءة الكف والفنجان وكتابة الأعمال السفلية والعلوية فهذا معيار صلاحه وثبات ايمانه وتقواه.

وهذا النوع من المشايخ قد يتسامح مع تعذيب بعض ابناء الشعب، أو انتهاك عرضهم وافقارهم واذلالهم، وتزييف انتخاباتهم وبيع مقدراتهم والتطبيع الانبطاحى مع أعداء وطنهم، الا أنه لا يتسامح اطلاقا مع قصيدة أو فيلم أوكتاب. لايتسامح اطلاقا مع اقتراف التفكير الحر أو ممارسة الشعر والفن، فهى عنده من الموبقات المفضيات الى الهلاك، ولذلك فهو يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة فكر أو أدب أو فن، وهويعتبر أنها من أعمال الشيطان الذى يجند بها بنى البشر لينشروا الوعى والانتباه والنجابة العقلية، وكلها من المهددات لسطوته ووالمزعزعات لهيمنته والمقلقلات لسيطرته على عقولنا نحن الذين ينبغى أن نبقى سذجا خائفين من نور الابداع والمغامرة العقلية التى يمكنها وحدها أن تكشف لنا مالم نكن ندرك من قبل.

لا تزال وصفة التخلف قائمة. ولاتزال عوامل النكوص الحضارى متوافرة، ولاتزال شروط الهزيمة والقابلية للاستعمار مطروحة على قارعة الطريق.. بالطبع.. فلايزال الخوف من قصيدة يستنفر كل غرائز العنف البربرية وكل رغبات القمع والاسكات الهمجية، وكل اللذات الشبقة فى التنكيل والتكفير، ولا يكتفى بمصادرة القصيدة (على عظم شأن ذلك وخطورته فى حد ذاته)، بل مصادرة عدد المجلة التى أصدرت القصيدة، ثم مصادرة ترخيص المجلة من الأساس، ثم مصادرة الشاعر نفسه، ووصمه بكل النعوت المحلة للدم، فى عملية اغتيال معنوى غير مسبوقة.

وهنا يحق لنا أن نسأل: هل لهذا المنهج الذى يراد فرضه علينا، من أجل تصفية قوانا العقلية، وتدمير طاقاتنا الفكرية والابداعية، و هذه المرة عن طريق القانون المدنى الليبرالى، ومن خلال مؤسسات الدولة المدنية التى ينص دستورها على حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير (للمفارقة) هل لهذا المنهج علاقة بمخطط الأعداء الذين يتربصون بنا الدوائر، و يريدون القاءنا فى النيل واغراقنا بمائه بعد تدمير السد العالى، ويستعدون لملاقاتنا فى يوم قادم يرونه ولانراه وتقدمون بالعلم والفكر والابداع الذى نحرمه نحن ونلاحقه؟ أم هما شىء واحد من الأصل ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى