الخميس ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم فادية سلوم

حوار مع الشاعر حسني التهامي

بينَ أرضِ الكنانة وياسمينِ الشام عشقٌ أبديٌ منذ أن وُلد أخناتون من أم شامية فينيقية. إذاً التاريخُ واحد والآلامُ والمعاناةُ واحدة، كيف لا وقد خُضنا نفسَ المعارك وتقاسمنا الشدائد والمحن.

مُقدمتي هذه للترحيبِ بشاعرٍ ومترجم من أرض الكنانة العظيمةِ الأستاذ الكبير الأديب حسني التهامي. فللكلمةِ عنده وقعُها، هو لا يعبثُ بالكلمات، يصوغُ حروفَه من تبرٍ و يشكلُها قطعةً فنية. يكتبُ الهايكو، وله دراساتٌ عدة في هذا اللون الشعري. له أيضا ترجمات راقيةٌ عن الانجليزية لشعراء من شتى أقطار العالم. وهو أيضاً رئيسُ منتدى هايكو مصر. أهلا وسهلا بك.

س1- بدايةً هل يمكنُ الفصلُ بين تاريخِ الأدب وتاريخِ اللغة لأية حضارة؟

 شكراً لك صديقتي الشاعرة المبدعة فادية سلوم على الترحيب، وعلى هذهِ الأسئلةِ المُهمة التي تفتحُ أمامنَا أفاقاً لمناقشة بعض القضايا المُهمةِ و المطروحةِ على الساحةِ الأدبية في عالمِنا العربي.

حقيقةً لا يُمكنُ الفصلُ بين تاريخِ الأدبِ واللغة، حيثُ يلعبُ الأدبُ دوراً محورياً ومُهماً في رُقي اللغةِ والحفاظِ عليها، من خلالِ الأشكالِ الفنيةِ الإبداعيةِ المختلفةِ كالشعرِ والقصة والروايةِ والمسرحيةِ بنوعيها شعريةً ونثريةً. كلُ هذه الأشكال الأدبيةُ تعملُ على تطورِ اللغةِ، كي تتماشى مع روحِ العصر. فالأدبُ مرآةٌ صادقةٌ لأي حِقبةٍ زمنيةٍ، والأديبُ دائماً يَحملُ على عاتِقه مسئوليةَ تنميةِ الوعي بأهميةِ اللغة، وهو أيضاً يُساهمُ في تطوير وابتكارِ ألفاظٍ جديدةٍ في اللغة. ولا يُمكن للغةِ أن تتطورَ إلا من خلالِ أنساقٍ أدبيةٍ متنوعة. واللغةُ في الأساسِ هي الحاضنةُ الأولى لأيِ عملٍ إبداعيٍ،وهي وعاءُ الفكر والثقافةِ ومرآةُ الحضارةِ الإنسانية. وأيُ عملٍ إبداعيٍ فريدٍ لا يبرزُ تفردُه ولا توهجُه إلا من خلالِ سياقٍ لغوي.

وإذا نظرنا إلى تاريخِ اللغةِ العربيةِ، وجدنا أن الشعرَ - الذي كان يُطلق عليه ديوانُ العرب

كان يحملُ لواءَها و يعبرُ عن همومِها ويشكلُ جمالياتِها. ونزولُ القرآنِ بلسانٍ عربيٍ حافظٌ أبديٌ للغةِ العربية وعاملٌ أساسيٌ لنقلِ هذه اللغةِ على شفاهِ غير الناطقينَ بها من بلادٍ شتى في العالم.

س2- أستاذ حسني، هل أصبح الهايكو مالئ الدنيا وشاغل الناس، وهل لقصيدة الهايكو مستقبل في الأدب العربي؟

وصلتْ قصيدةُ الهايكو العربيةُ إلى عالمنِا العربي متأخرةً عن طريق ترجماتِ نصوصٍ عن الانجليزية، وليست عن اللغة المصدر، فأتت سطحيةً وغيرَ دقيقة وابتعدتْ عن روحِ النص، ربما لأن من قام بترجمتِها لم يكنْ على درايةٍ كافيةٍ بطبيعة هذا الفنِ التأملية. وأولى الترجمات الجادة لها كان في مقالة مترجمة - لدونالد كين الأستاذ بجامعتي كيمبردج وكولومبيا - عن الشعر الياباني نشرتها مجلةُ"عالم الفكر"الكويتية عام 1973 (المجلد الرابع، العدد الثاني)، وبدأتْ تتسعُ رقعةُ هذا النمطِ الشعريِ القادمِ من اليابان على خريطةِ عالمنِا العربيِ، وأصبحَ يستهوي عدداً كبيراً من المبدعين، إذ وجدوا فيه مناصاً من قيودِ القصيدةِ الكلاسيكية وقفزةً جديدة على قصيدةِ التفعيلةِ وقصيدة النثر. إن رغبةَ هؤلاءِ الشعراءِ في أن يرتادوا حقولاً جديدةً تضيفُ إلى تجربتِهم الإبداعيةِ، وإلى الشعريةِ العربيةِ أيضاً كانت دافعاً نحو تبني قصيدةِ الهايكو اليابانية، كما أن هذا النوعَ المختزلَ والمكثفَ يتماشى مع روحِ العصرِ المُتسارع الذي يعيشونَ فيه ويتأثرونَ به.

يذهبُ شعراءُ الهايكو العربيِ مذهبين: الأول ظل أسيرا لخصائصِ الهايكو الكلاسيكي، ولا زالوا يلبسون عباءة باشو وغيره من شعراء الهايكو الأوائلِ من خلال تقليد ألفاِهم وأفكارهم، بينما رأى أنصارُ النوعِ الثاني ذووا النزعة التجديديةِ أن ينطلقوا بعيداً عن الأنماط التقليديةِ، وتناولوا الواقعَ الحياتيَ بتفاصيله ودقائقِه المتشابكة مع الاحتفاظ بعنصر المشهدية وهو الأساس في الهايكو. لربما بدأ شعراءُ النزعةِ التجديدية كتابة الهايكو بشكله التقليديٍ، ثم رأوا أن يُضيفوا شيئاً جديدا إلى هذه التجربة اليابانية شكلاً ومضموناً، وهذا ما سيتكشَّفُ لنا بعد مُضي حقبةٍ من التجريبِ والإبداعِ في هذا اللون.

كثرتْ تدريجياً منتدياتُ الهايكو العربية التي اجتذبت كُتاباً وعُشاقا لهذا النمط الجديدِ في الساحة الشعريةِ وساعدَ على ذلك مواقعُ التواصل الاجتماعي التي سهلتْ نشرَ أعمالِ الشعراءِ وتواصلِهم مع بعضهم البعض. ومن أشهر هذه المنتديات منتدى"عشاق مصر"،"الهايكو سوريا"،"نادي الهايكو العربي"،"الهايكو الحر"،"هايكو المجاز والتأويل"،"نبض الهايكو"و"هايكو مصر". ورغم اختلافِ منظورِ هذه المنتديات للهايكو وتعاطيهم له، لم يكن هذا الاختلافَ عائقاً في تمددِ بقعة الضوءِ التي أتى بها هذا القادمُ الجديدُ إلى خارطةِ الشعريةِ العربية. لكن ما يُؤخذُ على بعض هذه المنتدياتِ حرصُها على اجتذابِ أكبرِ عددٍ من عُشاق هذا الفنِ والتساهلُ مع النصوصِ غيرِ الإبداعيةِ، وتكريمُها،دون تحريضِ هؤلاءِ المنجذبينَ لكتابةِ هذا اللونِ الشعري الجديدِ على القراءةِ المتمعنةِ لأعلامِ الهايكو والاطلاع على أصول الفن الذي يكتبونه. ناهيكَ عن الأخطاءِ النحويةِ واللغويةِ التي تذهبُ بجمالياتِ النصِ وعمقِه أدراجَ الرياح. ولا يمكن إنكارَ جهدَ القائمين على هذه المنتدياتِ وأثرَهم في ترسيخ فكرةِ الهايكو ونشْرِها ولا دورَهم في اجتذابِ الآلافِ من القراءِ، لكن يجبُ أن نُقَّدمَ لهم أعمالاً ثرية وجماليةً ودقيقة تكون بمثابةِ نماذجَ يُحتذى بها في كتابةِ الهايكو.

س3- هناك من يرفضُ تسميةَ من يكتبون الهايكو بشعراءَ الهايكو ويطلقُونَ عليهم (صُناع الهايكو) ما السبب برأيك؟

 ربما يرجعُ ذلك إلى أن قصيدةَ الهايكو ليست عربيةَ المنشأ، هي في الأصلِ قادمةٌ إلينا من بلاد الشمس

(اليابان) وتغيرتْ أشكالُها منذ نشأتها. فهُناكَ من يرى حالياً أن شعراءَ الهايكو - حتى اليابانيين - ليسوا شعراءَ حقيقيين، لكنهم يجيدون نظمَ هذا اللون الشعري،لاهتمامِهم بالشكلِ والإيقاعِ بعيداً عن روحِ الهايكو.

وفي رأيي أن الهايكست العربي – كأي شاعرٍ في العالمِ – عندما يسعى إلى تشكيلِ هايكو حقيقيٍ من خلالِ التجريبِ، يخفقُ أحياناً وينجحُ أحياناً أخرى، حتى يصبحَ إبداعُه تجربةً حقيقةً ومكتملة. والذي ينجحُ في القبضِ على لحظة الهايكو هو الشاعرُ الحقيقيُ الذي يستطيعُ خلقَ نصٍ عبقريٍ، وهذه الحالةُ بالفعل تأتي عفويةً، وهي ما يُطلق عليه الساتوري أو الاستنارة". تكمنُ الإشكاليةُ في التساؤلِ المُلِح: هل نتمسكُ بالهايكو التقليدي أم الحديث؟ وعندما عرضتُ فكرة تأسيسِ هايكو مصر على الصديقةِ الشاعرةِ شهرزاد جويلي مديرة المنتدى ارتأينا أن يكون للنادي طابعاً خاصاً ينطلقُ حاملا بعضَ سمات الهايكو التقليدي ومحلقاً في أفقِ الحداثةِ،كي نرتقي بقصيدة الهايكو العربي ويكونَ لها سمتُها الخاصُ والمُميز. نادينا بالحداثةِ إذن مع الإبقاءِ على سماتِ الهايكو الأساسيةِ، والاحتفاظِ بهويتِه وجمالياتِه من خلال التقاطِ مفاتنَ جديدة من مشاهدِ الطبيعةِ والعالمِ التي لا تنتهي بلْ وتتشكلُ دقائقُ جديدةٌ في حياتنا اليومية لم تكن موجودةً في زمنِ الأوائلِ، الذين ابتكروا هذا الفن. يجبُ علينا أن نتناولَ في شعرِنا مثلَ هذه التفاصيلِ الجديدةِ بلغةٍ عصريةٍ ورؤىً ووعيٍ حداثي.

س4- يلفتُ انتباهي ظاهرةٌ مخيفة وهي عدمُ تقبل شعراء الهايكو للنقد. يا ترى هل لدينا نقدٌ حقيقيٌ؟ أم ربما أثر النقد الجارح سلباً على بعض الشعراء فأصبحوا يتخوفون من نشرِ نصوصهم في المنتديات المختصة بالهايكو؟

 النقدُ الحقيقي هو النقدُ البناء الذي يظهرُ جمالياتِ النص، ثم يعرجُ على ما يعتورُ النصَ،كي يلتفتَ إليها المبدعُ إلى نواقصِ إبداعهِ فيتجنبُها فيما بعد. وكلنُا في بداياتِنا كانت لنا نواقصُ فيما نكتبُ، بل وكنا نعتقدُ أن ما نكتبُه هايكو،وهو أبعدُ ما يكون عن روح الهايكو. والناقدُ يتناولُ النص شكلاً ومضموناً. لكن هناك بعض المُدعين الذين يركزون على اشتراطات الهايكو، و يرون فيه قوالبَ جامدةً لا يصلحُ إلا بها،فكانت رؤيتُهم للهايكو مثل أذواقهمُ الجافةِ.ونسوا أن الهايكو تجربة إنسانية عميقة، وهي عبورٌ لهذه التجربةِ من خلال مشهدٍ حِسي. كيف تكون ناقدا حقيقيا وأنت تفتقدُ لأبسطِ الأدوات وهي الصياغةُ اللغوية، والطامةُ الكُبرى أن يترأس بعضَ أندية الهايكو أقزامٌ يُخطئون في اللغةِ، وهي لباسُ الأفكارِ والجمال. وهذه الظاهرة قد تؤثرُ سلباً على مستقبل الهايكو العربي. ونتيجة لذلك أيضا قد ينفرُ الشبابُ الطامحونَ لكتابةٍ واعدةٍ من أساليب النقدِ الهَدَّامةِ والمُضللةِ في كثيرٍ من الأحيان، ناهيكَ عن التناقضاتِ في أقوالِ هؤلاء المُدعينَ، فهم يقولون ما لا يفعلون. والأولى بهم أن يكونوا أنموذجاً للإبداعِ الحقيقي كي تنهضَ حركةُ الشعر. وبشكلٍ عام فإنني أرى أن حركة النقد حالياً متأخرةٌ كثيرةٌ ولا تواكبُ حركةَ الشعرِ، فهي متخلفةٌ عن ركبهِ.

س5- هل برأيك شعر الهايكو يشبع حاجة القارىء الجمالية؟

 لا بد أن نتفق على أن المُبدعَ الحقيقي لا يعطي القارئِ كلَ شيء. في الروايةِ مثلاً يجعلُ الروائيُ أحيانا قارئهُ شريكاً في العملِ الفني، وأحياناً أُخرى يضعُ نهايةً مفتوحةً و متروكة لذهنيةِ القارئِ ومخيلته ووعيهِ وافتراضاتِه. كذلك الحالُ في الهايكو، يكونُ القارئُ جزءاً أساسياً في النص. يفتحُ الهايكست لهُ أفقا واسعاً من التأويلاتِ، ويفجرُ في النصِ ينابيعَ المخزونِ المعرفي والثقافي. وبذلك يتحولُ القارئَ من مجرد متلقٍ عادي إلى قارئٍ فاعل يشتبكُ مع النص ويفجرُ فيه دلالات كثيرةٍ وعميقة. ولقد اعتادَ القارئ العربي على النصوص الطويلةِ التي يكثرُ فيها المجازُ الصريحُ،حتى لا تكادُ تخلو النصوصُ العربيةُ من الذاتيةِ والخيالِ المُحلق،وهذه الأشكالُ الجماليةُ تطبعتْ عليها الذائقةُ العربيةُ منذ زمن، فحينما تُدربُ هذه الذائقةَ على نمطٍ جديدٍ خالٍ من هذه الجمالياتِ فلا بُدَ من إعطائِها فرصةً ووقتا كافياً كي تتقبلَ المشهدَ الجديدَ،فيستشعرُ جمالياتٍ أُخرى لم تعتدْ عليها. وكلُنا يعرفُ أن الهايكو أقصرُ نصٍ شعريٍ في العالمِ، وهو لقطةٌ حسيةٌ مجردةٌ من المجازِ الصريحِ، ويتسمُ بالتقشفِ اللُغويِ بعيداً عن التنمقِ والبلاغة.

س6- عندنا مثل شامي يقول: كل أوان لا يستحي من أوانه، بمعنى أن لكلِ زمانٍ أدواتَه،ومن خلالِ ما طالعنا به المترجمون أنه حتى اليابانيون كانوا يهاجمون شعر الحداثة. ما قول أستاذنا في ذلك؟

 قصيدةُ الهايكو اليابانيةُ الحديثةُ تحررتْ من المفردات المكرورة وتأثرت بالثقافة الغربية، فطرأت عليها مواضيعُ جديدة. فمن حيث الموضوع تناولت المواقفَ اليوميةَ المعاصرةَ، وربما تعدتِ صورَ الطبيعةِ وتناولتِ الإنسانَ والحياةَ الاجتماعية لكنها لم تتخل – رغم ذلك كله – عن المشهديةِ التي أرى أنها هي الأساس في قصيدة الهايكو، فإذا تخلت القصيدة عن هذه الخاصيةِ الجوهريةِ، فإنها تتخلى عن روحِها وكونِها هايكو. وبرغم وجود هذا التيار الحداثي في اليابان فإن هناك تياراً آخر متشدداً، قاده الناقدُ ياسودا – يوجيرو- الذي هاجم الحداثةَ في الشعر الياباني بشكلٍ واضحٍ واتهمه بأنه شعرٌ خاوٍ بلا مضمونٍ وبلا شكل. وهذا الناقدُ مُتعصبٌ للقديمِ رافضٌ أشكالَ الحداثةِ برمتها. وورث الشاعر أوكا- ماكوتو منهج ياسودا في رفضِه للحداثةِ، والأغرب من هذا أن بعض الحداثيين الذين تعرضوا للهجوم من أووكا – ماكوتو هم أنفسهم يهاجمون الكثيرين من شعراء الحداثةِ الذين يكتبون الهايكو والتانكا، ولا يعتبرونهم شعراء في الأصل، ويرون أن الشاعر إذا تخلى عن الكلمةِ الفصليةِ والإيقاع الشعري، فما يكتبه ليس هايكو. وفي نظرِهم أن الهايكو لا يكونُ هايكو إلا بلغتِه الأصليةِ، وذلك لطبيعةِ اللغةِ اليابانيةِ وخصوصيتِها. بينما ما نقدمُه نحن أو أي شاعر في العالم -عدا الياباني- هي قصائدُ قصيرةٌ تُحاكي أو تقتربُ من روح الهايكو. فقصيدةُ الهايكو – في اعتقادِهم – تمتلكُ فضاءً معرفيا خاصاً بشعراء اليابانية.

س7- كيف نفسرُ ابتعاد جيل الشباب العربي عن القراءة.... هل هي الظروف والأحداث التي يمر بها الوطن العربي،أم دخولُ الحضارة الغربية والتكنولوجيا جعل الذائقةَ العربية تتغير من المشاعر والأحاسيس إلى حضارة المتعة والاستهلاك؟

 سمعتُ حواراً مهماً في التلفاز للشاعرِ والروائي المعروفِ عبد الرحمن الشرقاوي قبل ظهور الانترنت وسيطرةِ التكنولوجيا الحديثةِ على عقولِ شبابنا وأطفالنِا، وكنت حينها في المرحلة الجامعية،كان يُبدي هذا المبدعُ الكبيرُ في حوارهِ تعاطفاً مع القارئ العربيِ لظهورِ مُنافسٍ قويٍ كالتلفاز للكِتابِ، فما بالنُا اليومَ ونحنُ في خِضَمٍ هائلٍ من التقنياتِ الحديثةِ و تكنولوجيا العصر. وهذا ما يُفسر لنا سببَ تفردِ المُبدعين الأسبقين الذين استقوا معرفتهم من أمهات الكتب والمنابع الفكريةِ والمعرفيةِ بشكلٍ أساسيٍ دونَ مُنافس. الآن بعضُ القراءِ يستقون معرفتهم من الإنترنت ومن مواقع غير موثوق بها. ويعتقدون أن لديهم كماً معرفياً هائلا، لكن في الواقع ذلكَ الكمُ المعرفيُ غيرُ عميقٍ،وهو بمثابةِ قشورٍ لا تمثلُ وعياً معرفيا حقيقياً.

أيضا لا يمكنُنا إنكار التأثير السلبي للأحداثِ الداميةِ والعصيبةِ، التي يمرُ بها عالمُنا العربي على التوجهِ الفكري والتركيبةِ المزاجية للشباب المعاصرِ. فالغالبيةُ منهم يلجأون إلى النزعةِ الهروبيةِ والتشاؤم في ظلِ مستقبلٍ معتمٍ وغائم. فكيف لهم وهم يعيشون تحتَ وطأةِ الحربِ والتشريد أن يهنأوا بمتعةِ القراءة؟! وآملُ ألا تظلَ هذه الحالةُ طويلاً، لأن الشبابَ هم قوامُ نهضةِ الأمةِ،عندما يتزودون بالوعيِ المعرفي الذي منبعُه الكتابُ بشكلٍ أساسي.

س8- بعد مُضي عقود في كتابة الهايكو هناك جوانب لا يمكن تجاهلها، كيف يمكن أن يضيء لنا تلك الجوانب شاعرنا الكبير؟

 النظرة التأملية الاستنارة (ساتوري مركز الوجود والانسان ألا وهي الطبيعة)

الاستنارة"الساتوري":

وهي اللحظةُ الجماليّةُ والوحيُ الشعري وتمثّلُ جوهرَ الهايكو، والعنصر الأساسَ للشاعر. والشاعرُ - حين تأتيه هذه اللحظةُ الجمالية - ينصهرُ ويتّماهى تماماً مع ما حوله من عناصر الطبيعةِ، ليشكّل مشهدَه الشعرى بطريقة تأملِية وصوفية. وعندَ القبض على هذه اللحظةِ يدركُ الشاعرُ كُنْهَ الأشياء وطبائعَها ويتوحدُ معها. لكن في نص الهايكو هذا التماهي والانصهار يظهر في لحظة خاصة، وهذا التماذجُ - على حدِ قولِ الناقدِ والشاعرِ الكندي الأمريكي بروس روس- بين الخاص والكوني.
إذن "الساتوري" الحقيقي هو أهمُ جماليةٍ في الهايكو. وهو اللحظة"الروحية"، أو"الجمالية". إنه يعطي الشاعرَ أو الإنسانَ رؤيةً جديدةً وفهماً عميقاً للأشياءِ العادية في الحياة،ويجعلُ للحياةِ معنى. فالعَالِمُ يرى الوردةَ من الناحيةِ الفيزيائيةِ بتركيباتها وأشكالِها وأنواعِها، بينما ينظرُ الشاعرُ لها على أنها ليست شيئا عادياً، بل لها وجودٌ وعالمٌ وكيانٌ ذو معنى، وربما يتوحدُ ويتماهى معها بروحِه ومشاعرهِ.

الساتوري (التنوير)، لحظةُ تأملٍ مُنضبطٍ،من خلالِها تبدو ومضاتٌ تفاجِئُنا وتدهشنا، وكأنها تُميطُ اللثامَ عن حقيقةٍ ما، في لحظةٍ خاصةٍ من الشعورِ والصحوة:

مستيقظٌ في منتصفِ الليل
على صوتِ جرةِ الماء
تَصدُّعُ الجليد
(باشو)

تتمحورُ فلسفةُ الزَّنِ البوذيةُ حولَ فكرةِ التأملِ،التي يكونُ فيها نوعٌ من السيطرةِ على جُموحِ العقلِ النشط،وتظهر مساحةٌ أكثرُ للصفاءِ الذهني والهدوء والتصوفِ الخالص. فشاعرُ الزنِ أثناءَ استغراقِه في العوالمِ التأملية، تأتيهِ من قلبِ الصمتِ نداءاتُ الطبيعةِ المُعجزة. وهذه النداءاتُ مفعمةٌ بروحِ الجمالِ والحياةِ اليافعةِ وربما قادمةٌ من الفراغ.

قُبرةٌ
سقطَ صوتُها وحيداً،
مُخلفةً وراءَها اللاشيء
(امبو، ترانس بليث)
الصمتُ؛
صوتُ الزيزِ
يخترقُ الصخور.
(باشو، ترانس بليث)

في النصِ الأولِ هُناك حالةٌ من اللاشيئية:الشعورُ بالعدمِ أو الفراغ. وهي حالةٌ خاليةٌ من العواطفِ والأفكارِ الشخصية. هي حالةُ تماهٍ مع الطبيعة. واللاشيئيةُ هنا ليستْ مُرادِفا لحالةِ الفراغِ، لكنْ لها وظيفةٌ تُدركها الحواس.

- س9- الآن سنرحلُ معك إلى أعماقك لنستنبطَ الجميلَ الذي وقعت عليه اختياراتك لأجمل أشعارك وتحدثنا عن تجربتك في شعر الهايكو. في الختام لك جل تقديري واحترامي.

 قبلَ التعرفِ على قصيدةِ الهايكو صدرَ لي ثلاثةُ دواوينَ شعريةٌ تتفاوت ما بين تفعيلةٍ ونثر:"زنبقة من دمي"،"الصبار على غير عادته"و"أشجارنا ترتع كالغزال"، وكنتُ في حاجة ٍ ماسةٍ للتجريبِ والتعرفِ على أنماطٍ جديدةٍ في الكتابة. قرأتُ كثيراً عن هذا الفنِ الجديدِ. ثمَ قمت بترجمةِ الكثير من النصوصِ لشعراءَ من بلادٍ عديدةٍ،وتعرفتُ على تجاربهم، ولقد أسرني هذا النمطُ الشعريُ، وقلت في نفسي لماذا لا يُضاف هذا اللونُ الشعري إلى الأجناسِ الأخرى التي يحفل بها شعرنُا العربي، وبذلك تزدادُ الحركةُ الشِعريةُ في العالم العربي ثراءً وتنوعا. كنتُ أحلمُ بعد دواويني الثلاثة أن أكتبَ نصوصاً تميلُ إلى القِصرِ وتنساب كانسياب الماء في النهرِ،فكان الهايكو! في الهايكو صدر لي ديوانان بعنوان:"رقصةُ القرابين الأخيرة"و"وشْمٌ على الخاصرة"

١- غرفةٌ مظلمةٌ
كناري يطيلُ النظرَ
في سمكةِ حوضِ الزينة

٢- أوراقٌ متناثرةٌ
متى سأرتب الفوضى
بداخلي!

٣- تتعثرُ أقدامي-
تحتَ هذهِ البقعةِ، كناري
كان يصدحُ بالأمس!

٤- ليلةَ رأسِ السنةِ-
شرفةِ معتمة
ولا تزالُ تلمعُ أزهار النرجس

٥- شوارع مبتلة
لماذا تغافلني في الليل
أيها المطر!

٦- خلفَ النافذةِ
تتسمعُ إيقاعَ المطرِ
أصابعُ البيانو!

٧- لافتةُ مواعيدِ القطاراتِ
قُبَيْل تحليقِها، تتبينُ وجْهتها
فراشةٌ!

٨- ثلاثون عاما
خصلة شعر في طي كتاب
لم تطلها يد الشيب!

٩- جنازةُ طفلٍ-
بين المشيعينَ يعسوبٌ
بالأمسِ أفلتَ من يديهِ!!

١٠- مُصبُ النهر-
أراهُ اليوم أضيقَ
بعيّْني شيخْ

١١- الصباحُ الأخير-
آخرُ عهدِه بالجدارِ
ظلُ العجوز!

١٢- أسفلَ الجبلِ
شجرةُ أثلٍ وحيدة
تظللُ أقحوانة

١٣- عبورٌ-
أتسلقُ
يتسلقُ ظلي معي!

١٤- الأشجار التي نَجْتثُها
تتباكى لموتِها
الظلالُ

١٥- أمشي صوبَ ظلي
وفي داخلي
جثةٌ هامدة!

١٦- ظلالُ المساءِ -
شاطئ البحيرة
يقصُ حكاية الماءْ!

١٧- على الجدارِ-
ظلها يراودها
امرأة عجوز!

١٨- باب بيتنا القديم-
ظليّ الذي تركتُهُ
يجلسُ القرفصاء!

كل الشكر والتقدير للاستاذ حسني التهامي لرحابة صدره وإتاحته لي هذه الفرصة.

صالة العرض


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى