السبت ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
بقلم غزالة الزهراء

الشبه الناطق

أنتظر دوما إشراقة يوم جديد لأفر خارج الدار، و لأترقب قدومه وهو يتسلل في خفر إلى حينا الشعبي المتواضع.
عربته الخشبية السميكة لم تفارقه قط، استحالت كظل له، يدفعها أمامه بيديه الخشنتين عسى أن يقطف منها بعض المال الحلال.

أناس الحي يحبونه حبا خالصا لاشائبة فيه، ويقدرونه التقدير الأمثل لأنه رجل مناضل بحق، يكدح بياض نهاره لتأمين لقمة العيش الهنيئة.

عندما يلج إلى حينا المتواضع يتسابقون إليه الواحد تلو الآخر، يلقون عليه التحية العطرة، ثم يلتفون حول عربته كالتفاف العقيق بجيد حسناء.
يقول أحدهم: عمي سعيد، أريد رطل سمك.
يهتف آخر من هناك: زن لي كيلو من السمك.
أتطلع إلى محياه الشديد السمرة بفضول بالغ، أدقق النظر عميقا في تقاسيمه، تهمس شفتاي على مقربة منه: سيدي، هلا تعطيني رطل سمك؟
يرد علي مطمئنا إياي: تريثي قليلا يا بنيتي، أنا في خدمتكم جميعا، لاتقلقي.
ثم يتابع قائلا و التفاؤل يتناسل في صوته بلا حدود: تفننوا في طبخه يا إخواني لتحصلوا على نتائج مبهرة، أنظروا جيدا، إنه طري لزج و طازج.
ينهمك العم سعيد في تلبية طلبات الصغار و الكبار على حد سواء.

إنفجرت والدتي كقنبلة ناسفة ذات يوم حين رأتني أدلف من الباب: ماذا كنت تفعلين خارج الدار أيتها الشقية البائسة؟ أنظري إلى نفسك، المطر قد بللك من رأسك إلى أخمص قدميك، غيري ثيابك على الفور حتى لا تقعي فريسة للمرض.
ــ كنت أنتظره.
ــ تنتظرينه !؟ من هذا الذي كنت تنفقين وقتك بانتظاره؟
ــ أبي سعيد.
سألتني وقد زحفت على وجهها دهشة كبيرة: هل صار سعيد بائع السمك والدك؟ أهذا معقول؟ يجب أن تدركي بأن والدك توفي منذ عام و نيف.

ركضت خلفه لعلي ألحق به، اندفع من حنجرتي صوت عال ليستوقفه: سيدي، سيدي.
استدار إلي، هتف مبتسما: أتريدين سمكا طازجا؟
ــ لا يا سيدي، هناك أمر آخر.
ــ أي أمر تعنين يا صغيرتي؟
مددته الصورة التي كانت بحوزتي، تفحصها مليا ثم تمتم مستغربا: سبحان الله ! إنه يخلق من الشبه أربعين.
ــ ألك إبنة يا سيدي؟
ــ نعم، وفي مثل سنك تماما، إسمها رباب.
أعاد إلي الصورة قائلا: يبدو أنها لأعز شخص في حياتك.
ــ إنه والدي، ولكنه.....
ــ ولكنه ماذا؟
ــ توفي منذ عام و نيف.
لفته سحابة من الصمت الموجع، ثم انبرى قائلا ممزقا هذا السكون: سأعتبرك من اليوم إبنتي الثانية لرباب .

راح العم سعيد يدفع بعربته الخشبية السميكة أمامه، إنه يتجه نحو حي آخر ليبيع مالديه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى