الثلاثاء ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
جماليات التناص في مختارات
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

الشهيد الرمز ياسر عرفات في عيون الشعراء

يهدف هذا البحث إلى الكشف عن ظاهرة التناص وجمالياتها في مختارات" الشهيد الرمز ياسر عرفات في عيون الشعراء"، والوقوف على آليات توظيفها في النص الشعري، واستغلال الشعراء لما تكتنزه من طاقات وإمكانات غنية؛ تسهم في تعميق تجربتهم الشعرية، ورؤيتهم للعالم .

وقد استخدم الشعراء، في مقارباتهم شخصية الشهيد ياسر عرفات، أنماطاً متنوعة من المتناصات، سواء أكانت دينية أم أدبية أم تاريخية أم أسطورية أم فلكلورية، ووظفوها بطرق متعددة، ومتفاوتة، أثرت الجانب الدلالي للنص الشعري، وارتقت بمستوى شعريته.

فإذا كان النص الأدبي" هو عبارة عن لوحة فُسَيْفِسَائيِّة من الاقتباسات، وكل نص هو تَشرُّبٌ وتحويلٌ لنصوص أخرى، فإن أول ما يغري القارئ هو البحث عن البنى الدلالية الغائبة للنص، واكتشاف تلك المادة التي تم استيعابها من قبل المبدع وهضمها، وإعادة إخراجها في ثوب جديد، وبرؤية جديدة، باعتبار أن العمل الأدبي يدخل في عملية تفاعل مع النصوص الغائبة، تنتهي بتحقيق ناتجه الدلالي، فالعمل الأدبي لا يولد من عدم، وإنما " من أعمال أخرى تسمح بإدراك أفضل لظاهرة التناص التي تعتمد في الواقع على وجود نظم إشارية مستقلة، لكنها تحمل في طياتها عمليات إعادة بناء نماذج متضمنة بشكل أو بآخر، مهما كانت التحولات التي تجري عليها".

وبهذا المفهوم، فإن النص الأدبي لا يمكن فهمه وتحليله بعيداً عن الإطار الثقافي الذي يُولَد فيه، أو الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه؛ لأنه- أي النص- يكتسب هويته وقيمته الفنية في ضوء النصوص المصاحبة له، ومن ثُمَّ لا استقلالية للعمل الأدبي عن الإطار الثقافي والفني الذي يولد فيه، وينبغي علينا " التخلي عن أغلوطة استقلالية النص، لأن أي عمل يكتسب ما يحققه من معنى بقوة كل ما يُكتَب قبله من نصوص، كما أنه يدعونا إلى اعتبار هذه النصوص الغائبة، مكونات لشفرة خاصة، نستطيع بإدراكها فهم النص الذي نتعامل معه وفض مغاليق نظامه الإشاري.

وكون أن موضوع الدراسة يتناول جماليات التناص في القصائد الشعرية التي تناولت شخصية ياسر عرفات بأبعادها المختلفة، فإن المساحة الكبيرة التي احتلتها هذه الشخصية وطنياً وعربياً ودولياً، قد انعكست بدورها في كم النصوص المستدعاة، وطرق توظيفها.

ومن خلال الإدراك الواعي لدور التناص الحيوي في بناء القصيدة، والفهم الدقيق لأنواع هذا التناص وآلياته وسماته الفنية، يمكن لهذا البحث أن يتخذ من التناص مدخلاً لقراءة النصوص الشعرية التي تناولت ملامح شخصية الرئيس الراحل وأبعادها ومقاربتها من خلال منهج تحليلي نقدي يعتمد في تحليل النص الأدبي على الغوص في أعماق هذا النص في محاولة لفهم أسراره، وسبر أغواره، مستعيناً ببعض المفاتيح التي تعينه في تحقيق هدفه، يأتي في مقدمتها: العنوان بوصفه المفتاح الذهبي لشفرة التشكيل، مع الالتفات إلى الأبنية الصوتية والإيقاعية والوقوف على دورها في إقامة البناء الكلي للقصيدة أو النص الأدبي؛ ذلك أن منهج تحليل النصوص الأدبية" يأخذ في الاعتبار محاولة استقصاء الجوانب التي يمكن أن تؤثر في فن الشعر على مستوى الصياغة الجمالية والمحتوى معاً

وقد اقتضت طبيعة البحث أن يتناول خمسة محاور هي: التناص الديني، والتناص الأدبي، والتناص التاريخي، والتناص الأسطوري، والتناص مع التراث الشعبي.

أولاً ـ التناص الديني:

وقد احتوت أشعار الشعراء نصوصاً دينية كثيرة ومتنوعة، تداخلت وتعالقت مع نصوصهم الشعرية، وسياقاتها المختلفة مكونة نماذج متعددة من التناص الديني، عمًقت مواقف الشعراء ورؤيتهم لفَقْد الزعيم القائد، كما أسهمت في تشكيل البناء الفني لقصائدهم. وقد وقف البحث عند نوعين من هذه النماذج؛ هما: التناص القرآني، والتناص مع الحديث النبوي الشريف.

ومن نماذج التناص القرآني استدعاءُ بعض شخصيات الأنبياء التي وردت في القصص القرآني، وعقد نوع من المفارقات التصويرية التي يظهر فيها جلياً التباين الواضح والكبير بين عصر تلك الشخصيات، وعصرنا الحديث ؛

ومثال ذلك ما يجده القارئ لدى الشاعر من تشابه وتماثل بين ما لاقاه السيد المسيح عليه السلام من عذابات وآلام، وما قاساه الزعيم الراحل من معاناة وحصار في طريقه لتحرير الوطن.

فالقارئ لنصوص الشعراء في الرئيس الراحل يجد تماهياً بين شخصية المسيح ـ عليه السلام ـ وشخصية الرئيس ياسر عرفات، فكلاهما تعرض للصلب والتعذيب على أيدي اليهود، وتحمل الآلام والعذابات في سبيل خلاص الآخرين، وربما في الأمكنة ذاتها تماماًَ، وكلاهما يحمل رسالته التي بها ومن أجلها يموت، وكلاهما يصل إلى ذروة العطاء وفداء الروح من أجل سعادة البشر.

ومن المواقف التي ترددت في نصوص الشعراء موقف "صلب" المسيح ـ عليه السلام ـ، والسير به في درب الجُلْجُلة، وهي درب الآلام المشهورة بمدينة القدس حاملاً صليبه الثقيـل، صاعداً نحو الجُلجُلة.

للقدس تَمْشي / حامِلاً صَليبَها الجديد
تَمْشي على شَوكِ الخَلاص / في طريق الجُلْجُلْهْ
تَرْوِي لنا:/ أنَّ الشَّقاءَ مَرْحلة / أنَّ الحَياةَ بالطُّموحِ مُقْبلِة.

استثمر الشاعر رمزي "الصلب"، و"الْجُلجُلة"، وصوروا ما فيهما من معاني الظلم والقتل التي تعرض لها الرئيس الراحل وشعبه الفلسطيني في مراحل حياته النضالية: من نفي، وتشريد، وغربة، وحصار، ومرض، وتآمر، وتخلي الأقربين عنه،" فالعذاب الذي يتحمله العربي الفلسطيني هو نوع من عذاب الصليب".

توظيف الشعراء للتناص مع السيرة النبوية فقد جاء بشكل فعَّال، بحيث اندغم في السياق الشعري، واتحد بمضمونه، بما يشير إلى براعة الشاعر وقدرته على استدعاء النص الغائب، ودمجه في السياق الشعري، وبالرجوع إلى أعمال الشعراء، يسجل البحث حضوراً واضحاً للخطاب النبوي، ولكن بشكل أقل من النص القرآني، فمن الملاحظ أن توارد هذا الخطاب مرتهن بسياق خاص يحكمه ذكاء الشاعر في ربط الصلة بين النصين الغائب والراهن.ومن نماذج استدعاء الخطاب النبوي قول الشاعر ربحي محمود مخاطباً الرئيس الراحل:

تَجدَّدْ .. وحددْ طريق الرجوع/ ولا تترك الساحَ للعابثين
وخذ ما يوحدُ هذي الجموع / ولو خضت بحراً وبراً
وطوّفتَ جواً / تجد أننا نتبعُ الخَطوَ / نكتب مجدك .. /لا نستكين..
ولكن حذار من العابثين.

تمتص هذه النبضة الشعورية قول الصحابي الجليل سعد بن معاذ- رضي الله عنه- للرسول -عليه الصلاة والسلام - مرتبطاً بغزوة بدر الكبرى التي قال فيها:" إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهوداً ومواثيق على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد".

ثانياً - التناص الأدبي:

شكل النص الأدبي محوراً رئيساً في تضمينات الشاعر المعاصر. فقد غطََّى الشعراء في تضميناتهم مساحة زمنية واسعة، غاصوا خلالها في بحور الأدب العربي، وفي عصوره المتعددة.
وجاءت تقنيات توظيفهم للتناص الأدبي على صور مختلفة، تتفاوت بين استخدام النص الشعري مع التحوير الطفيف في بعض مفرداته، أو تغيير مواقعها، أو أخذ معنى بيت من الشعر، وصياغته بلغة جديدة .

وتوزعت تضمينات الشعراء ما بين تضمين أبيات شعرية بتمامها، أو شطر بيت شعري مشهور، أو تضمين جزء من بيت، أو معارضة لقصيدة عربية، أو مقولة أدبية مشهورة.

لم يقف الشاعر عند حدود اقتباس المقاطع أو الأبيات الشعرية الكاملة، إذ ثمة نصوص شعرية اضطر الشاعر إلى توظيف بيتٍ من الشعر، وإجراء نوع من التحوير مع النص الغائب، كأن يقوم بحذف بعض مفردات النص وإضافة أخرى؛ لتكون أقدر على إنتاج الدلالة، وأغنى في البوح بتجربته الذاتية، كما فعل الشاعر محمود أبو الهيجا في قصيدة له بعنوان:" أبسط ضريحك"، التي صور فيها حزنه لتخاذل الأمة العربية عن نصرة المناضلين، وتركهم وحيدين في ساحة الجهاد، يقول مخاطباً فيها الرئيس الراحل:

دع حزني يبايعني
وافسح ترابك لا مكان الآن يسعني.
أضعناكَ سيدي!
"وأيّ فتى أضعنا ليوم كريهة".

يستحضر الشاعر في السطر الأخير بيتاً للشاعر العربي القديم العرجي، من خلال قوله:

أضاعوني، وأيّ فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر؟

جسّد الشاعر في هذا الاستدعاء حالة الرئيس مع قومه الذين خذلوه وتركوه وحيداً يعاني الوحشة والوحدة، لقد كان بيت العرجي ـ الذي أنشأه وهو يعاني ألم الحبس بالسجن ـ مادة أساسية بنى عليها الشاعر فكرته المعاصرة، واستمد منها عناصر صورته التي تتمثل في تصوير موقف المتخاذلين من عشيرته ، والتي كانت سبب مأساته وموته، منطلقاً في ذلك من حبه للرئيس، وإبراز مكانته ومسئوليته تجاه شعبه.

وقد حاول الشاعر محاورة النص الغائب، وإضفاء رؤيته الإنسانية عليه، إذ عمد إلى استخدام ضمير المتكلم للجماعة "نا" في" أضعناك" سيدي بدلاً من ضمير المتكلم "أنا" في"أضاعوني"؛ ليجسد مدى إحساسه بثقل المسئولية الواقعة على الأمة بأجمعها لغياب القائد ورحيله، وليعبر عن معنى إنساني عميق، وهو أن القائد على الرغم من غيابه ما زال حياً باقياً في قلوب أبناء أمته، وأن أحلامه ووصاياه الوطنية ما زالت قارة في عقولهم ووجداناتهم، وعمد الشاعر إلى تحوير النص الغائب من خلال تقنية الحذف متكِئاً في ذلك على المخزون الثقافي للمتلقي؛ ليكمل النص الحاضر من ذاكرته، وبذلك تتحقق مشاركة المتلقي الوجدانية والفكرية لتجربة الشاعر الإنسانية.

ثالثاً - التناص التاريخي:

يجد القارئ للنصوص التي أبدعها الشعراء الكثير من التناصات التاريخية، سواء أكانت استحضاراً للأحداث والوقائع التاريخية، أم استدعاء لشخصيات ورموز تاريخية.

ومن الأحداث التاريخية التي استدعاها الشعراء ما جاء في قصيدة للشاعر أحمد دحبور يقول فيها مخاطباً الزعيم الراحل:

أأكونُ شاهدَ غصةٍ لبستْك حين بكت حرائرُنا:
كأنّا كربلاء
كأننا أيلول، تل الزعتر، والمنفى يلاحقهن:
موتٌ بعده ردم وموت.

استدعى الشاعر بطريقة مؤثرة وقائع تاريخية معاصرة، تصور في مجملها المحن والمحارق التي حاقت بالشعب الفلسطيني ممتزجة بالأمكنة والشخصيات التراثية، وربطها بواقع القائد الراحل/ رمز الشعب الفلسطيني، منها استدعاء موقعة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي وأهله على يد الأمويين الذين حالوا بينه وبين الماء، ورفضوا أن يسقوه وأهله إلا إذا بايعهم ، وقد جاء استدعاء شخصية الشهيد الحسين، محملاً بدلالات إيحائية رحبة، فهو رمزٌ لكل شهيد ضحّى في سبيل قضيةٍ نبيلة، ووقف وحيداً حاملاً لها، واستشهد على يد قومه، وبذلك شكَّلت شخصية الحسين معادلاً موضوعياً للإنسان الفلسطيني الذي قوبل بالخذلان من الأقربين، وأدخل إلى نار الحصار والمذبحة.

في هذا المضمار استدعى الشاعر سعدي يوسف وقائع حصار بيروت سنة 1982؛ ليدين من خلالها المتخاذلين الجبناء من الزعامات العربية، ويفضح تقصيرهم عن نصرة الرئيس في محنة حصاره في بيروت، يقول في قصيدة بعنوان" الانجراف":

سأظل أذكر كيف كنت تلاحق الأنقاض في بيروتَ
تحفر في مساءٍ ضيّق ينبوعَك الحجريّ
ما جاءتْ إليك سفينةُ الأنصار حاملة مدافعَها،
ولم تتخافق الراياتُ حين سألتَها أن تُطْلق الوردةْ
كانوا لأوراق البريدِ، وكنتَ للوردةْ.

لقد غدت شخصية ياسر عرفات شخصية تراثية، لها حضورها العميق جنباً إلى جنب تلك الشخصيات التراثية في التاريخ الإسلامي، تلك التي لها اتصالها القوي بالوجدان الجمعي للجماهير العربية الإسلامية.

رابعاً - التناص الأسطوري:

مال الشعراءُ إلى توظَّيف الأساطير في نصوصهم الشعرية؛ لما تنطوي عليه من دلالات رحبة تعادل واقعهم المعاصر، ولما تكشف عنه من مواقف نحن بحاجة إلى استحضارها من أجل إبراز أبعاد شخصية الرئيس عرفات، وأخذ العبرة من تاريخها النضالي، في سبيل تحرير الأرض والمقدسات.

فقد استحضر الشعراء عددا من الأساطير منها :أسطورة الفينيق، وأساطير تموز التي ترمز للبعث بعد الموت، وأسطورة "عوليس" ووظفوا معطياتها للتعبير عن القضية الوطنية الفلسطينية.

استحضر الشاعر يعرب ريّـان في قصيدته "وترجل الفارس أبو عمار" أسطورة طائر الفينيق/ العنقاء التي ترتكز على فكرة الانبعاث من خلال الاحتراق؛ ليؤكد بقاء راية ياسر عرفات ومبادئه وأهدافه خالدة في قلوب أبناء الشعب الفلسطيني، يقول :

لََيْسَ وَدَاعَـاً أيُّهَـا الفينيق
العَنْقَـاءُ.. عَنْقَـاءُ
عِشْتَ العَرَمْرَمَ يَا أَبَـا عَمـار
وَصَعَدتَ المُكَـرم

اتخذ الشعراء من الأسطورة أداة فنية للتعبير عن تجاربهم الشعورية، فامتزجت مدلولاتها بمواقفهم ورؤاهم الإنسانية، وجعلوها لبنة من لبنات بناء نصوصهم الشعرية، وحاولوا أن يضفوا على شخصية الرئيس عرفات طابعاً ذا سمات أسطورية، وأن يسقطوا عليها من التفسيرات ما تحتمله ملامحها التراثية، وكان هدفهم في ذلك استحضار البطولة الغائبة، والحنين إليها.

لقد حاول الشعراء في توظيفهم للأسطورة، أن يرتقوا بشخصية الشهيد ياسر عرفات من إطارها الواقعي التاريخي إلى الإطار الملحمي الأسطوري، وأن يُضفوا عليها من الملامح، ما يجعلها تسمو إلى درجة من التعظيم والإجلال، وأن تكون رمزاً للتحدي والصمود والتضحية في سبيل الحرية والاستقلال.

خامساً - التناص مع التراث الشعبي:

حظي التناص مع التراث الشعبي باهتمام بالغ لدى الشعراء؛ وتنوعت مفردات التراث الشعبي لديهم، وتعددت معطياته ما بين توظيف للحكاية الشعبية، والأمثال، والمقولات النثرية التي كان يرددها القائد في مناسبات متعددة.

ومن الحكايات الشعبية التي وجد فيها بعض الشعراء ميداناً خصباً للتعبير عن أفكارهم، ومشاعرهم حكاية "السندباد"؛ بوصفها إحدى الحكايات الشعبية التي وردت في " ألف ليلة وليلة"، والتي ترمز في جانب منها إلى التنقل والترحال والغربة، ومن ثم العودة إلى الوطن بالنصر والخير، كما ترمز في بعد آخر للثائر الذي يقتحم الأخطار والأهوال في سبيل تحقيق واقع أفضل لأمته.

وظَّف الشاعر "سيلمان دغش" في قصيدته" ظِلّ غيبتهِ" شخصية السندباد، واتخذ منها معادلاً تراثياً للرئيس الراحل في رحلة معاناته في بلاد الغربة والشتات، وعودته إلى أرض الوطن، يقول :

ولأي بحر تنتمي؟
يا سندباد الريح لم تعد النوارسُ
كلها للماء
كيف تركتها في الريح تلهث
خلف ظلك في سراب الماء
بين البحر والصحراء
من سَيَدُلُّها يا سندباد إلاه ؟
ثمة موجةٌ أخذتك للأبدية
الزرقاء
فابتعد الدليلُ.

امتصت الدفقة الشعورية في هذا النص حكاية السندباد، وقد تبدَّى ذلك جلياً في المفردات اللغوية التي تجسد أجواء الحكاية وطقوسها استخدمها الشاعر من مثل:"البحر، والريح، والنوارس، والماء، والموجة، والصحراء"، وهي جميعها مفردات مستوحاة من معجم رحلة السندباد؛ وقد أضفت على النص جواً من عبق الحكاية الشعبية التي تتحدث عن رحلات السندباد ومغامراته في البحر والبر.

وتتبدى الحكاية الشعبية في النبضة الشعورية السابقة من خلال الوقوف على عدد من الدوال أو الدلالات الرمزية، فقد استثمر الشاعر دال"النورس" في الرمز للإنسان الفلسطيني. فإذا كان السندباد/ عرفات قد عاد إلى أرض الوطن بعد معاناة مريرة في الغربة، فإن قسماً كبيراً من النوارس/ الشعب الفلسطيني لم تتمكن من العودة، وظلت تكابد مرارة الغربة في الشتات، وقد ازدادت معاناتها بعد رحيل القائد؛ لأنها فقدت برحيله الحادي والدليل الذي يقود سربها إلى أرض الوطن، وبذلك وسَّع الشاعر من فضاء النص الشعري، وعمَّق دلالته، وأثرى تجربته الخاصة بتجارب إنسانية أخرى.

كما عَمَدَ الشاعر إلى استثمار الطاقات الإيحائية القارة في القيم اللونية ذات الإيحاءات الثرة في بناء صوره الشعرية، إذ يقف المتلقي أمام وصف"الأبدية بالزرقة"؛ ليستوحي منه كثيراً من معاني الانفتاح والانطلاق، فالأزرق– الذي يتسم باللامحدودية واللانهائية كما في البحر والسماء- أنسب الألوان للتعبير عن معاني الانعتاق والحرية التي يريدها الشاعر ، وهو دال ينوب عن كثير من المفردات التي قد لا تؤدي المغزى المقصود ذاته بمثل هذه الصورة، وقد جاءت الإيحاءات اللونية منسجمة مع السياق العام للقصيدة، ومتماهية مع أجواء حكاية السندباد، فضلاً عن الإفادة من الإمكانات النغمية المكتنزة في القافية المطلقة المردوفة بالحرف الصائت الألف:" الماء، الصحراء، الزرقاء" التي تشي بامتداد رقعة الحزن والمرارة، واتساع الحس المأساوي وتعمقه لدى الشاعر؛ لفقد زعيمه ورحيله قبل أن يحقق أحلامه وأحلام شعبه.

إنّ إيحاءات التناص الشعبي ودلالته الموضوعية قد أدّت بدقة وانسجام أغراضها، ووظائفها الفكرية والجمالية في السياق الشعري الذي تداخلت فيه، وتناصّت معه، وکانت جزءاً لا يتجزأ من السياق العام للقصيدة، وبذلك تجلت وظيفة التناص- كما يراها بعض النقاد- في" تعزيز تجربة الشاعر وتوثيق دلالة محددة أو نفيها أو توکيد موقف وترسيخ معنی، وبالإجمال إنتاج دلالة مؤازرة للنص في حالتي قبوله ورفضه بالتضمين الصريح أو بالتلميح".

فقد حاول الشعراء استلهام الأقوال المأثورة التي كان يرددها القائد، وأعادوا صياغتها في قوالب فنية، وأدمجوها في السياق الشعري، فكانت بمثابة وصايا خالدة، وحكم بليغة. إذ إن عناية الشعراء بمثل هذه الأقوال المأثورة والمقولات، واستدعاءها في بنية فصائدهم، يعد لوناً من ألوان امتزاج الثقافة الشفهية بالثقافة المكتوبة. يقول الشاعر:

يا أبا عمار
كيف تُرثى وردةً في بستان المطلق
وصاياك سنديان
وجبالُ الجموحِ والزنبق لا تهْزمُها الريحُ
وليستْ تهزُّها عاصِفاتُ الرُّعود.

حاول الشاعر أن يوظّفَ إحدى مقولات الرئيس الراحل توظيفاً فنياً وفق رؤيته الشعرية، فهو يتكئ علی الإشعاعات التی تنبعث من هذه المقولة التي تعد وصية من وصاياه التي تدور حول الصمود والنضال، وقد اندغمت في سياق النص وتآزرت مع عناصره الفنية الأخرى.
تراوحت مواقف الشعراء أمام غياب القائد ورحيله ما بين مواقف متفائلة، ومواقف قاتمة هيمنت على أصحابها روح الانهزام والاستسلام، ومن الفريق الأخير الشاعر أبو جاموس الذي كان للمصاب الجلل، والخطب الجسيم أثر عميق في رؤيته الشعرية، فعبر عن روح اليأس والقنوط والانكسار، يقول:

قد هزَّنا الرِّيــــــــــــحُ وَيْحي أيُّها الْجَبلُ
وأُثخُنتْ بالدِّمـــــــــــا والأدْمـــُع الْمُقَلُ
لمَّا قضيـْـتَ غدونا يتّـــــــــــــمَاً غرقوا
في لُجّة البـــــــــــــــحر لا حظ ولا أملُ

إن مثل هذا الاستخدام لتلك المقولات المأثورة يضفي على النص الشعري حيوية تنبع من إيحاءاتها المختزنة في الذاكرة الجماعية، من خلال توظيفها فنياً في النص، وجعلها بالتالي قادرة على التعبير عن الموقف الذي يريد الشاعر تصويره أو الإيحاء به، فالشاعر يتبنى في نصوصه عبارات ذات طابع إنساني درجت على لسان الرئيس ولهجت بها ألسنة أبناء شعبه.

خـاتمـة:

من خلال ما تقدم يتضح أن التناص يعدّ من أبرز التقنيات الفنية التي عني بها الشعراء، فأقبلوا علی توظيفها بوصفها ضرباً من تقاطع النصوص الذي يمنح النص ثراء وغنی، وتحمل في طياتها دلالات وإيحاءات جديدة قد يعجز التعبير المباشر عن تأديتها،

يتبين أيضاً أن الدراسة النصية هي التي تكشف عن قدرة الشعراء على إعادة تشكيل النصوص ودمجها في النص الحاضر من أجل تعميق الرؤية واتساع الدلالة.

اتضح أن وعي الشعراء بالدور الفاعل الذي يؤديه التناص في النص الشعري، والآفاق الدلالية الرحبة التي يفتحها، قد دفعهم إلى استثمار روح التراث وعناصره ومعطياته؛ للتعبير عن واقعهم المعيش، من خلال تحوير الدلالة أو تحقيق المفارقة أو التناص المباشر، وكان الشعراء يستلهمون من التراث ما يتساوق وتجاربهم وموقفهم الإنسانية، وما من شأنه أن يجعل المتلقي متفاعلاً مع النص الشعري.

لم تكن آلية التناص في أشعارهم على مستوى واحد من التوظيف، إذ إن هناك تفاوتاً في المستوى الفني لتوظيف الشعراء لمعطيات التناص في نصوصهم الشعرية، فثمة توظيفات جاءت منسجمة مع سياق القصيدة، وكأنها لبنة من لبناتها، وأدت دورها في توسيع فضاء النص الشعري وتعميق التجربة وإكساب الموقف والشخصية مزيداً من التكثيف والإيحاء، وهناك توظيفات أخرى وردت متواضعة، لم تسهم في خدمة فاعلية السياق أو الموقف على الصعيد الدلالي، فكانت غير قادرة على بلورة مواقف الشعراء ورؤاهم الإنسانية.

* نشر هذا البحث بالاشتراك مع د. محمد صلاح زكي أبو حميدة ، أستاذ البلاغة والنقد المشارك بجـامعة الأزهـر- غزة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى