الشَّيْخ و الْجراد
لاتُدْحَضُ للشيخ حُجّة، فهو ينازل العجز، ويقاوم الوهن، ويحارب النسيان..
كان قائدا، هصُورا، جَلْدا في معسكره، غضب للهزيمة، فأنكر شهامة قائد معسكر الفتيان..
أللفتى الغِرّ نصر؟
الويل لمن ينازعه الخُطط، ممن حوله، فهو قد خبر الحرب..
– هذا يا أبتي بساطك من الدَّوم تحت ظل الشجرة، يكفي أن ترتاح وتراقب عن كثب ما يجري في الحقل.
ارتدت نظرات الإبن الفتى، عينا أبيه جمرتان ملتهبتان، أفرزتا لمعان الشرر، اِرتعشت الشفتان الغليظتان، وتصلبت الوجنتان الضامرتان، إنه عَمَى الغَضب، فمال الخلف بأديمه جانبا في تقهقر.
يأبى الشيخ الذي عمر طويلا أن يفقد ولاية أمر القبيلة، لا يكاد يُذعن إلا لحرمه العجوز، ففي صلصال حاشية فوهة البئر حزوز حبل الدلو، بدل أن يحز الحجر قُنّب الحبل، يحز هذا الأخير الحجر، كذلك الشيخ وقرينته العجوز.
الشيخ حازم، قبض بيديه ثوب الجلباب ورفعه، ثم شدّه إلى وسطه بحبل من القُنّب، فتهدلت جوانبه. كانت العِمَامة البيضاء قد أربكتها ثائرته، فأعاد لفها على هامته المندحرة، أليست هي دليل كبير قوم، والأنفة، والشموخ؟
ذو أَرْيَحِيَّة تجذب حفيده الصغير: سخاؤه..حين يُرَبِّته باليد النحيلة يسري الدفء، قبلته المرتعشة والمندفعة على الجبين.. ضِحْكتُه المكتومة..عند تثاؤبه يبدو طاقم آصطناعي من أسنان نضيدة آلبياض. أنفاسه ممزوجة بمسك أثوابه، علامة الوضوء والصلاة بادية على وجهه.
تسافر حكاياته مع نسيم الليل في سكون البادية، وتحلق مجَلَّلة بنجوم ساطعة في السماء، تبدو من خلال كُوَّة البيت، إحداها حكاية الجراد، ذكرى تصحو على إثرها أحاسيس، يثيرها في نَفْس الشيخ حدث زحف الجراد على سنابل الحقول، يؤججها حماسا وآندفاعا، وتفتقا عن قوة فُتوة كانت قد أينعت على التو، فتنبسط أسارير الشيخ، ويحن قلبه لذلك الزمان، فتدمع عيناه.
آذان الحفيد تلتقط تفاصيل الحكاية بنهم، ويستوقف جده عند كلمات مثيرة: تحميص.. جراد.. النار..
فلم يكن بدا من أن يستطرد الشيخ:
– نعم، كنا نُحمص الجراد على النار ونأكله.. كنا نستسيغه متلذذين.
الحصان الذي كان يمتطيه يعكس غشاؤه أشعة الشمس، فيَغْشى على البصر.هكذا كان يقول، فلا يكاد يذكر هذا، حتى يتفوه من يخاطبه ببقية الجملة التي كثيرا ما رددها على مسامعه:
«الجواد يرْكُض، فلا أكاد أستقر على السِّرج، ووقع الحوافر يُلفت الأسماع، وصيحات آستنفاري ترتج لها الأجساد، ويدي تلوح إلى الجنوب القاحل، الجراد..الجراد..فيهب الرجال والنساء والفتيان إلى إبادة الجراد، ولا تخالجهم ريبة في كلامي، كنت أدراهم بخبايا الأمور، ولرأيي تقدير..ما وزنه ذَهب».
لا يلتفت الشيخ إلا ليبحث عن حفيده كما يبحث عن ظله، فهو يتشبث بتلابيبه حين يغدو ويروح، وهو ملاذه عندما تهدده عصى الأب أو الأم. ما يبحث عنه عادة أعشاش الطيور وهو طليق الحقل، ليلهو ببيضها ثم يطرحه في مكان ما. فما أثار إعجابه جرادة كبيرة تنط بين سيقان السَّنابل وشقائق النُّعمان، وفي غمرة آلفرح بصيده الغريب، لوح بالجرادة أمام عيني جده، الذي آختطفها من بين يدي الطفل، وتأملها، فآرتعش صوته:
– هذا نذير..الجراد في طريقه إلى التهام الأخضر واليابس..ما أينع ونَضِج..سيجلب معه الجوع والموت.
فآنقبضت نفسه لمنظر مخيف تخيله:
«حوافر الدواب لا تَدْرس في الأجْران غير التبن، ولا أثر للحب، ومطامير الحبوب حفر خاوية مليئة بالأفاعي، والعقارب، والحيات، والحجارة المخرومة، وفروع النباتات اليابسة، والأشواك، والأطفال والعجزة يموتون، والرجال يتقيؤون.. وفي أمعائهم مغص الإسهال».
نادى الشيخ على الجميع، وطالت صيحاته حتى ذهبت بِنَفَسِه وتحشرج صوته، فكان أضعف من أن تحمله الريح إلى آذان الفلاحين، وقاوم آنحناءاته ليراه من في الوادي والمنخفض، جرى الحفيد يوزع كلمة الجراد المرعبة بين الأطفال والرجال، يخدش الشوك ساقيه، ويتدحرج الحصى تحت قدميه، تتعثر وطآته في تراب جذور النباتات. لوح الشيخ بعكازه، فنظر إليه الجميع، فآحتذاؤه في إبادة الجراد بفروع الأشجار المورقة من طرف القرويين عُرْف القبيلة. مشى في وسط الحقل مجللا بخليط من الأصوات والهتافات والمناداة، وصيحاته تستنهض الهمم، تطرق أذنيه كلمة (الشيخ)، يستزيد بها فخرا وتقدما. سألوه عن علامات هجوم الجراد، فقال:
– هي سحابة سوداء ستحتل زرقة سماء ماي الصافية عند الأفق، ثم تنطبق فجأة بالحقول، لتلتهم أخضره.
جمدت الأجساد في أماكنها، وتعطلت حركاتها، تتطلع الوجوه إلى السماء، أفقدها الخوف الذي غزا نفوسها السكينة، وتصنتت الآذان، وتأهبت إلى سماع غير زقزقة عصفور، أو نباح كلب، أو ثغاء الأغنام، ما يشبه حفيف أجنحة منتظم لسرب هائل من الجراد..لكن ..بعد برهة طرق مسامعهم هدير محرك طائرة...
أفي كلام الشيخ آفتراء؟
همس بهذا لسان بحذر، تحفظ صاحبه، ولم يقر كلاما يعني شيخا له قدره، في أذن من توسم فيه الكتمان.
زاغت عيون القرويين عن الشيخ،× لتشد أنظارهم طائرة بيضاء ترتفع في الفضاء الرحب، ثم تنخفض وتحلق فوق الرؤوس، فآنبهر الجميع لتحية الطيار، فرقص لها الصغار، وهتفوا ولوحوا بأيديهم، أما الكبار فتسمروا في أماكنهم مأخوذين بهيئة الطائرة، وشموا رائحة مبيد، فتساقط الجراد جامدا كأنه حبات بَرَد أسود أمطرته السماء. هبطت الطائرة بعد دقائق على مسرب منبسط تَرِب، مهدته حوافر الدواب والعجلات المطاطية للعربات الحديدية، وترجل الطيار، وآنكفأ على الأرض، شاهده القرويون يتناول جرادة ميتة، هي دليل نجاح المهمة التي من أجلها قدم من بعيد، ثم أدار محرك الطائرة الراشّة للمبيدات، فآنخرطت مراوحها في هدير مستمر، وأقلع مخلفا وراءه زوبعة من آلعَجاج.
لم يدر الجمع ما كان يدور في خَلَد الشيخ، فآنفراج صفحة وجهه، ومسحات من يده على لحيته الشيباء، ونظرات عميقة توحي بتغليب الحكمة والتفكر، لم يمنح لهم هذا جميعا خيطا يقودهم إلى تفسير ما يراود نفسه، فهو قد آسترجع لحظتها صورا شتى من الماضي البعيد:
( كانت السماء تمطر قطرات في الخيال، وماء الآبار يجري في آلحُلْقوم هباء، وغارات طائرات الأمريكان في أوروبا تُرعب صغار العصافير في بيض لم يُفْقس بعد، وجموع القرويين سلكت طريق مدينة الملذات، ليتعيشون من بيع الأعراض في كهوف الليل، ذات أضواء تتلألأ خفوتا).
فهو قد تلقى دروس الحياة المديدة، وخبر نوائب الزمن الناحرة، فلم يكن أجهل مما يتصورون، لكنه حنين ذكرى أيام خلت، أيام الجراد المُحمَّص على النار، والسنابل العطشى للماء، والأرض القفراء، تدب عليها سحلية لاهثة في أُوَار الصيف، ونبتة برية تهفو لها معدته، يقضم أوراقها وعُسْلوجها.