الأحد ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم مفلح طبعوني

الصبايا الفارعات

أشرنا أكثرَ منْ مرةٍ في مناسباتٍ سابقةٍ إلى أهميةِ مثلِ هذه الندواتِ واللقاءاتِ الأدبيةِ، الثقافيةِ، وتأثيرِها على حاضرِنا ومستقبلِنا، وعلى مجملِ حراكِنا في المشاهِدِ الإبداعيةِ.
اِستثمرنا تجاربَ وأفكارَ وطروحاتِ مبدعينا باعتزازٍ وسنستثمرُ اليومَ تجاربَ وأفكارَ وطروحاتِ شاعرنا الضيفِ، طارقِ عون الله، اِبنِ الناصرةِ المسكونِ بها وبالشعرِ.. سنستثمرُها للوصولِ إلى ثقافاتٍ متطورةٍ للتسارُعِ والوصولِ للمناطقِ المنيرةِ، وتعزيزِ مواقعِنا بعيدًا عن الظلمةِ ومعَ شموعِ الإبداعِ.

سنحاولُ نقلَ مشهدٍ ثافيٍّ بأريحيةٍ، لنتواصلَ معهُ، ونحلقَ في فضاءٍ حضاريٍّ ممزوجٍ بالأملِ والسُّموِّ.

اِلتقيتُهُ أولَ مرةٍ قربَ السرايا، - البلديةُ القديمةُ - في مقهى أمِّ كلثومٍ، لصاحبهِ وصاحبِنا، المشتركِ هاني الحاج أبو عطا، المغتربِ منذ أكثرَ من أربعةِ عقودٍ في الولايةِ الإسرائيليةِ، أمريكا.
تحدثْنا يومَها، عن البِطِّيخِ المفخَّخِ، وعن بصقةِ المحامي عبدِ الحفيظِ دراوشَة، في وجهِ قائدِ شرطةِ منطقةِ الناصرةِ. تحدثنا عن الاعتقالاتِ والإقاماتِ الجبريةِ وإثباتِ الوجودِ في مركزِ شرطةِ المسكوبيةِ، ومنعِنا من الدخولِ للمناطقِ المحتلةِ، بحُجَّةِ الحفاظِ على أمنِ الدولةِ.

تحدثنا عن رجوعياتِ توفيقِ زيَّادٍ، وعن عاشقٍ من فِلسطينَ، عن قصائدِ نزارِ قبَّاني، وعن نسخهِ ديوانَ نزارٍ باليدِ، لقلةِ الكتبِ في تلكَ الفترةِ، تحدثنا عن فؤاد خوري، القائدِ الإنسانِ، وعن المرضِ الخبيثِ الذي بدأ يحتلُّ جسدَهُ، تحدثنا عن السِّباطينِ، سباطِ دارِ قعوارٍ وسباطِ الشيخِ، وعن حلاوةِ الشافعِ وطعمِها المميزِ، تحدثنا عن الصبايا الفارعاتِ، اللائي يقطعنَ الطريقَ من البيتِ إلى المدرسةِ، ومن المدرسةِ إلى البيتِ، ويذهبنَ كلَّ أسبوعٍ إلى الخياطةِ.

حدثتْني دموعُهُ عن مصادرةِ أرضهمْ في المرجِ، مرجِ ابنِ عامرٍ، والتي تبلغُ مساحتها سبعَمئةٍ وَخمسينَ دونمًا، بحُجةِ الحاضرِ الغائبِ، حدثني عن هدمِ الإنجليزِ للمشفى الوحيدِ في الناصرةِ والمُقامِ على أرضهمْ وبين بُيوتهمْ، بحُجةِ إطلاقِ النارِ منهُ على الجيشِ الإنجليزي...

ماذا أقولُ وماذا أضيفُ؟

سأضيفُ قولَ المعذبِ الحاضرِ عن المعذبِ الفلسطينيِّ الغائبِ.

"تولدُ أنتَ.. حكيمًا
ونبيًّا وبلا صوتِ
وتموت إلـهًا .. مصلوبًا..
يُجلَدُ بالسَّوطِ
فوداعًا يا حُبًّا ولَّى،
فأنا قررتُ العيشَ بلا صمتِ
ولأجلِ صليبِكَ هذا الباقي
سأحاربُ أسبابَ الموتِ".

عادَ زائرًا قبلَ سنواتٍ، سألني عن السباطينِ، وعن السرايا، عن ساعةِ الديرِ ودربِ العينِ، سألني عن الحلاوةِ وحلى الصبايا الفارعاتِ.
سألني عن الخياطةِ.. سألني وسألني، سألني عن المرجِ والنصراوياتِ الحَبالى والمراضعِ، اللائي قطعنَ المرجَ..

.... ....

وسألني قبلَ أيامٍ عن السباطينِ وساعةِ الديرِ، عن السرايا وساحةِ العينِ.

ثم قالَ: "أمشي في صحراءِ التيهِ
وأعرفُ أني أمشي نحو الموتِ الهاجمِ
منْ دونِ استئذانٍ
مَنْ يحميني منْ هذا الموتِ الهاجمِ..
يا أهلي في الشامِ
وفي الأردنِّ
وفي لبنانْ؟
شمسٌ تأكلُ من لحمي
أطرافي جفتْ
ولساني ما عادَ لسانْ".
سألني قُبيلَ السَّحَرِ عن الصبايا الفارعاتِ وحلاهنَّ..
قلتُ: لا تبحثْ عنهنَّ.

فبكى وبكيتُ، وصاحَ الديكُ الحزينُ.. أغلقت الخياطةُ بيتَها الجميلَ، وتوقفتْ ساعةُ الديرِ عن البندلةِ، ليسَ قبلَ أنْ تسألَ

"متى ستعودُ العصافيرُ
التي حنتْ إلى عشِّها".

*نص الكلمة التي ألقيت في الأمسية التكريمية للشاعر طارق عون الله، ابن الناصرة المقيم في لندن، والتي أقيمت تحت عنوان "من هناك إلى هنا" تحت رعاية بلدية الناصرة – المراكز الجماهيرية - في مكتبة أبو سلمى، الناصرة، بتاريخ 19/8/2011


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى