الجمعة ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤
بقلم أحمد الخميسي

العالم يحتفل بمئوية تشيخوف

حين توفي تشيخوف منذ مائة عام قال ليف تولستوي أحد أعظم كتاب الرواية في العالم : " لقد أسس تشيخوف أشكالا جديدة لفن الكتابة في العالم أجمع ، لم أر مثلها في أي مكان آخر. وبعيدا عن كل تواضع مزيف أؤكد أن تشيخوف أرفع مني بكثير" . وفي مجال إنجازات تشيخوف المسرحية قال الأديب الإنجليزي المعروف برناردشو : " إن تشيخوف يتلألأ كنجم ساطع وسط كوكبة المسرحيين الأوربيين العظام! ". ولهذا لم يكن مستغربا أن تحتفل كل عواصم العالم بالذكرى المائة لرحيل الكاتب العظيم حتى أن اليونسكو اعتبر أن عام 2004 هو عام تشيخوف الذي مازال مقروءا ومعروضا ومترجما في كل ناحية . لكن الاحتفال بتلك الذكرى اكتسب طابعا خاصا في روسيا ، وفي أكرانيا حيث قضى تشيخوف عددا من سنواته فيها بمدينة يالطا ، وأخيرا في ألمانيا التي شهدت إحدى مدنها رحيله المبكر . وفي روسيا بمدينة تاجانروج حيث ولد الكاتب ، أقيمت في 14 يوليو الصلوات على روح الكاتب منذ الصباح الباكر في كل الكنائس ، ومضت صفوف من أبناء قريته تضع الزهور عند تمثاله هناك ، وفي متحف " منزل تشيخوف " أقيم احتفال ضخم ، مكرس للعام الأخير من حياة تشيخوف وعرضت فيه بعض رسائل تشيخوف وذكريات زوجته أولجا كنيبير عنه ، كما عرضت مسرحية عن قصته الشهيرة " السيدة صاحبة الكلب". وفي موسكو امتلأت الصحف الأدبية والسياسية بمقالات مطولة عن تشيخوف ، وصوره ، ووضع أكبر المعماريين الروس تصميما لبيت موسكو المسرحي الذي سيقام على شرف الكاتب على مساحة 65 ألف متر مربع ، حيث يضم مختلف القاعات للعروض المسرحية والموسيقية وغيرها ، واحتشد عدد ضخم من الناس في مقبرة " نوفي ديفيتشي " التي دفن فيها تشيخوف يحملون باقات الزهور إلي الكاتب ، وفي قرية " ميليخوفو " بضواحي موسكو حيث قضى تشيخوف سبع سنوات ، وكتب فيها بعضا من أروع أعماله مثل مسرحية " طائر النورس "، وقصة " الراهب الأسود" تم وضع حجر الأساس لمعهد مسرحي جديد على شرف الكاتب . وقدمت مسارح موسكو الكبيرة عروضا لمختلف سرحيات تشيخوف .

وفي أكرانيا جرت احتفالات مماثلة في بيت الكاتب في يالطا ، وعرضت كتب في الطب من مقتنيات الكاتب ، وقدمت المعزوفات الموسيقية . وفي ألمانيا جرت احتفالات كبيرة في مدينة " بادن فايلر " الألمانية هناك حيث توفي تشيخوف ، وعرضت ترجمة أعماله بالألمانية ، كما تم ترميم الفندق الذي نزل به الكاتب فترة إقامته هناك قبل دخوله المستشفى . وتزداد تماثيل أنطون تشيخوف في روسيا يوما بعد الآخر فقد ظهر نصب جديد له في مدينة سامارى على الرغم من أن تشيخوف لم يزر هذه المدينة في يوم من الأيام إلا أن سكان سامارى يعتبرونه واحدا منهم ، لأن تشيخوف في الوقت الذي عانت فيه المدينة من القحط والجوع بعد تدهور الموسم الزراعي عام 1898 بذل جهدا خرافيا من أجل جمع الأموال لأطفال المدينة ا! لجوعى ، وأنقذ المئات من أطفال الفلاحين من الموت. جدير بالذكر أن أول من قدم تشيخوف إلي قراء العربية هو الفلسطيني نجاتي صدقي في سلسلة اقرأ بالقاهرة عام 1947 ، وآخر من ترجمه في أربعة مجلدات هو الدكتور أبو بكر يوسف تحت عنوان " مؤلفات مختارة " صدرت عن دار التقدم في موسكو وضمت مسرحياته وأفضل قصصه المعروفة .

جدير بالذكر أن الأعمال الكاملة للكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف لم تترجم بعد إلى الآن . لقد اكتفت الترجمة بالأعمال المشهورة، والراسخة ، التي كتبها تشيخوف سنوات النضج والتألق القصيرة والعظيمة . من ضمن أعمال تشيخوف التي لم تترجم ، ولم و لم يتعرف إليها القارئ العربي ، كتاب كامل تبلغ عدد صفحاته 350 صفحة من القطع المتوسط ، بعنوان " جزيرة سخالين "، يصف فيه تشيخوف رحلته التي قام بها وهو في الثلاثين من عمره إلي تلك الجزيرة النائية الواقعة عند الشواطئ الشرقية لآسيا . كان ذلك عام 1890 ، قمة نضج تشيخوف ، ولحظة صعوده إلي ذروة الأدب الروسي ، كان قد كتب ونشر قبل رحلته تلك قصصه القصيرة المدهشة مثل : " وفاة موظف " ، و" مزحة " ،و" جهاز العروس "، وقبل الرحلة بعام واحد فقط كان العالم يقرأ بذهول واحدة من قمم الأدب القصصي الخالد أي قصة تشيخوف " حكاية مملة ".

كانت السنوات الشاقة التي عاشها تشيخوف وهو يقوم بإعطاء الدروس الخصوصية من أجل إطعام أسرته ، ويواصل الكتابة في ظروف عسيرة ، ت! تراجع لتحل محلها سنوات سعيدة ، يتربع فيها تشيخوف على عرش الأدب ، وتصبح أحواله المالية أكثر يسرا . ولم يكن عليه الآن سوى أن ينطلق . لكنه توقف . وبدلا من مواصلة الكتابة والذيوع ، قرر القيام برحلته إلي جزيرة سخالين ، في ظروف لم يكن فيها الانتقال سهلا ، لا سيما إلي جزيرة نائية ، تنعدم فيها الزراعة من شدة البرد ، ويعيش فيها المجرمون والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة . في قمة شهرته ، قرر تشيخوف أن يتجه إلي هناك ، وحده . لكي يقوم بأول إحصاء لتعداد السكان في تلك الجزيرة ، ورصد الأمراض المنتشرة بينهم ، والأدوية التي يتناولونها ، وأنواع العقاب التي تحل بهم ، وعمل النساء والأطفال ، وظروف السجون والعقوبات هناك . إنه عمل ممل ، ومرهق ، يخلو تقريبا من الإبداع الأدبي ما عدا ملاحظة البشر ، لكنه عمل حافل بموهبة أخرى كان تشيخوف يطلق عليها " موهبة حب الناس " ، وكانت تضاهي عنده موهبته الأدبية النادرة المثال .

في ذكريات الآخرين عن تشيخوف ثمة إشارات موجزة للروح التي قادت الكاتب العظيم نحو جزيرة تقع بين بحري اليابان و أخوتسك ، ولا يوجد بها سوى ما نشأ مع الطبيعة من فحم وأخشاب وأسماك بحر لمن أراد صيدها . يتذكر كاتب آخر هو مكسيم جوركي كيف دعاه تشيخوف ذات يوم إلي منزله التي أحاطت به قطعة أرض صغيرة ، وكيف قال لجوركي بحيوية : " لو كان لدي نقود كثيرة لأقمت هنا مصحا للمدرسين الريفيين المرضى، أتدرى ولكنت شيدت مبنى مضيئا .. مضيئا جدا .. بنوافذ كبيرة ، ولكنت زودته بمكتبة رائعة وآلات موسيقية وبمنحل ومزرعة وبستان فواكه "، وأضاف تشيخوف : " أتدري .. عندما أرى المدرس أشعر بالحرج منه بسبب وجله ، وبسبب ملابسه الرثة ، ويخيل إلي أنني أيضا مذنب بصورة ما في بؤس المدرس هذا . صحيح ! " . بهذا الشعور بمسئولية كل فرد عن بؤس الآخرين قرر تشيخوف القيام برحلته المنهكة .

وأقدم هنا ترجمة من الروسية لنص لم ينشر من قبل باللغة العربية مأخوذ من كتاب جزيرة سخالين الذي نشره الكاتب بعد رجوعه من رحلته عام 1890 ، وبداهة كان على أن أختار جزءا من الكتاب ، فتوقفت عند البطاقة أو الاستمارة التي أعدها تشيخوف بنفسه للتعرف إلي أحوال السكان هناك . الأسئلة ، والإجابات ، وملاحظاته على البشر، وقدمت منها مقتطفات بالنص كما هي في الأصل الروسي . إن بطاقة تشيخوف تقدم صورة مرعبة ، لحياة غريبة ، على جزيرة نائية ، ومع ذلك سيلمس القارئ فيها روح تشيخوف الساخرة ، والرقيقة ، وقدرته على النفاذ إلي صميم النفس ، ثم التعاطف معها حتى النهاية .

بطاقة تشيخوف

من " جزيرة سخالين "

لكي أستطيع – حسب الإمكان - زيارة كل نقاط التجمع السكاني والتعرف عن قرب إلي حياة المنفيين هنا ، لجأت إلي وسيلة كانت الوحيدة الممكنة في وضعي الحالي .

لقد قمت بإحصاء السكان . في القرى التي تواجدت فيها ، مررت على كل الأكواخ، وسجلت أصحابها ، وأفراد عائلاتهم ، والقاطنين ، والعاملين . وقد تفضلوا بأدب فعرضوا علي مساعدين ، من باب اختصار الوقت وتسهيل العمل علي . ولكن لما كان هدفي الرئيسي من الإحصاء الذي أقوم به ليس نتيجة الإحصاء بحد ذاتها ، بل الانطباعات التي أحصل عليها من تلك العملية فإنني لم ألجأ إلي مساعدة الآخرين إلا في حالات نادرة . وفي واقع الأمر فإنه من الصعوبة بمكان أن نطلق كلمة إحصاء على عمل قام به شخص واحد خلال ثلاثة شهور ، فنتيجة ذلك التعداد لا يمكن أن تكون دقيقة أو وافية . مع ذلك ربما تكون أرقامي هذه نافعة للبعض نظرا لأنه لا تتوفر معطيات أكثر جدية ، لا في السجلات ولا في الدواوين الحكومية لجزيرة سخالين .

استخدمت في الإحصاء بطاقات تم طبعها خصيصا من أجلي في مطبعة إدارة الشرطة . أما عن عملية التعداد ذاتها فكانت تجري كالتالي : في السطر الأول من كل بطاقة سجلت اسم المركز السكاني أو القرية ، في السطر الثاني رقم المسكن حسب القوائم الحكومية . في السطر الثالث وضع الشخص : محكوم عليه بالأشغال الشاقة ، أو مستوطن ، أو فلاح منفي ، أو حر ... كان المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يجيبون حين أسألهم عن وضعهم بقولهم : عامل ، فإذا كان قبل الحكم عليه من جنود الجيش فإنه يضيف إلي ذلك : من الجنود يا صاحب السعادة . وحين يقضي الشخص مدة الحكم ، أو حسب تعبيره " حين تنتهي مدة الخدمة " فإنه يصبح مستوطنا في الجزيرة نفسها ، ولكن كلمة مستوطن هنا لا تتميز كثيرا عن كلمة مواطن ، ناهيك عن الحقوق التي تصاحب الوضعية الجديدة . وردا على سؤالي : ما هو وضعك ؟ يجيب المستوطن عادة هكذا : حر . !

في السطر الرابع أسجل اسم الشخص واسم والده ولقب العائلة . وبذلك الصدد أتذكر شيئا واحدا ، أنني حسبما أظن ، لم أسجل بشكل صحيح اسما واحدا من أسماء النساء التتاريات هناك . إذ يصعب أن تصل لشيء واضح مع العائلات التتارية حيث الكثير من البنات ، والأب والأم بالكاد يفهمان باللغة الروسية ، ومن ثم كنت مضطرا أن أسجل معتمدا على التخمين . الأسماء التتارية تكتب حتى في الملفات الحكومية بشكل غير صحيح . ويحدث أن تلتقي برجل روسي أرثوذكسي ، وتسأله : ما اسمك ؟ فيجيب بجدية قائلا : " كارل " . إنه أفاق متشرد استبدل في الطريق باسمه اسم شخص ما ألماني . أذكر أنني سجلت حالتين من هذا النوع : كارل لانجر ، وكارل كارلوف . وقد التقيت بمحكوم بالأشغال الشاقة يدعي أن اسمه نابليون . وصادفت أيضا امرأة متشردة تقول إن اسمها " براسكوفيا " وهي ماريا.

أما فيما يتعلق بألقاب الأشخاص ، فقد وجدت في سخالين ألقابا كثيرة مثل بوجدانوف ، وبيسبالوف ، وألقابا أخرى كثيرة مضحكة مثل : الكافر ، و أبو معدة ، والنطع . وكما قالوا لي فإن ألقاب العائلات التتارية تظل في جزيرة سخالين تشير بالرغم من حرمان أصحابها من كافة الحقوق إلي المراتب العالية السامية ، ولا أدري مدى صحة ذلك ، ولكني سجلت عددا غير قليل من الخانات ، والسلاطين . الاسم الأكثر شيوعا بين المتشردين هو إيفان ، واللقب هو " لا أذكر " . وإليكم أسماء وألقاب بعض أولئك المتشردين : " مصطفى لا أذكر " ، " فاسيلي بلا وطن" ، " فرانتس لا أذكر عشرون عاما " ( الرقم هنا جزء من صميم اللقب ) ، " ياكوف بلا لقب " ، " إيفان المتشرد 35 سنة " ( الرقم جزء من اللقب ) .

في السطر الخامس كنت أسجل السن . النساء اللواتي تجاوزن الأربعين يذكرن أعمارهن بصعوبة ، ويجبن علي سؤالي وهن يفكرن . الأرمن من خليج يريفان لا يعرفون أعمارهم على الإطلاق . وقد أجابني أحدهم على النحو التالي : " ربما أبلغ من العمر ثلاثين سنة ، وربما أكون قد بلغت الخمسين بالفعل " . وفي تلك الحالات كنت أحدد العمر بالتقريب ، بالنظر إلي الشخص ، ثم أقوم بمراجعة ذلك على الأوراق الأخرى . أما الذين كانوا أقل من خمس عشرة سنة ، أو أكثر قليلا ، فكانوا في العادة يكبرون أنفسهم . واحدة منهن كانت في سن العروس ، أو أنها تمارس الدعارة منذ زمن بعيد ، وتقول إن عمرها لا يزيد عن ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاما . والسر في ذلك أن الأطفال والمراهقين تحت سن الخامسة عشرة كانوا في الأسر الفقيرة يحصلون من الإدارة على نباتات للعلف ، ولذلك كان الشباب وآباؤهم لا يقولون الحقيقة .

السطر السادس كنت أسجل الديانة . السابع كنت أسجل محل الميلاد . وردا على سؤالي أين ولدت ؟ كنت أتلقى الإجابة فورا دون صعوبة . لكن المتشردين وحدهم كانوا يجيبون على السؤال بنوع من الحذر ، وبكلام يحتمل معنيين ، أو بقولهم " لا أتذكر أين ولدت " . وحين سألت فتاة شابة تدعى " نتاليا لا أذكر " من أية محافظة هي ؟ قالت لي : " من كل محافظة شوية " .

السطر الثامن كنت أسجل فيه : في أي عام وصلت إلي سخالين ؟ . وكان من النادر أن يجيبني أحد على هذا السؤال فورا ، أو من غير توتر. وعلى الرغم من أن العام الأول في سخالين عام التعاسة المرعبة ، إلا أنهم إما لا يعرفون أي عام كان ، أو لا يذكرون . وحين سألت امرأة محكوم عليها بالأشغال الشاقة : في أية سنة جاءوا بك إلي سخالين ؟ فإنها أجابتني بخمول دون أن ترهق نفسها بالتفكير:"ومن الذي يدري ؟ لابد أنها سنة ثلاثة وثمانين " . وتدخل في الحديث زوجها أو شخص يسكن معها قائلا : " إيه هي مال لسانك شغال على الفاضي ؟ أنت جئت إلي هنا سنة خمسة وثمانين " . ووافقت المرأة وهي تتنفس بارتياح : " ممكن في خمسة وثمانين " . وحين نبدأ معا في حساب السنوات يتضح أن الرجل على حق . الرجال عادة لا يشعرون بالحرج الذي تشعر به النساء ، لكنهم مع ذلك لا يجيبون فورا ، ويفكرون بعض الوقت قبل أن ينطقوا . أسأل ! أحد المستوطنين :

 في أي سنة جاءوا بك إلي سخالين ؟

فيرد على دون ثقة وهو يختلس النظر إلي صاحبه :

 أنا جئت في نفس الدفعة التي جاء فيها صاحبي جلادكي .

جلادكي الدفعة الأولى من المتطوعين التي جاءت إلي سخالين عام 1879 . أدون ذلك . ويحدث أحيانا أن أتلقى إجابة من هذا النوع : " أنا قضيت ست سنوات أشغال شاقة ، ولي ثلاث سنوات مستوطن .. احسبها أنت بقى " . أقول له : إذن أنت في سخالين للعام التاسع ؟ . يقول : " لا .. لا .. قبل هذا قضيت سنتين في المركزي " . أو يحدث أن أتلقى إجابة من هذا النوع : " أنا جئت في السنة التي قتلوا فيها ديربين " ، أو: " جئت في سنة وفاة ميتسول " .

في السطر التاسع كنت أسجل العمل الأساسي للشخص أو حرفته .

في السطر العاشر – القراءة والكتابة . عادة كان السؤال يطرح كالتالي : " هل تتقن قواعد القراءة والكتابة ؟ "، لكني كنت أستفسر على النحو الآتي : " هل تستطيع القراءة ؟ " . وقد أنقذتني هذه الصيغة من الإجابات غير الدقيقة ، لأن الفلاحين الذين لا يستطيعون الكتابة لكنهم يفكون الخط المكتوب عادة ما يقولون إنهم أميون. وهناك فلاحون يدفعهم التواضع للتظاهر بأنهم جهلة، فيقولون:" ومن أين لنا هذا ؟ وما الذي يمكن لأمثالنا أن يعرفوه ؟ " وفقط عند تكراري للسؤال يقولون : " كنت في وقت ما أفك الخط ، لكن الآن نسيت . نحن مجرد أناس جهلة ،

باختصار فلاحون " . ويسمي أنفسهم جهلة أيضا أولئك الذين نظرهم ضعيف ، أو أصابهم العمى .

السطر الحادي عشر يخص الحالة العائلية . متزوج ، أرمل ، عازب ؟ . فإذا كان متزوجا فأين ؟ في بلدته ؟ أم هنا في سخالين ؟ . ومع ذلك فإن كلمة متزوج ، أو أرمل ، أو عازب ، لا تحدد في سخالين الوضع العائلي الفعلي . ففي حالات كثيرة ستجد الكثيرين من المتزوجين يقاسون من حياة الوحدة من دون معاشرة زوجية ، نظرا لأن زوجاتهم يعشن في بلداتهم البعيدة ، ولا يوافقن على الطلاق، أما العزاب والأرامل فإن لهم عائلاتهم هنا ، ولديهم أولاد من نسلهم . ولذلك كنت أسجل كلمة " وحيد " لتحديد وضع الذين يعيشون بمفردهم رغم أنهم مسجلون بصفتهم متزوجين .

في سخالين فقط ، وليس في أي مكان آخر في روسيا ، يتمتع الزواج غير الشرعي بهذا الانتشار الواسع النطاق العلني متجسدا في شكل غير مألوف . المعاشرة غير القانونية ، أو كما يطلقون عليها هنا المعاشرة الحرة لا تثير عداوة أحد في الإدارة الحكومية أو الإدارة الدينية ، وعلى العكس من ذلك يتزايد مثل هذا النوع من العلاقات ويلقى التأييد . وهناك قرية لن تعثر فيها على معاشرة واحدة تحت غطاء قانوني . ويقيم الأزواج الأحرار حياة منزلية مشتركة على ذات الأسس التي يقوم عليها الزواج القانوني : إنهم ينجبون الأطفال للجزيرة ، ومن ثم ليس هناك ما يدعو عند تسجيلهم لوضع قواعد خاصة بهم .

أخيرا السطر الثاني عشر : هل يتلقى الشخص إعانة من الحكومة ؟ . وأريد هنا من خلال الإجابات على ذلك السؤال أن أوضح أية شرائح من السكان لا يسعها أن تعيش من دون دعم الحكومة المالي ، وبعبارة أخرى أريد أن أطرح السؤال التالي:

من الذي يطعم الجزيرة ؟ الدولة ؟ أم أنها هي التي تقوم بذلك ؟ . بداية يتلقى كل المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة إعانات في شكل طعام ، أو أمتعة ، أو نقود ، وكذلك الذين يستوطنون في السنوات الأولى اللاحقة على قضائهم فترة الحكم ، وأيضا العجزة ، وأطفال أشد العائلات فقرا . وعلاوة على المسجلين رسميا باعتبارهم رجال معاشات ، سجلت أيضا الذين يعيشون على حساب الدولة والمنفيين الذين يحصلون على أجور مقابل الخدمات التي يقومون بها مثل المدرسين والمشرفين والكتبة وغير ذلك .

كنت أتنقل من كوخ إلي كوخ بمفردي ، وأحيانا كان يرافقني أحد المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة،أو مستوطن ، يشعر بالملل فيأخذ على عاتقه دور المرافق. أحيانا كان يمضي خلفي ، أو يتبعني مثل ظلي من على مسافة محددة مراقب يحمل مسدسا ، أرسلوه ورائي احتياطا ربما أحتاج إليه . وكان جبينه يصب عرقا على الفور إذا توجهت إليه بسؤال ما ويجيبني : " لا أستطيع أن أعرف يا صاحب السعادة ". وعادة كان مرافقي يمشي حافي القدمين من دون غطاء للرأس، يتقدمني وهو يحمل المحبرة ، ويفتح بضجة باب الكوخ ، ويلحق ليهمس بشيء لصاحب الكوخ ، الأرجح أنه ما يتصوره بشأن الاستمارة التي أعبئها .

في مستعمرة المستوطنين يحظى كل مائة رجل بثلاثة وخمسين امرأة . هذه النسبة صحيحة فقط بالنسبة لمن يعيشون في الأكواخ . هناك أيضا بعض الرجال الذين يبيتون داخل السجون ، والجنود من العازبين ، الذين يلزمهم - وفق تعبير أحد المديرين هنا - " موضوع لإشباع حاجاتهم الطبيعية " .. ويأتي إلي الجزيرة ليس فقط المومسات والمجرمات ، فقد أصبح من السهل على نساء المجرمين وبناتهم اللواتي يردن اللحاق بآبائهن وأزواجهن أن يأتين إلي هنا بفضل الإدارة المركزية للسجون ، والأسطول الذي شق طريقا مريحا بين القسم الأوروبي من روسيا و سخالين . منذ فترة قصيرة ، لحقت امرأة طوعا بزوجها ، فكان نصيبها إشباع حاجة ثلاثين مجرما . وفي الوقت الحالي فإن وجود نساء من هذا النوع الحر أصبح أمرا مميزا للجزيرة ، وغدا من الصعب أن نتصور مراكز سكانية مثل :" ريكوفسكي " ، أو " نوفو- ميخايل! وفكا " بدون تلك الشخصيات المأساوية التي " جاءت لكي تتدارك حياة زوجها ، ففقدت حياتها هي ". من هذه الزاوية قد تشغل سخالين موقعا متقدما بين المنافي عبر التاريخ .

وسأبدأ بالنساء اللواتي حكم عليهن بالأشغال الشاقة . في الأول من يناير عام 1890 كانت نسبة النساء المجرمات في المناطق الثلاث بالجزيرة تساوي تحديدا 5 ر11% من إجمالي المحكوم عليهم . ومن وجهة النظر الاستعمارية كانت لتلك النساء ميزة هامة : فكلهن يأتين إلي الجزيرة نسبيا في عمر الشباب ، والغالبية العظمى منهن نساء من النوع الحار ، حكم عليهن بسبب جرائم الحب الرومانسي، أو جرائم ذات طابع عائلي ، تقول الواحدة منهن : " جئت لأني قتلت زوجي " ، أو تقول : " جئت لأني قتلت حماتي " ، كلهن قاتلات ، ضحايا للحب ، أو الاستبداد الأسري ، وحتى اللواتي جئن بسبب إضرام حريق ، أو تزييف نقود ، حكم عليهن في واقع الأمر من أجل الحب ، لأن العشاق هم الذين اجتذبوهن للجريمة . إن عنصر الغرام يقوم بالدور الحاسم في وجودهن المحزن قبل وبعد المحاكمة . وفي رحلة السفن وهي تنقل النساء إلي المنفى ، تروج بينهن شائعة أنهم ف! ي سخالين سيزوجونهن غصبا عنهن . ويشعرن بقلق شديد من جراء ذلك . وقد حدث أن بعضا من أولئك النساء توجهن برجاء إلي إدارة السفينة للتدخل ومنع تزويجهن بالقوة . ومنذ نحو 15-20 سنة مضت ، كانت النساء المحكوم عليهن بالأشغال الشاقة يلتحقن ببيت للدعارة فور أن يهبطن إلي الجزيرة . وقد كتب فلاسوف في تقرير له يقول : " في جنوب سخالين يتم تسكين النساء في الجناح الذي تقع فيه المخابز ، ثم أصدر مدير الجزيرة أمره بتحويل القسم النسائي إلي بيت للدعارة " . أما الحديث عن عمل ما فلم يكن أمرا واردا ، ذلك أن النساء المذنبات أو اللواتي لا يستأهلن نعيم الرجال كن وحدهن يخدمن في المطبخ ، أما الأخريات فكن يشبعن الاحتياجات ، ويسكرن إلي الثمالة ، وفي نهاية المطاف كانت النساء – حسبما كتب فلاسوف – يبلغن من العهر أنهن في نوبة سكر يبعن أطفالهن من أجل قليل من الكحول .

الآن حين تصل دفعة من النساء فإنهم يسيرون بهن فيما يشبه الاحتفال من رصيف الميناء حتى السجن . على الطريق تجرجر النساء بتعب أقدامهن ، منحنيات تحت وطأة الحقائب والأربطة ، لم يثبن بعد إلي رشدهن من أمراض البحر ، وخلفهن يمضي حشد من النسوة والرجال والأولاد وأفراد من الإدارة ، كما يحدث في الأسواق عند عرض للمهرج .. الرجال المستوطنون يسيرون في الحشد وفي رؤوسهم فكرة واضحة بسيطة : لابد لنا من امرأة للبيت . أما النساء فينظرن إن كانت في الدفعة الجديدة امرأة من القرى التي جئن هن منها . أما الكتبة والمفتشون فيبحثن عن " البنات ". هذا المشهد يحدث عادة عند المساء . توضع النساء في زنزانة تم إعدادها من قبل ويغلق عليهن الباب . ثم تنطلق الأحاديث طيلة الليل بين الرجال في السجن والمركز عن الدفعة الجديدة من النسوة ، وعن روعة الحياة العائلية ، وعن أنه يستحيل تدبير شئون البيت والحياة من دون امرأة . في الليالي الأولى ، والسفينة مازالت في المينا! ء لم ترجع بعد ، تمضي عملية تقسيم النساء على المناطق . يبدأ التقسيم الموظفون الكبار ، وتحصل المناطق التابعة لهم على نصيب الأسد من حيث الكمية أو النوعية ، وتحصل المناطق الأبعد قليلا على الأقل جودة ، أما في الشمال فتجري عملية انتقاء دقيقة جدا : هنا كأنما عبر فلتر للتنقية تظل فقط الأكثر شبابا وجمالا . ولذلك فإن الحياة في جنوب سخالين تكون عادة من نصيب العجائز تقريبا ، أو اللواتي " لا يستأهلن نعيم الرجال " .

في مركز " كورساكوف " توضع النساء القادمات لتوهن في بناية خشبية خاصة . ويقرر مدير المنطقة والمشرف على القرية من هو الفلاح أو المستوطن الذي يستحق الحصول على امرأة . وعادة ما تكون الأولوية للرجال الذين يدبرون شئونهم ويعتنون بأكواخهم ، ذوى السلوك الحسن . ويصل لتلك الصفوة القليلة العدد أمر بالحضور في يوم محدد وساعة معينة إلي السجن في المركز لاستلام النسوة . وفي اليوم المحدد ، على امتداد الطريق العمومي نحو المركز ترى ، هنا وهناك " الخطباء " حسبما يطلقون عليهم هنا بنوع من السخرية : أحدهم يرتدي قميصا أحمر ، والآخر يضع على رأسه قبعة غير عادية ، والثالث في حذاء لامع بكعب عال اشتراه منذ فترة قصيرة في وضع وفي مكان مجهول . وحين يصل الرجال جميعا إلي المركز يدخلونهم معا إلي البناية الخشبية و يتركوهم فيها مع النساء . وفي الربع أو النصف ساعة الأولى يدفع المرء من الخجل والحرج إتاوة الزواج . يتسكع الرجال صامتين وهم يختلسون النظ! ر بصرامة إلي وجوه النسوة ، وينتقي كل واحد : المهم ألا يكون أنفها في السماء ، ألا تكون ابتسامتها مستهزئة،

أن تكون جادة تماما ، تشعر بالعطف على قبح الرجال ، وسنهم المتقدمة ، وهيئتهم كمحكوم عليهم . يتسكع الرجل ويحدق ويريد أن يخمن من وجوه النسوة : أية واحدة منهن تصلح ربة دار طيبة ؟ هل واحدة من الشابات ؟ أم من المتقدمات في السن ؟ يجلس بالقرب من واحدة ويشرع في مخاطبتها بكلام من قلبه . تسأله : هل عنده إبريق للشاي ؟ وبم غطى سقف الكوخ ؟ بالتبن أم بألواح الخشب ؟ . يجيبها الرجل أن لديه إبريقا ، وحصانا ، وعجلة عمرها سنتين ، وأن الكوخ مسقوف بألواح خشبية . وبعد ذلك الاختبار وحين يشعر الاثنان بأن كل شيء على ما يرام ، تحزم المرأة أمرها وتسأله : طيب ، ولكن .. ألن تسيء معاملتي ؟ " .


مشاركة منتدى

  • أتوجه بالشكر إلى كل من الأستاذين أحمد الخميسى وعادل سالم . الأول لكتابته المقال الذى جذبنى بطريقة عرضه وبساطته فاستوعبت ما أراد أن يقوله عن أستاذ كل من تعلم كتابة القصة القصيرة فى العالم أجمع ، والثانى لأنه عرض علينا المقال للاستفادة بالمعلومة ، أجزل الله لهما الثواب على ما قدماه لنا .
    ولكن .. يقول المقال أن أول من قدم تشيخوف إلى قراء العربية هو الفلسطينى نجاتى صدقى فى سلسلة " إقرأ " بالقاهرة عام 1947 .
    ولكنى أقول بأن محمود البدوى سبق النجاتى فى هذا الميدان فقد كان ينشر قصصه المترجمه فى مجلة الرسالة للزيات ، وقد نشر قصص تشيكوف .. قصة " الجورب الوردى " ونشرت بالعدد 20 فى 1|12|1933 ، وقصة " صــه " ونشرت بالعدد 23 فى 11|12|1933 ، وقصة " من غير عنوان " ونشرت بالعدد 24 فى 18 |12| 1933 ، وقصة " أعصاب " ونشرت بالعدد 162 فى 10|8|1936 00000 وسبب كثرة اعمال البدوى المترجمة من الأدب الروسى ، هو لأن الأدب الروسى عموما أقرب الآداب الانسانية إلى طبيعتنا وأمسه باحساساتنا مع تحليل رائع ووصف دقيق ، وكان البدوى بطبيعته يميل إلى القصص التحليلى العميق .
    وأكرر شكرى على ماقدمتم لنا على المائدة من غذاء للعقل .
    على عبد اللطيف
    القاهرة فى 1|10|2004

  • أتوجه بالشكر إلى كل من الأستاذين أحمد الخميسى وعادل سالم . الأول لكتابته المقال الذى جذبنى بطريقة عرضه وبساطته فاستوعبت ما أراد أن يقوله عن أستاذ كل من تعلم كتابة القصة القصيرة فى العالم أجمع ، والثانى لأنه عرض علينا المقال للاستفادة بالمعلومة ، أجزل الله لهما الثواب على ما قدماه لنا .
    ولكن .. يقول المقال أن أول من قدم تشيخوف إلى قراء العربية هو الفلسطينى نجاتى صدقى فى سلسلة " إقرأ " بالقاهرة عام 1947 .
    ولكنى أقول بأن محمود البدوى سبق النجاتى فى هذا الميدان فقد كان ينشر قصصه المترجمه فى مجلة الرسالة للزيات ، وقد نشر قصص تشيكوف .. قصة " الجورب الوردى " ونشرت بالعدد 20 فى 1|12|1933 ، وقصة " صــه " ونشرت بالعدد 23 فى 11|12|1933 ، وقصة " من غير عنوان " ونشرت بالعدد 24 فى 18 |12| 1933 ، وقصة " أعصاب " ونشرت بالعدد 162 فى 10|8|1936 00000 وسبب كثرة اعمال البدوى المترجمة من الأدب الروسى ، هو لأن الأدب الروسى عموما أقرب الآداب الانسانية إلى طبيعتنا وأمسه باحساساتنا مع تحليل رائع ووصف دقيق ، وكان البدوى بطبيعته يميل إلى القصص التحليلى العميق .
    وأكرر شكرى على ماقدمتم لنا على المائدة من غذاء للعقل .
    على عبد اللطيف
    القاهرة فى 1|10|2004

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى