الجمعة ٩ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم عمر حمَّش

العودةُ إلى مَجدل عَسقلان

في فجر حائر هبّت العجوز إ
في فجر حائر!
سحبت ثوبا مخبوءا منذ عقود
في نول المجدل نسجه المقصوفُ
تخرجه الآن موشّى، أخضر، فأحمر
جنّة فنار
القبّة على الصّدر الضّامر مربّعة
وعلى الرأس المرتجّ المِنديلُ حرير
وتعود أمّ التسعين مهرولة
إلى مَجدلِ عَسقلان!
قررت العودة إلى أخرِ مشهدٍ في الدنيا
دبكة معقودة قُدام البحر!
تحجلُ فيها
في وادي النّملِ!
وتهزُّ الصدر النافر َبذات الثوب
أمام الزوج
في عُرسٍ راقصٍ لبنتِ الجيران!
رأته الآن يجيء!
على خاصرته يعقد يُمناه
ويحرك ساقيه
يتمايلُ، ثمّ يحتدّ
ليدقّ الأرضَ
بضرباتٍ موزونة!
والى الزفة يجيء القصفُ!
القصفُ يجيء!
القصفُ!
القص!
فْ!
تمزقت الزفةُ، والحشدُ تناثرَ!
وتحتَ التوتةِ همدتْ مذهولة!
ببطنِ الجذع!
الآن تعودُ، فيبتسمُ الفجر!
قالت ليدِها العجفاءِ، وهي تلوح:
ندم الشيطانُ!
قالت ليدها: خرجَ اليهودُ!
تاب منْ لا يتوبُ!
ورأت العجوزُ ورودا تسكنُ عينيها!
فهتفتْ متراقصةً:
الدنيا ورد!
ورد!
ور
د!
* * * * *
وعصفور في الفجرِ ينادي!
الابن يصرخ، فيهُبوا!
خرجت العجوزُ!
فعلتها!
هرولَ للصندوقِ المتصديءِ!
فما وجد المفتاح!
قالت: سأعود!
الابنُ دوما متهيئ، والكنّةُ، والأحفاد!
فعلتها!
هاموا في الطرقات، انضمّ اللاجئون!
إذاعات صاحتْ، ومساجدُ صارت تعلن!
البناتُ وصلنَ مع الأزواج!
تباعدوا واقتربوا، تعاتبوا، وتشاجروا!
صاحَ الابنُ: هلكنا!
الفصائلُ خجلى جاءتْ، والأحزابُ
أصحابُ لِحى، وعلمانيون!
لكنّ الشمسَ ابتعدتْ!
في حلقِ الابنِ اللهبُ
وفي ساقيهِ اشتعلتْ نار!
* * * * *
الشيطانُ زيّن لها شعبا يعود!
جموعا محملةً، وجموعا تسير!
رقصوا على رجف الطبول!
وفي الرأس المهتزّ احتدّت زغاريد!
شوشانا الصفراء في الغيم أيضا جاءت!
هيّا شوشانا
خذي ما جلبتي!
خذي معك استر، خذي راحيل!
وجاءت أواخر أيام!
شوشانا في المجدل تقبض رأس البصل مقابل دلو الرمل!
يا شوشانا هاتي الرمل، لأجلي بعض أوان!
ابتعد الرمل يا شوشانا!
ابتعد الرمل!
شوشانا تشترط أن تقبض رأس البصل!
لتتمّ الأمر!
هيّا شوشانا إلى بلاد المروك عودي!
أزف الوقت!
يا مروكية عودي!
وشوشانا خلف سياج، كانت ترقص يوما مع راحيل:
إحنا بنات الهاجانا
سبع ملوك ما تلقانا
صيّفنا في فلسطين
وشرق الأردن مشتانا!
وتصيح العجوز الآن
مشهرة المفتاح!
هذا نحن يا شوشانا!
جئنا
نحضن دورنا
ونقبّل باحات جامعنا المملوكيّ!
يا شوشانا!
والعائدة صارت تتحسس جنبات الجامع!
فتأتي خطوات الغائب!
يتبختر بحزامه الشاميّ
وعلى الكتف تستلقي عباءته!
وعن بعد بعيد لثمت مواطئ قدميه!
و جنبات الديوان!
الشارع المؤدي للميدان!
شجرة زينة استندت عليها معه!
ورأت باب الدكان، كائنا كما كان!
رأت البيع فيه والشراء!
من حوانيت يافا بضاعته!
وحرير الأنوال!
ولحظات صفوة كانت تأتي!
يغلق المقصوف الباب، ليأخذها صبيّة بعمر الورد!
بتشممها!
ويشعل فيها النار!
وتعود شوشانا مع اليهوديات تغني!
محمد مات!
مات، مات!
خلّف بنات!
بنات!
فينشقّ القلب!
شوشانا كانت تصفق مع المجلوبات الكفوف!
وللصبيّة يهززن عجيزات يائسات!
 
* * * * *
 
كأسطوانة دار الابن، ونشف الحلق
ارتجّت ساقاه!
العتمة صارت غولا، وليس في مرمى العين أمل!
عادت العجوز!
كيف تعود؟
كان يقول:
اليهود في المجدل يا أمّي!
تصرخ دوما شاردة:
يا شيخ عوض!!
ومقام الشيخ!
لم تأته الدراويش منذ عقود!
ويراوده خاطر أن يخبرها :
عراة يأتون الضريح!
صار خلوة بهم تضجّ!
بالبحر شيخنا يستجير
فيناديه البحر
والشيخ يردّ:
خذني!
تصيح:
دستور يا شيخ!
لكنّ الشيخ يغور!
يهوي أسفل سيقان المخمورين!
يلاطمه نباح وشبق الموتورين!
وتلتاع العجوز!
أعود لساعة سعيّ في وادي النّمل!
وأموت راضية على رأس الضريح!
ووادي النمل بطاح يا أمّي
بلا جموع!
بلا أغان، ولا طقوس!
العجوز لا تسمع من الدنيا سوى الطنين!
وليس في عينيها سوى المشهد الأخير!
في صدر الابن وقفت أفعى تنوح
ثمّ صارت تصيح!
 
* * * * *
 
المفتاح!
تتصلب يدها على المفتاح!
بعد قليل ترى هربيا!
ستوقف فيها هذي الجموع!
تصلي شاكرة ربّ الكون المعبود
تخطو أوّل خطوة في الفردوس!
لا تأكلّ الجميز، بل تمتص!
تتذوق بلسان صائم قطرا عاد!
وبكت العجوز لمرأى هربيا!
وأشهرت حدّ المفتاح كسيف!
ورأت (بربرة) بعدها على خطوات!
فغنّت بصوت صادح:
بربراوي يا عنب!
وأشاحت بيدها منتشية:
يا عنب
يا ع
ن
ب
وارتمت على رمل الدالية الأولى!
تعانق باكية في غصنها الذهب!
لكن عسقلان هتفت:
تعالي!
فصاحت مصعوقة تجري:
يا مجدل!
وانطلقت العجوز بلا حشود
إلى الحدود المدرعة!
في عينيها الزغاريد!
وفي رأسها رجف الطبول!
وفي العتمة كانت عيون
تربض في قصبة حديد!
فيها أولاد من شوشانا!
ومن وراحيل!
قناصة يعتلون الثكنة العالية!
أبناء عجيزات يوما تراقصن!
غنين:
محمد مات!
مات، مات!
خلّف بنات
بنات!
وانفجر الصوت!
والعجوز ترنحت مشرقة
في الليل!
نامت، ترنو مبتسمة!
وحدّ المفتاح المشهر بيدها
يتراقص مثل سيف!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى