السبت ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

الغائب

أيها الغائب عن مدينتي العذراء الحالمة سأنقش محياك الستيني فوق المحار، فوق جدار الذكريات، فوق سنواتي الظامئة لذرات الحنان، المتعطشة لدفء الوجود، سأرسمك بلا فوضى، بلا ضجر، وفرح ملائكي مبهر يحتويني، ويضرب بجناحيه المرفرفين مكاني الوديع الحبيب.

أنقشك بتأن، وصبر جميل في ساحة ذاكرتي، في شواطىء عمري البكر التي تزخر انتظارا، وتتلطخ شوقا، ولهفة، ومعاناة.

أيها الغائب عن وجه مدينتي المضرج حياء وحلاوة، عن لون سمائي الأزلي، إنك تحيا في شريان وجودي، تبحر كالزورق الجامح في نبضات عروقي، وشلالات عواطفي، وصدق أحلامي. بحضورك الأمثل تخضر دنياي العطشى الكسيحة، وتتبرعم عن أزهار برية غضة تلثمها شفاه الندى بعشقها الأبدي.

تلفعت أحلامي الوردية الشذية خمارا ملونا يضاهي قوس قزح، وعانقت بكل شغف دفئك الصاخب طفلة جامحة تحلم بوهج العيد، ومؤانسة الأحبة، ومروجا زاهية خضراء تتوسدها من غير مقابل.

سأضفر من بعادك المؤلم جدائل شوق تزينني، وأبقى مترقبة عودتك ونار الإنتظار تنهش أيامي المشلولة التي سممها صقيع القلق، وزمهرير الألم.

كم كنت أتصورك قادما تعبر درب مدينتي وفي عينيك الصافيتين كصفاء البلور تنمو أحلام الغد وهي ترفل في ثوب سندسي قشيب، وبين شفتيك تشتعل فوانيس السعادة فتبدع أشجارا سامقة وارفة من لوز، وتفاح، ورمان.

تعلو وجهي المرهق فرحة سرمدية معشوشبة، ويشع قلبي المريض أملا، وأكاد أصيح بملء صوتي:لقد عاد، لقد عاد.

سنواتي كلها لم تشك معك مرارة الوحدة في محكمة الحياة.

كانت كلها رحلات، ومحطات.
كانت كلها أعيادا وابتهاجات، وأسفارا في ثنايا الحلم القزحي الجميل.

الحزن القاتم لم يبارح كبدي، ولا مسامات الجسد، ولا بروج أحلامي العتيقة التي تهدمت، وتقوضت، لن أتذوق قطرات الهناء مادام حضورك ملغى ومفقودا.

فراقك المباغت يؤلمني بحرابه، ويسكنني إلى حد التوهان، إلى حد الغرق.
أنت الأغنية ذات الترنيمة الخالدة، وأنت الصبر الجميل.ها أنت ذا رحلت بعدما سئم السرير منك، ولكن أنا لم أسأم منك.كنت معك أتصنت لألمك، وحشرجة صوتك، وعذابك، أؤازرك، وأشد على يدك لتقوى وتتصلب، لتشحذ همتك في مواجهة المرض، في قهر عدوك الداء.

لكن الداء المتعنت كان أقوى مني ومنك، فاختطفك الموت، وابتلعك فمه الفاغر، بعادك زلزل كياني، آلمني في الصميم، غمر ذاتي رياحا صقيعية مدمرة من البرد، والقصف، والتظلم.مازلت أكن لك في قلبي ود الأيام، وبهجة اللقاء، وطرافة الصداقة، وعلاقة الحب.

كنت أحبك ومازلت رغم الظروف، ورغم الطقوس التي تصحو وتعتل.حياتك مع أمي طولا وعرضا كانت رحلة جميلة، ناصعة، متألقة، ومباركة.كنتما متلاحمين كجسد واحد، متلازمين كالظل الظليل لا يقوى أحدكما على مفارقة الآخر، وكنتما عشية تجلسان إلى بعضكما وأنتما تترشفان قهوتكما، وتتلذذان نكهتها المميزة في فناء الدار على الكرسي الرخامي الطويل.

لو كنت مسافرا على متن باخرة، أو على ظهر موجة سأنتظرك في واحة الحياة، فوق خشبة الدهر، سأنتظرك صباح مساء حين يعلوني الشوق، والكبت، والمعاناة، سأصلي في محراب الصمت مرارا وتكرارا لعلك تسمع نشيجي المتقطع وتعود.الآلام الشرهة نشبت في صدري معركة حامية لا تهدأ، هل من أحبة بعدك يؤانسونني في درب الوحدة، ومسالك الغربة، وأنفاق الفراغ، ويفهمونني على سجيتي المطلقة؟

إني أشك فالأمر صعب.
لو كنت على قيد الحياة، وأعلنت عن عودتك الميمونة من أغوار السنين لنظمت لك الورد في أبهى حلة، ولزينت البيت طربا، وتصفيقا، ورقصا، ولانتظرتك أمام عتبة الدار، ولألقيت على مسامعك خاطرتي هذه التي سطرتها أناملي وأنا في أوج الغربة، والإحتراق.

ولكنك لن تعود، ولن تعود، ولن تعود أبدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى