الجمعة ٢٥ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم زاهية بنت البحر

الغبي

لست مجنونًا ولا غبيًا، رغم إحساسي بأنني أختلف عن الناس بشكلٍ أو بآخر، قد يكون شعوري هذا نعمة، أو نقمة، أعترف بعجزي عن معرفة أيهما يكون، أحاول أن أعرف، ولكنني أفشل دائمًا لأمرٍ أجهله، يتملكني حب الاستطلاع بشراهة عجيبة، إن فكرت بأمرٍ ما، لا أرتاح قبل أن أخوضَ فيه، قد أجنُّ إن لم أصل لما أريد، وبأسرع وقت ممكن، و قلَّما وصلت لما أريد.

تقول أمي عني (بصلته محروقة، بس هادي!). ورغم هدوئي الذي يثير استغراب والدتي، فإنني أغلي من الداخل كماء المرجل، حسبما يقول والدي، وكأنه يلمس حرارته بيده، فيعرِّض نفسه لهجوم دفاعي شرس شفقة منها علي وتحسرًا، سمعتها تقول ذلك لأختي سهيلة ذات يوم عندما كانت في زيارتنا مع أولادها الثلاثة، فقد تعودت المجيء إلينا مرتين في الأسبوع خاصة بعد زواج أختي الصغرى حليمة لابن خالي المهندس علي، وسفرهما إلى المهجر منذ ثلاث سنوات.

لم أدع لهما مجالا للشك بأنني سمعت ما دار بينهما من حديث الشفقة والحسرة رغم ماسببه لي من ضيق، لا أدري ماذا ينقصني عن الناس كي أثير في قلبها هذا الشعور المهين! بلعتُ الألم على مضض بما لدي من مقدرة على ضبط النفس، فلا أظهر ما بداخلي لأحد، أتركهم يخمنون أمورًا كثيرة تبعدني عن دائرة الضوء خاصتهم، لرفضي أن أكون محط أنظار الآخرين المربكة لحركتي بنظراتهم المتطفلة، وأسئلتهم الغريبة التي لا تنتهي، أو ربما يخيل إلي ذلك، هذا ما كنت أشعر به ولا أدري له سببًا. كنت أبتسم في وجه خصمي أيًا كان، وأنا كاره له وأتمنى موته.

ابن أختي الأكبر رامي هو صديقي رغم فارق السن بيننا. عندما ولدته أمه كنت في العاشرة من العمر، فرحت به كثيرًا بل طرت معه إلى ما فوق السحاب، حسبته أخًا ولدته أمي وليست سهيلةـ فأنا آخر العنقود، وبحاجة لأخ صغير يسليني، ذهب بي خيالي بعيدا فرأيته شابًا يرافقني أينما أذهب، أحدثه بما أحب وبما لا أحب، أساعده في دروسه، أغسل وجهه وأسرح شعره، سأحتفظ له بالجميل من ملابسي فيرتديها عندما يكبر، سأ دلله كثيرًا، ولن أسمح لأحد أبدا بإزعاجه.

أذكر كيف وضعته أمي في حضني بعد أن ألبسوه ثيابا بيضاء، كان وجهه صغيرًا جدا وأحمر اللون، في ذقنه طابع بحجم حبة حمص، ألبسوه في رأسه طاقية بيضاء أخاطتها أمي- فرحًا بحفيدها الأول الذي سيجعلها جدة – يحيط بها شريط من الساتان الأزرق الذي أحسسته حريريًا ناعم الملمس وأنا أمرر أصابعي عليه، لا أدري ما الذي جعلني ألفُّهُ حول عنق رامي وأنا أداعبه، ورحتُ أشد الشريط بقوة، رأتني أمي بالتفاتة منها، فصرخت بي بصوتٍ عالٍ لفت انتباه الحضور.

يومها أنَّبتني بقسوة، وهي تبعد الشريط عن رقبة رامي خشية اختناقه. كان منظره مخيفًا، ازرق وجهه للحظات، وسرت في جسده رعشة، ما لبست أن انتقلت منه إلى جسدي إثر صراخ أمي وتأنيبها المربك لي أمام الحضور.

في ذلك اليوم انتابتني مشاعر شتى، ما زالت تعاودني بين وقتٍ وآخر، وصوت أمي يرن في أذني (راح تطلع روح الولد يا غبي). ومنذ ذلك اليوم والجميع يتندرون بالحادثة، وفي نهاية الكلام يقولون: (يا له من غبي كاد يخرج بروح الولد). أحقًا أنا غبي؟ وهل ستخرج الروح بيدي، وأنا لا أعرف ماهي ولا كيف سأمسكها؟ فبات عندي هاجس لمعرفة الروح، وكيف تخرج، ومن أين.

شاعت قصة محاولة خنق رامي بين جميع أفراد أسرتنا، وانتقلت إلى بعض بيوت الحارة، وراح الجميع يتناقلونها ويتندرون بها وينتهون بالقول (ياله من غبي كاد يطلع بروح الولد). بت أسمعها كثيرًا في البيت وفي الحارة، وحتى في المدرسة، بعد أن راح عادل صلاح ابن أخت جارتنا سعدية الملوم يسخر مني، مشيرًا إلي بأصبعه قائلا للتلاميذ (شوفوا الغبي)، فيضحك التلاميذ وألوذ بالفرار خجلا وغضبا، خجلا وغضبًا.

ذات يوم انزويت قرب مرحاض المدرسة، وأنا أبكي إثر استهزاء عادل والطلاب بي، فجأة رأيته يسرع نحوي ساخرًا، تمنيت لو أنه يقع ميتًا قبل أن يصل إلي، لكنه للأسف لم يمت بل وقف أمامي كعامود الكهرباء، سألني باستفزاز عما يبكيني، لم أجبْ، كرر السؤال، لم أجب، أمسك بي وأدخلني المرحاض رغمًا عني، هددني بالخنق إن لم أخبره لماذا أبكي.

يا إلهي ما أوقحه لقد جعل نفسه ولي أمرٍ علي بانفراده بي، وضعفي وقلة حيلتي، لم أجد من يخلصني من قبضته حيث يقع المرحاض في الجهة الجنوبية من باحة المدرسة التي يلعب فيها التلاميذ بعيدًا عن الصفوف، ولسوء حظي لم يأتِ أحد إلى هنا رغم أن جميع الطلاب كانوا قبل قليل يشربون الماء بغزارة من الحنفية المخصصة لهم في الباحة.

كنت في الحادية عشرة من العمر بينما هو في الرابعة عشرة، رسب عدة سنوات في مختلف الصفوف الابتدائية، طويل الجسم عريض المنكبين، يداه مفتولتا العضلات، أخبرني سليم الحمدي زميلنا في الصف، بأن عادل يذهب إلى نادٍ رياضي لتقوية جسمه مع مدرب الرياضة، لم يهمني الأمر لأن صاحبه يكبرني بعدة سنوات، ويستطيع الذهاب إلى أي مكانٍ يريد، وهو أميل إلى الرجولة منه إلى الطفولة، خط شارباه، وخشن صوته بشكل مزعج يثير اشمئزازي، فاضطررت أمام تهديده وفشلي بالتهرب منه إلى قول ما كان يبكيني، وهو ينصت إلى باهتمام (أنا لست أهبلا).

نظرت في وجهه وأنا أمسح دموعي، رأيته مخيفًا، حاد النظرات، أمسك بي بقسوة، ووعدني بألا يناديني بالأهبل أبدًا، بل سيضرب كل من يناديني به، أو يسيء إلي بشيء إن أنا طاوعته فيما يريده منى على أن يبقى الأمر سرًا بيننا.

منذ ذلك اليوم وأنا أكره نفسي، وأكره (عادل) الذي بات يلاحقني في المدرسة، وخارجها، وإن رفضت طلبه هددني بإخبار أهلي بما كان بيننا.
لم أعد أحب المدرسة، تمنيت الموت على بقائي فيها، طلبت من أمي ألا ترسلني إليها فلم تستجب لي، وأيد والدي بحزم رأي أمي، بحجة أن المدرسة قريبة من البيت، ولا تحتاج لوسيلة نقل توصلني إليها، إضافة إلى أن الإنسان اليوم لاينفع شيئًا دون علم، وأن عهد الجهل قد انتهى، ، وهو يريدني أن أرفع رأس العائلة عاليًا بين الناس.

لم تفلح محاولات والدَي في إثنائي عن ترك المدرسة، ضُرِبتُ وأهنتُ، ولكنني لم أتخلَ عن رفضي لها، فرضخ والدَي للأمر الواقع بعد أن أصبت بالسحايا، وفقدت قدرتي على الكلام بطلاقة، فانصاع لرغبتي خشية جرح مشاعري من قبل الطلاب إن هم سخروا من تأتأتي بالكلام، دون أن يتقصَّيا منذ بداية الأمر عن السبب الجوهري لرغبتي قي ترك المدرسة.

لم أعد أر (عادل) إلا عندما أكون في الطريق مع أمي أو أبي، أو أخي، فأطرق رأسي أرضًا أو أتجاهله، وإن وقع نظري عليه مصادفة رمقني بوقاحة دون أن يقترب مني، وأحيانا كان يشير إلي برأسه إشارة ماكرة، فأشيح بوجهي عنه.

بدأ جسمي يعلو طولا، ويكتنز لحمًا، ومشاعري تنمو، ومداركي تتفتح، ويدايا تقويان، ولكن ظل أمرُ عادل قابعًا في رأسي، يؤرقني بلؤم مؤلم، أحببتُ أن أتخلص من هاجسه الذي يلاحقني كلما رأيت طفلا صغيرًا يسير وحيدا في الشارع، أو مرَّ بي رجلٌ تشبه ملامحه (عادل) الذي مات في حادث سيارة غامض ذات ليل، ودفن بعد أن شوهت جثته، لاأخفي سرًا إن اعترفت بأنني حزنت عليه إذ مات قبل أن أقتله بيدي.

عندما كنت أذهب مع والدي إلى متجره، وأساعده في بعض الأعمال هناك، كنت أحس باحتقاري لنفسي، وأنا أرى الناس تكبر والدي، وتناديه بالحاج محمود إحترامًا له وتقديرًا ، فقد عرف بحسن السيرة وسمو الأخلاق، فأزدادُ لها مقتًا، وأصاب بنوبة مزعجة عندما أستعيد مامرَّ بي، فأترك المتجر، وأبي يناديني غاضبًا، وأعود إلى البيت قبل أن يفضح أحد أمري ممن قد يكون عادل قد أسرَّ لهم به كما يخيل إلي، فيخبر أبي وتكون كارثة قد تتسبب في موته أو قتلي، فكنت أتسكع في الشوارع قلقًا في محاولة للهروب من ذكريات الطفولة الكريهة المؤلمة.

ذات يوم وأنا في هجمة الذكريات البشعة هذه، والدنيا سوداء بناظري، مررت في إحدى الحارات القديمة عبر طريق يودي إلى بيتنا، فوجدت بناءًا كبيرًا يرتفع فيها، لا أدري ما الذي جعلني أقف بعض الوقت وأنا أتفحصه جيدا، قبل مدة لم يكن موجودًا، كانت مكانه حديقة صغيرة يلعب فيها الأطفال، وهي قريبة من بيت أختي سهيلة، الشوارع تتبدل فيها الأبنية سريعًا كالنفوس التي تتغير فيها المشاعر. اتجهت إلى باب المبنى الرئيسي، وصعدت الدرج باتجاه الطابق الأول فالثاني فالثالث. كانت العمارة خالية من العمال ولا يوجد فيها حارس..

عمارة ضخمة تحتاج لوقت طويل ريثما تصبح جاهزة للسكن. شعرت بوحشة ، فنزلت منها بعد أن ألقيت نظرة على ما يحيطها من بيوت غير ملتصقة بها. لابد أنها كلفت صاحبها الكثير من المال، وعندما دخلت بيتنا، استقبلتني أختي سهيلة بالترحيب، قبلتني وهي تدفع إلي بابنتها رغد كي أحملها بعض الوقت، ريثما تعود وأمي من عيادة طبيب الأسنان، فقد حرمها ضرسها النوم ليلة أمس وتريد أن تقلعه. أخذت رغد ورحت ألاعبها بينما تجمع حولي أخواها لمشاركتنا اللعب.

كان الجو باردا لم تستطع المدفأة بث الدفء في جسدي عند عودتي إلى البيت، ولكن كثرة الحركة مع الأولاد جعلتني أتخلص من قرص البرد، حتى أنني كنت في بعض الأوقات أمسح العرق عن جبيني بيدي، ورغد تضحك بسعادة، وأنا أدفعها في الهواء وأتلقاها منه ثانية. رأيت بعض حبات عرق تلمع فوق جبينها، فتزيدها جمالا وبعض شعرات ذهبية تتدلى من تحت الطاقية ٌالبيضاء المحاطة بشريط من الساتان الزهري غطت بها أمها رأسها طلبًا للدفء.

جلست فوق الكرسي ورحت أمسح العرق عن جبينها بمنديل ورقي، وأنظف أنفها من مفرزاته دون أن أشعر بالقرف، كانت تضحك وأنا أدغدغها في ذقنها، ضممتها إلى صدري.. قبلتها، وأنا أبعدها عني وقعت عيناي على شريط الساتان الزهري، فرحت ألعب بطرفيه المحيطين بعنقها، لامست أصابعي نعومته بينما كانت أصابع رغد تخرمش يدي بأظافرها، و رامي يدغدغها وهي تضحك بعذوبة. أغرق بذكريات الطفولة، رامي وليدًا، طاقية بيضاء، شريط ساتان أزرق، كاد يختنق، أمي تأنبني (راح تطلع روح الولد يا غبي)،
صوت عادل (شوفو الغبي)..

رغد تهبش بوجهي فيؤلمني ظفرها، ألقي بها فوق الكنبة، تبكي، أمشي في البيت دون وعي، أصوات ترن في أذني: مات عادل ، مات عادل.

صوت أمي يؤنبني (راح تطلع روح الولد يا غبي)،

صوت عادل وقهقهته (شوفوا الغبي) (لا تخبر أحدا بما حدث بيننا

رامي يهرع إلى الباب يريد الخروج من البيت، ألحق به، لاأدري ماذا أصابه فقد بدا خائفا مني.. أمسك بيده وأنزل به إلى الطريق بعد أن أغلقت الباب ورائي، خطرت في بالي فكرة سأنقذها فورًا، وقبل مغادرة الحارة كانت أمي وسهيلة تدخلانها. عدت معهما إلى البيت، وأنا أمسك بيد رامي بعد أن هدأوهدأتُ، أخبرتُ سهيلة بأنني كنت أنوي شراء بعض الأكلات الطيبة للأولاد، وكان رامي يضحك من كلامي الذي عرقلت نطقه تبعات حمى السحايا، فاغتظت ُمنه دون أن أبدي له ذلك.

بدأت حالتي النفسية تحير أهلي خاصة عندما كان يسخر مني أحد الأطفال، أو أحد ممن يدخلون متجر والدي للشراء، وكثيرًا ما كنت أختلي بنفسي وأفكر بما وصلت إليه من سوء حال، حاولت التخلص منها فما استطعت، بل هيَّجت ذكرياتِ الماضي، فأحسستها حبلا يلتف حول عنقي، طرفاه بيدَيْ عادل صلاح، يمتدُّ إلي من تحت التراب، وهو في قبره وليمة للدود والعفن.

ذات يوم خرجتُ إلى المقبرة، وقفت قرب قبره، ورحت أشتمه بصوت عالٍ حتى انتابني التعب، لكنني لم أحس براحة رغم أنني أفرغت محتوى مثانتي فوق قبره قبل عودتي إلى البيت.

حار فكري كيف سأنتقم من عادل وقد مات، راودتني فكرة فتح قبره والتمثيل به، لكنني لم أهضم هذه الفكرة كي لا أصاب بالغثيان من رائحة جيفته القذرة. كنت طفلا بريئًا أحب الجميع ولم يخطر ببالي أن أتعرض لشيء يفقدني راحة النفس، ونقاء القلب وحبي للناس، لم أقترف ذنبًا يجعلني أسير الألم مدى العمر، هم كانوا ينادونني بالغبي رغم أنني لست كذلك، بل ربما كنت غبيًا ولكنني لا أشعر بالغباء شأن كل الأطفال، فلم يرحموا طفولتي، لن أرتاح قبل أن أنتقم من عادل، ولكن كيف وقد مات؟ كيف؟

كنت أهرب من والدي عندما يدعوني لحضور صلاة الجمعة في مسجد المدينة، وعندما يجبرني على ذلك كنت أحس بالخجل من نفسي، وأنا أصلي فيداهمني شعور بوجوب قطع الصلاة، والعودة إلى البيت قبل أن يطردني الإمام، لأن صلاتي غير مقبولة حسب ما يخيل إلي، فكرت بكتابة رسالة سرية إلى إمام المسجد أحكي له فيها قصتي، وأطلب منه النصيحة، ولكنني خشيت أن يعرفني، فيخبر والدي، فدفنت الفكرة في مهدها. لن يريح نفسي إلا الانتقام وبنفس الطريقة، ولكن كيف أمن جيفة؟

اليوم الاثنين أيقظني أبي باكرًا للذهاب معه إلى المتجر لمساعدته في غياب أخي عارف، حيثُ يرقد في البيت مريضًا، وغدا وقفة عيد الأضحى المبارك والناس يتزاحمون على المتاجر لشراء لوازم العيد. خرجت معه وقمت بدوري خير قيام، إلى أن جاء قبل الظهر (معروف السرابي) زميلي في المدرسة لشراء بعض الحاجيات، وكنت قد انقطعتُ عن رؤيته منذ زمن طويل حيث سافر مع أهله إلى إحدى دول الخليج، وعاد شابًا، طويل الجسم، نحيله.

رحبتُ به، وخفضت له في سعر المبيعات، شكرني سعيدًا، وشدَّ على يدي وهو يهم بالخروج، فدعوته لزيارتي مرة ثانية فوعدني بذلك، لكنه وجه إلي طعنة قاتلة عندما قال لي هامسًا قبل مغادرة المتجر(عادل صلاح يسلم عليك، ويوصيك أن تكون معي كما كنت معه). غادر المتجر ضاحكًا، وغادرني الهدوء غاضبًا.

هممتُ باللحاق به، وقتله ثأرًا من عادل صلاح، ولكنني لم أجده، وكأن الأرض انشقت وابتلعته، ركضت في الطريق على غير هدى، وصوت عادل يضج في رأسي، فأسمع به أصواتًا شتى تناديني ، فأهرب، وأهرب والطريق تتسع أمامي، وأنا في صراع مع نفسي ومع الأصوات، ياللوغد لقد فضحني قبل أن يموت، أين المفر كانت معاناتي داخلية فاخترقتني للخارج، ستظل تلاحقني إلى الأبد، تزداد أعماقي انفعالا، تسقط الدموع من عيني، وأنا بين فكي الصراع المفترس أسمع نداء رقيقًا (خالو.. خالو).

التفت إلى مصدر الصوت، كان رامي ابن أختي، حدَّقت في وجهه وهو يبتسم ويقترب مني ممسكًا بيدي، وباليد الأخرى يحمل حقيبته المدرسية في طريق عودته إلى البيت، سرت معه وقلبي يخفق بشدة، وسُحب الغمِّ والغضب تحجب عن بصيرتي الرؤية، كان رامي يتكلم، لكنني لم أفقه شيئًا مما يقول، فجأة وجدت نفسي أمام العمارة الضخمة التي مازالت في طور البناء، توقفت بوازع خفي، نظرت إليها ثم في وجه رامي، تفقدت الطريق كانت خالية من المارة، أطبقت قبضتي على يد رامي، ودخلت به باب العمارة وهو يمشي معي باطمئنان.

صعدت به الدرج إلى الطابق الأول، فالثاني، أدخلته إلى غرفة جانبية مليئة بالرمل والإسمنت، خلعت عنه المعطف.. كممت به فمه، وهو يضحك كعادته عندما ألاعبه في البيت مع أخيه، وبقسوة وحشية أخذت ثأري به من عادل صلاح، ورامي يتلوى ألما، والدموع تغرق وجهه، والدم يبلل ملابسه، ازددتُ غليانا ورامي يئنُّ، سأقتلك ياعادل، سأرى كيف ستخرج روحك بين يدي، وأطبقت كفاي على عنق رامي الباكي المتألم، وأنا أضغط بكل قوتي فوقه، فأحسست بروحه تغادر جسده، دون أن أعرف ماهي ولا من أين تخرج، وصوت أمي يرنُّ في أذني مؤنبًا (راح تطلع روح الولد ياغبي).

******

قيل لي بأنه أول إنسان شنق في المدينة التي تمت فيها الجريمة
وقد ألقي القبض عليه عندما كتمت الشرطة نبأ اكتشاف الجثة عن طريق رائحتها،
وجاء متسللا لتفقد رامي ، فوقع صيدا بكمين نُصب له.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى