السبت ٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم نادية بيروك

الفرس ذو الرداء الفسيفسائي

أدب الطفل

خرطال وفير، وبهذه الجودة! على امتداد البصر وأبعد من ذلك، على مقربة منه، طعامه المفضل جاهز ليلتهمه ولكي يتلذذ به مع كل لقمة.
كم كان رائعا أن يحضى بوليمة كهذه! حسب ذاكرته كفرس، لم يسبق له أن شهد خيرا وفيرا كهذا من قبل. طيلة حياته، كان مدللا. تلقى حب والديه اللامشروط ولا يزال كذلك.
كان محاطا بأصدقاء أكثر وفاء وأكثر كرما. كانت له صحة وطاقة الشباب. كان لديه كل شيء ليعيش سعيدا، ولقد كان سعيدا في أعماقه.

كان يعيش الحاضر لحظة بلحظة، ناسيا مشاق الأمس، حتى أنه لا يحاول تخيل الغد أو ما سيكون عليه. وحدها فقط اللحظة التي يغوص فيها كانت هامة، لأنها الوهلة التي يستطيع التحكم،قليلا، فيها. كان يتقمصها، منشغلا ومنغمسا في كل ما يمكن للحياة أن تقدمه له.

بعد أن أكل مرة أخرى أكثر مما يسد جوعه، كانت لديه رغبة في ترويض حوافره وذلك ركضا حول الحقول. ولى أدباره يسلك الطريق على هوادة،في خطوات رشيقة. فيما بعد، وعندما نشط عضلاته، أطلق عنان سرعة طفيفة، هزت شعره المتطاير في الهواء، ليركض إلى النهر. في الطريق، تذكر كل المرات التي شرب فيها من نبعه والتي اغتسل فيها عند اشتداد الحر صيفا. وهو يقف على الحافة، قشعريرة مزعجة تسري فجأة في عموده الفقري. وهو ينظر إلى النهر، لاحظ تباعا أنه ليس كما تركه، آخر مرة... الماء كان عكرا وصفحته تغطيها طحالب كريهة الرائحة. لاحظ أيضا، أسماكا نتنة على الضفة. تلاشى ظمأه فجأة. لا، لن يشرب هذا الماء. اعتبر كل ذلك أمرا غريبا وقرر العودة إلى القصر ليخبرهم بالأمر.هرع إذن، واستنتج أن الكلأ كان ذا خضرة داكنة على غير العادة. لم يستطع إزاحة عينيه عن العشب الذي اصفر. اعتقد أن هذا يعود إلى رداءة جودة المياه. واصل سيره ولاحظ في ارتياح أنه كلما ابتعد عن النهر كلما أصبح الكلأ رطبا ولذيذا. ـ غريب، أردف قائلا: أكثر من غريب. . .

عند عودته إلى الإسطبل، التقى أخاه التوأم، وأطلعه على ما اكتشفه. فوجئ هذا الأخير بالقصة التي سمعها، ومعا، قررا أن الحالة تستدعي إخطار مستشاري الملك. عند وضعهم في الصورة بدورهم، تبادل الثنائي الحكيم نظرة قصيرة قلقة، تقول أكثر مما تعني. هكذا، تأكد الأمر. . . خلال الأسابيع الأخيرة، شعروا أن شيئا غير طبيعي يحدث. كأن قوة أو طاقة سلبية موجهة نحو القصر. بعد أن شكرا الجياد، ذهب الرجلان إلى الحاكم، مقاطعان بذلك عطلته رفقة الملكة في المزرعة الملكية، محميا من حر الشمس تحت أشجار الفاكهة. فهم بسرعة جوهر ما قاله مستشاريه، استدعى الملك شعبه للمثول في رحاب البلاط ليخبره بما لديه.
كان الملك الرجل الأكثر احتراما في تلك الأنحاء. على مر السنين، اكتسب حكمة لا مثيل لها وحنكة كبيرة، حتى أن إشعاع سمعته تجاوز حدود مملكته، كشعاع الشمس فوق الأرض. قوي البنية وضخم الجسد، حذر وسريع البديهة، يتمتع بتجربة الحياة التي منحتها له السبعين شمعة التي حملتها حلوى عيد ميلاده الأخير والتي تؤهله لأخذ القرارات. محاط
بملكته وبرجليه الذين هما مصدر ثقة، قام بإلقاء الخطاب التالي على رعاياه الأوفياء:

أصدقائي الأعزاء، لقد أحضرتكم على عجلة من أمركم، لكي أخبركم بحالة خطيرة. لا - يخفى عليكم أن هنالك مملكة أخرى غير خاضعة لإمرتي، توجد ما وراء النهر. حاكمها يتقاسم فلسفتي في الحياة. لقد أدركت دائما أنه سيأتي يوم يلتقي فيه مصيرينا، وهذا اليوم وشيك جدا وهذا ما أخشاه. لقد أخبروني للتو، أن النهر الذي يحد تخومنا في الشمال قد فسد، وأن الماء قد بدأ يلحق خسائر بأراضينا. يجب علينا أن نتحلى بالحذر والشجاعة. لدي إحساس أن هنالك غزوا يتم التحضير له.

في الحضور، نسمع ضوضاء مخنوقة، الفلاحون كانوا قلقين، لأنهم لم يهتموا أبدا باحتمال الغزو. حتى الملك لم يكن يرى ضرورة تكوين أو تأهيل جيش من المقاتلين لصد حرب محتملة. في الواقع، كان يفضل إدارة مصالح المملكة وتوزيع خيراتها على المواطنين، عوض أن يغرقها في نفق مظلم لا آخر له من الأسلحة وبارود المدافع. (استثمار، في الحالة الأخيرة وبشكل دقيق، لن يمر عليه وقت حتى يذهب هباء منثورا. ) الملك نفسه، لم
يكن في حمايته سوى حارسين عشوائيين، كصواني جليد، لكنهما من الأهمية بمكان، لأن الثلاجات كانت منعدمة في ذلك العصر. هؤلاء الأشداء كانوا يصلحون لصحبته، ولكن غالبا، لحمل أمتعته. لم يكن يملك سوى حصانين، يقظين فعلا، لكنهما لم يحملا شيئا أو أحدا على ظهريهما والمستشارين الذين كان برفقته، رغم تفانيهما، كان طاعنين في السن، ولم يكن بمقدورهما القيام بكل هذه الأعباء. لم يبق لديه إلا شرذمة من الفلاحين وملكته، ولكن، له من رجاحة العقل ما يفتح السبل المسدودة وما يحل الصراعات.

كل واحد أراد أن يرى بأم عينيه ما يحدث. توجهوا في الحين إلى النهر، الذي يعد بمثابة الحاجز الأخير الذي على القوات المعادية اختراقه. وصلوا بعد مسيرة يوم طويل ومتعب. ما شاهدوه جمدهم من الرعب، رغم شدة الحر. على الضفة الأخرى احتشد رهط من المحاربين الذين يهددون أمنهم، مسلحين بالرماح والسيوف. يمكن أن نميز أيضا دابتين لهما وبر أسود وهيأة وحوش، ماكرة، ثقبي أنفيهما يتسعان ويضيقان، جسداهما عظامهما بارزة، كالذين يعانون سوء تغذية؛ تحت دروعهم، يمكن أن نخمن، وبكثير من الخيال، أنهم جياد. يقف على بعد أقل، وفي كلا الطرفين، رجلان، مخلوقات ضخمة، غيلان عملاقة، ووراءهم، العدو المستبد، ذو الجسم النحيف الذي أكله الشر وضغط السنين. كانت نظراته حائرة، وشعره المنكوش ينم عن مشاعره المتضاربة، على مقربة منه، اثنان من أتباعه يسخران ويستهزآن من الناس الذين يحيطون بهما، الشيء الذي يقلل من احترامهما للملك نفسه. نرى أخيرا الملكة، التي كانت، مع ذلك، رائعة الجمال، ولكن كان لها تأثير سلبي على رعاياها، تنبعث منه شرارة سوداء، قاتمة. . . بكل بداهة، لم يستطيعوا بعد حل مشكل اجتياح النهر، الذي يشكل عائقا طبيعيا، لا يمكن اختراقه دون ملاحة، نظرا لطوله المهم وعمقه اللامتناهي. ولكن كان يمكن رؤية مجموعة من الجنود وهم منشغلين في محاولة لصناعة طوف. مع كامل الأسف، الأمر ليس إلا مسألة وقت.

:الملك الطيب جمع رعيته من جديد وأخبرها بالتالي
ـ أصدقائي الشجعان، لا أرى إلا حلين ممكنين. الأول، الهرب. أنتم ترون مثلي أنهم قريبا سيتمكنون من عبور مجرى الماء، ولكن هل الهرب سيكون في صالحنا؟ سيطاردوننا أينما ذهبنا. وأيضا، هذه أراضينا. لن نترك بلدنا بسهولة. الحل الثاني ربما سيدهشكم، لأنه غير معتاد. أنتم تتوقعون أن لا أقترح عليكم الدخول في حرب كبرى لأنها ستكون خسارة وهزيمة نكراء. لدى كل واحد منا موارد لاشك أكثر قوة من حديد سيوفهم. يكفي أن نحررها ونحسن استخدامها. سأقودكم، ثقوا بي.

الدهشة والاستغراب تملكا الشعب الذي لم يكن أقل فضولا منه. الجميع كانوا ينصتون باهتمام كبير، لأنهم منذ وقت طويل وضعوا ثقتهم فيه، كانوا يرشفون حديثه كلمة، كلمة.

أردف الحاكم قائلا:

ـ يجب أن نتحلى بالذكاء والشجاعة، وأن تكون لديكم الثقة الكاملة في قدراتكم. قال أحد الحكماء أن الإتحاد قوة. علينا أن نكون أكثر تضامنا واتحادا أمام الخصم. يجب أن تكونوا على وفاق تام مع الحياة وأن تتصرفوا وفق ما تشعرون وترون أنه صواب. لتجنب النزاع، سوف نتبنى نظرية اللاعنف، ستروا أننا سنخرج سالمين. جميعا، وفي صمت، سنذهب لملاقاة خصومنا على الضفة الأخرى حاملين معنا ذبذبات السلام والسعادة؛ سوف يلاحظون ربما في لاشعورهم ذلك، ولكن لنحاول أن نخرج هذه الطاقة الكامنة في أعماقهم، لكي يتمتعوا بها. تحت تأثير هذه الموجة الإيجابية؛ لن يفكروا في احتلالنا، ولكن في التعرف إلينا وسيحبذون عودة الفرح إلى الحياة. هذا، حسب اعتقادي، أملنا الأفضل.

اقتراح الملك النادر لقي في الحين الترحيب من طائفته. جماعة وفرادى بدؤوا يستقون من قواهم الداخلية ويجمعوها داخل أفكارهم الجميلة على شكل موجة تسحق هذا الجيش الشرس الذي يمتد على أطراف البصر. ببطء، وأمام جبروت هذا الحب الكوني، يتراجع الشر. الأراضي الملوثة والفاسدة بدأت تسترجع طهارتها، النباتات والأعشاب استعادت رونقها ولونها. وبعد ذلك، جاء دور الطحالب التي كانت تلوث صفحة النهر. لتختفي داخل الأعماق، لتفرق المتاريس والدروع، موجة السلم تتقدم. كثيرون حاولوا تفاديها والهرب منها، ولكن تيارها لم يستثني أحدا. تأثيراته اكتسحت الأرجاء سعادة وبهجة. أصيب الجنود بحمى الفرح٬ فتركوا أسلحتهم لتتساقط على الأرض ولترتسم البسمة على وجوههم. الحمقى أصابتهم الدهشة، فنفذوا حركات استعراضية مضحكة. الغيلان استعادوا شكلهم الآدمي. الخيول الهزيلة اكتسبت شعرها الوحشي بعد أن اقتاتت من هذه النباتات الجديدة التي لم تتذوق مثلها من قبل. الملكة، المتصنعة والتي تتمتع في الغالب بذوق سيء، استعادت ملابسها المبهرجة وقررت أن ترتدي من الآن فصاعدا ملابس معتدلة وأن تتخذ مواقف أكثر تساهلا. لقد اتضح لها أن الجمال الحقيقي هو الجمال الداخلي وليس الانقياد وراء معايير الموضة المصطنعة. عندما رأى كل هذه التغييرات الإيجابية أمام عينيه، الملك لم يعد بإمكانه إلا أن يقر أن فكرة الحاكم المقابل، كانت عبقرية. تحرر من شعوره العدائي، وغمره إحساس كبير بالرضا تلاشى أمامه الغازي القديم. الطبيعة استمرت في بسط نفوذها، تدريجيا، كالموجة عندما تعلو شاطئ البحر. الحقول التي كانت قاحلة، حيث كانت تتكوم الأحجار، أصبحت خصبة، مخضرة ولامعة من جديد. حتى القصر البعيد الذي كان قد تهاوى تقريبا، استفاد من الظروف الجيدة لهذه النهاية فاستعاد أبهته وبريقه.

لم يصدق الذين يحيطون بالملك الطيب أعينهم، وفي لحظة فقدوا فيها تركيزهم، توقف مدى طيبتهم. في تلك الوهلة الدقيقة، الطحالب، تذكرونها أليس كذلك؟، كانت قد تلاشت في الأعماق المظلمة، طفت فوق السطح مع كثير من اللمعان. كانوا ينتظرون ما هو أسوأ، تقهقر الجميع وبدأ الخوف يسيطر في صفوفهم. كلهم، إلا جلالته، ظل يرسل موجته السلمية. الخير استمر في ابداع الصلح. والطحالب في تكاثف مع بعضها، تتجانس وتتوحد مشكلة عقدا وضفائر، حتى أهدت أخيرا لصانعي السلام جسرا قويا يربط بين الضفتين. الملك الطيب قرر للتو عبور النهر. الآخر، متحمس، فعل الشيء نفسه. التقى الاثنان في الوسط، قفز كل واحد منهما إلى حضن الآخر. صرخات الفرحة والتشجيع تدفقت من كلتا الجهتين. "عاش ملكانا!" حياة طويلة لهما"،"هيب هيب، هوري!!! "

خاتمة

أين فرسنا الأبيض النشيط من كل هذا؟ هل تعلمون، ذلك الذي بدأنا به القصة؟ لقد استعاد لذته ورغبته في الحياة بحرية، دون أي خوف يلوح في الأفق. أكثر من ذلك، لقد أصبح لديه أصدقاء جدد، وبرفقة أخيه كان الأربعة يستكشفون التراب الذي يجمع المملكتين، أدركوا أن هنالك أربعة وستين حقلا مختلفا، محددة بدقة، ملتصقة ببعضها البعض. لاحظ حصاننا الذكي، بعد حسابات علمية، أنه يستطيع زيارتها تباعا، قفزا من مرج لآخر، حسب حركة خاصة بالنسبة لجواد، دون أن يعاود المرور بالمكان نفسه. هذه الحركة المميزة،

وحتى أيامنا هذه، الخيول وحدها من يمكنها التنقل على هذا النحو في هذه المملكة. وبما أن هذه الحكاية كانت فريدة من نوعها، النهاية لم تكن إلا البداية. بداية الجوع، شهية الحياة، لاغتنام اللحظة الراهنة، هذه الهدية، التي لا نهاية لها، تتجدد باستمرار. خذوا وكلوا من كل شيء، لأن هذا لكم!

أدب الطفل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى