الفن التشكيلي، بعد عن رهانات مجتمعاتنا
أيقن بودلير أن هناك علاقة بين تطور الأذواق والتعبير الفني فكتب نصّا بعنوان رسام الحياة الحديثة (جريدة لوفيقارو 1863)، متحدثا فيه عن صورة رسمها كنستنتان قاي فقال : يظهر ما يمكن أن تحتويه الموضة من شاعرية زمنها. وفي هذا النص تحدث بودلير عن الحداثة فربطها بروح العصر بموضته ومميزاته مركزا على البعد الزمني، فوصف الحداثة على أنها ازدواجية المظهر من حيث تعبيرها على الظرفي والصيروري في نفس الوقت، يقول: ما في هذا الظرفي من رسوخ في الزمنية والأبدية. والرسام حسب بودلير يجب أن يتمكن من خلال عمله الفني من التعبير على هذه الثنائية، يجب أن يستشفّ الجماليّة والشاعريّة الكائنة في محيطه قائلا كان هناك حداثة لكلّ رسّام موضحا لومه على فنّاني عصره الذين يرسمون شخصياتهم بملابس يونانية قديمة فأعمالهم هذه حسب رأيه لا يمكنها أن تعكس أي جمالية بما أنّها قائمة على تقليد غير متجذّر في الزمن الذي يحتوي الفعل التشكيلي. ورغم أنّ بودلير لم يعش في القرن العشرين إلاّ أنه تنبّأ بأهم علاماته الفنية ففي حديثه في نفس النص، تحدّث بودلير على ثنائيّة المادي و الرّوحاني، و كأنّ بودلير يبحث عن ما وراء الشّكل، ما وراء المادة، عن المحسوس من خلال المدرك. إنّ ما يبحث عليه بودلير في جمالية العصر هي الجمالية المختلفة التي تأخذ قيمها من طبيعة العصر الذي نضجت فيه .
الحديث عن عصر بودلير هو الحديث عن نشأة الحداثة الفنية التي تأثّرت بما يحيطها من اكتشافات علمية و مفاهيم فلسفية. لقد ارتبط الفن الغربي إلى حد كبير برهانات مجتمعاته الثقافية و الفكرية دون عزوف عن إدماج المفاهيم السياسية والإيديولوجية. ففي حين كان السرياليون يبحثون فيما وراء الوعي مستفيدين في ذلك بالبحوث الفرويديّة، كان الرسامون الروس يؤسسون من خلال زاوية نظرهم الماركسية لتيار فني مميز . أما الدّادائيون فقد عبروا من خلال أعمالهم و شعاراتهم التي رفعوها في زيريخ على رفضهم للمسلّمات القائمة و إيمانهم بان الثوري هو الذي يغيّر الأشياء ويدفعها. فكانت هذه المجموعة تتخذ مقولة ديكارت شعارا لها في واجهة تظاهراتها: لا أريد البتّة أن أعرف أنّ هناك أناسا سبقوني.
ولقد تأثّرت جمالية الغرب بأجواء الحروب التي خاضوها فكانت منحوتات جياكوماتي على سبيل الذكر لا الحصر ترسم أجسادا نحيفة تائهة كأنها فاقدة لملامحها و أعضاءها .
اما الفن المعاصر فقد طور تقنياته ومنهجيات تعبيره وخرج إلى الشارع ونزع عنه الحدود الأكاديمية. وراح يقحم المتفرج أو حتى المارة في تظاهراته. مستمدا في اغلب الأحيان موضوعاته و استلهاماته من مشاغل مجتمعاته و تطلعاتها.
وفي هذا الخضم تبان المحاولات القليلة للفن العربي محتشمة منكفئة، فاقدة لكل جرأة و عمق، ما عدى ما اشتبه منها بتجارب غربية أو بمناهج تعبيرية يراها بعض النقاد معاصرة وأصيلة ولكنها في حقيقة الأمر لا تنبع من واقعنا الجمالي و الفكري. صحيح أن الفن يتخذ صبغة العالمية و انه تعبير إنساني لا يعرف حدود الجغرافيا أو الزمن، و صحيح أن التعبير الجمالي لا بد أن ينطبع بذات الفنان. و لكن هذا الفن لا يمكن أن يقدّم لمجتمعاته مادة تنهل منها الأذواق و الأفكار، إن كانت مناهجه الفنية والتعبيرية تخص استهلاكا ثقافيا غربيا بالدرجة الأولى.
إن حضارة لا تنتج القيم لا يمكنها أن تنتج حاضرها. لذلك فدور الفنان إزاء مجتمعه لا يقل قيمة عن دور العلماء أو رجال الاقتصاد بل بالعكس فالثقافة هي التي تؤسس للقاعدة الفكرية و القيميّة التي تتحرك في مجالها باقي المساعي النهضويّة و التنموية. فما بالك بمجتمعات عقيمة غير قادرة على الإبداع الأصيل ، تنحصر انتاجاتها الفنية على تقليد الآخر أو اجترار تراثها القديم! و لكن ما هي أسباب هذا العقم أليست نتيجة لانسداد الأفق و لاغتراب الذات؟
لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ ما ننتجه من أعمال تشكيلية يبوّب ضمن رؤية غربية، ويخضع في منهجية انجازه لأساليب أوربية الأصل، ناهيك عن المواضيع المتناولة فقلّما نجد أعمال تشكيلية تتخذ مواضيع فريدة و خاصة.
زيادة على ذلك مازلنا في عالمنا العربي متشبثين بفن المتاحف و صالونات العرض رغم أنّ الغرب ذاته تخلى عنها في جزء كبير و اختار أساليب عرضية و تنصيبية جديدة .
لا اعني من خلال هذا القول استدعاء الفنان العربي لتقليد الغرب في أساليبه الفنية بل بالعكس، فانا أحثّ الفنان العربي على التفكير في مناهج تعبيرية جديدة و متفرّدة تؤسس لمصالحة مع مجتمعاتنا ومع ثقافتنا الجمالية، سوى من خلال إعادة النظر في أشكال انجازاتنا الفنية أو من خلال المواضيع التي نتناولها. فقد حان الوقت للتخلي عن المواضيع القديمة و البالية المتعلّقة أساسا بالشكل و المادة والتي حصرت لفترة طويلة مفهوم الممارسة الفنية على معطيات عضوية و مادية مثل الألوان والخامات و الفضاء... وغيرها.
إنّ واقع مجتمعاتنا يختلف عن واقع الغرب المترف و الذي حل عبر تاريخه جزءا مهما من مشاكله. فدول الشمال لا تعاني مثلنا من اغتراب حضاري و ليست لها أزمة في هويتها. هي لا يهاجر شبابها هجرة غير شرعية فيبتلعهم البحر ولا تعاني مثلنا من مشاكل الاكتفاء الغذائي و محاربة الأمية. إنّ اختلاف ماضينا و حاضرنا، اختلاف رؤانا الفكرية و الجمالية، يجعلنا مغايرون للغرب، فكيف لانتاجاتنا الفنية أن تكون متماثلة؟
لقد ساهمت مدارس الفنون الجميلة بقدر كبير في إرساء تقاليد فنية مرتبطة بالمدارس الأوروبية و الأمريكية. فأغلب مدّرسيها تتلمذوا في أوربا. وحيث تغيب أي مؤسّسات تكوينية أخرى في ميدان الفنون التشكيلية، فان هذه المدارس أفرزت جيلا محدود الرؤى، واغلب إطاراته يرفضون المغاير و المخالف، متناسين أنّ صالون المرفوضين في بداية القرن العشرين فتح الآفاق أمام أهمّ الحركات الفنية.
أمّا نظرة فنانينا لتراثنا الجمالي و الذوقي فإنها في اغلب الأحيان محدودة العمق و تبقى محاولاتها القليلة معزولة على المشاريع التشكيلية الكبرى و قد تتّهم في بض الأحيان بالرجعيّة او بالشكلانية.
كذلك فان اغلب المواضيع السياسية و الاجتماعية يقع تناولها بسطحية و تكاد تقتصر على بعض النّصب التذكارية. وفي غياب تجارب تشكيلية جريئة و منهجية، يبقى فننا متخاصما مع ماضيه و حاضره، معلقا في الزمن ومنغلقا على روّاده و أسرته الضيقة.
وفي الأخير يبقى اللوم موجها للمواطن العربي الذي لا يهتم بالفنون و تاريخها ويفتقد لآليات قراءة الأعمال التشكيلية. وهذا يرجع أساسا لبرامج التعليم التي تغيّب تدريس تاريخ الفنون بل أكثر من ذالك فهي تجمّد ملكة النقد و الإبداع.
وفي إطار ظلت فيه اغلب التجارب متجهة نحو الغرب و تنتظر تقييمه لمدى نجاحها و اعترافه بها. ظهرت بعض التجارب الواعدة التي تتناول واقعنا بمنهجية أعمق وتتجاوز بأساليبها قاعات العرض و المتاحف و تخاطب فئات أوسع من مجتمعاتنا.
لقد أصبح الجيل الجديد أكثر وعيا بهذه الرّهانات، وأيقن أن الانعزال لا يزيد إلاّ في غربة الفنان و في انعدام الجدوى. صحيح أن الوضع أفضل من ذي قبل ولكن مجتمعاتنا اليوم بحاجة لفنانيها و لمثقفيها لخلق مجالات تعبيرية و حوارية و فتح الآفاق أمام الإبداع الملهم والبنّاء . فالمراهنة على تحرير الفكر ودعم الثقافة الجادة والهادفة هو سبيلنا الوحيد للرقي بواقعنا و ازدهار حاضرنا.