الثلاثاء ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

الفن والكرامة

في بعض الأحيان تقدم لنا الفرقة القومية العربية للموسيقى، وغيرها عروضا موسيقية لإحياء ذكرى فنان كبير مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب، أو غيره، وفي تلك الساعات القليلة تتضح قدرة الفن الغريبة والموسيقى تحديدا. ذلك أن للأغاني مقدرة عجيبة على اختزان مالا يستطيع الأدب أو المسرح أوغيره أن يختزنه من مشاعر. فالأغاني أقرب لذاكرة الدماء منها لذاكرة الوعي. وقد جرت ألحان محمد عبد الوهاب في شرايين أجيال مصرية وعربية عديدة، وصاغت في القلوب شكل ذكرياتها العاطفية والوطنية. ومحمد عبد الوهاب الذي ولد في منطقة باب الشعرية الفقيرة، هو الرأس الموسيقى الأكبر بعد خالد الذكر سيد درويش.

ومثلما أقام نجيب محفوظ الرواية العربية، وأقام توفيق الحكيم المسرح العربي، فإن عبد الوهاب هو مؤسس قالب الأغنية الحديثة في مصر بكل روافدها. وقد قام بدوره الريادي ذلك جنبا إلي جنب مع عملاقين آخرين في عالم الموسيقى هما رياض القصبجي، ومحمد السنباطى. لكن عبد الوهاب كان الأوفر عطاء والأكثر تنوعا فلم يترك شكلا موسيقيا إلا وطرقه: لحن المعزوفات الآلية مثل " المماليك " وغيرها ولحن الأغنيات الخفيفة مثل " أحبك وأضحي لحبك " لشادية، ولحن القصائد الموسيقية الفخيمة مثل " الجندول "، والطقطوقة مثل " قلبى بيقول لى كلام "، والنشيد الوطنى العاطفى مثل نشيد " يانسمة الحرية "، وحاول عبد الوهاب أن يطرق باب المسرح الغنائي بمشاهد درامية ومقاطع من مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي، لكنه لم يستطع أن يواصل دور سيد درويش مؤسس المسرح الغنائي، والدراما الموسيقية.

ومع ذلك فقد أقام عبد الوهاب مدينة كاملة للأغاني بمختلف أساليبها وعمرها بالبيوت والمشاعر الموسيقية فلم يعد الموسيقيون من بعده يدخلون إلي فراغ، ولكن ينشئون ويطورون معتمدين على ما تركه الفنان الكبير من قواعد وخبرات ريادية. أيضا كان عبد الوهاب أكثر الموسيقيين جرأة في تجريب الالآت المختلفة الوافدة بكل ما تحمله معها من طعوم موسيقية جديدة. وهو أول من أدخل آلة " الماندولين " إلي التخت المصري. لكن المدهش أن الجمهور الذي يحضر الحفلات التي يعاد فيها إنشاد أغاني عبد الوهاب كان يبدي حماسه غير المسبوق بالذات لأغنيات عبد الوهاب الوطنية مثل أغنية " أصبح عندي الآن بندقية " ( غناء أم كلثوم )، وأغنية " وطني حبيبي الوطن الأكبر " غناء مجموعة من الفنانين، وقد لاحظت نفس الظاهرة في مسارح مصرية أخرى، وفي عروض أخرى، وعلى سبيل المثال فقد عرض المسرح القومي ذات يوم " أمسية لصلاح جاهين "، وهناك غمرت القاعة موجة نارية من الحماس مع أغنية بالأحضان لعبد الحليم حافظ!

وهو ما حدث أيضا خلال عرض فيلم " ناصر 56 " للنجم الراحل أحمد زكي، فقد أصاب المشاهدين نوع غريب من الحماس تجاوبا مع مشاهد التحدي المصري للاستعمار ومع مشاعد الزعيم جمال عبد الناصر وهو يخوض معارك التحرر. ألا يشير ذلك إلى أن لدى الجمهور شوقا ملحا لما يمكن أن نسميه " الكرامة في الفن "؟ وأننا صرنا نفتقد لذلك النوع من الموسيقى والأدب الذي يغذي الشعور بالتحدي والعزة؟ ألا يشير ذلك إلي أن بناء هذه الكرامة في الثقافة والفن أصبح مطلبا قوميا؟ وأن معظم ما نقدمه الآن من أغنيات وموسيقى أشبه ما يكون بلحن الهزائم؟ بل وأقرب إلي الرقص المذبوح على إيقاع الشعور بالإحباط واليأس؟

إننا أحوج ما نكون إلي فن يلهم الناس مرة أخرى الحماسة، والشجاعة، والأمل. أليست هذه هي مقدرة الفن وواجبه ودوره؟ أم أن حياتنا صارت خالية من أي انتصار ملهم يبعث في نفوس الفنانين اللحن المنشود؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى