الأربعاء ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
الروائي والناقد كمال الرياحي للراية القطرية:
بقلم إشراف بن مراد

القارئ العربي يحتاج إلى صدمات كهربائية

الحرية شرط أساسي للإبداع الذي يستحق أن يكون إبداعا بالفعل

عن دار الجنوب للنشر وضمن سلسلة عيون المعاصرة التي يشرف عليها الناقد توفيق بكار، صدر مؤخرا للناقد والروائي التونسي كمال الرياحي رواية بعنوان "المشرط "التي قال عنها البعض إنها "رواية خطيرة"و اعتبرها البعض الآخر "انجيل المهمشين".

إذ أن المشرط على حد تعبير آمال البجاوي يجسد " قلم الروائي كمال الرياحي يمزّق به وقار المعهود و يصدم به رصانة كاذبة للمألوف, مشرط يشهره في وجه المجتمع الخامل و البشر النائمين بعيون مفتوحة غير أنها لا ترى. مشرط يلمع في وضح النهار ليبدّد سكينة الليل و ما أخفى ...فإذا لمعانه يٌعشي الأبصار ؟".ونذكّر أنه كان قد صدر لكمال الرياحي عديد الدراسات النقدية والأعمال القصصية منها "نوارس الذاكرة"،"سرق وجهي" و"حركة السرد الروائي ومناخاته".

عن رواية المشرط وغيرها من قضايا المشهد الثقافي التونسي والعربي ، تحدثنا مع الناقد والروائي كمال الرياحي فكان الحوار التالي:

 الراية: صدرت لك مؤخرا "رواية المشرط" التي رمت من خلالها كشف المستور وهو ما يتضح من خلال العنوان.هل تعتقد أن القارئ التونسي بصفة خاصة والعربي عموما بحاجة إلى كل تلك الحدة والصدمة التي سببتها له الرواية؟

 بالفعل القارئ العربي يحتاج إلى أكثر من ذلك ،إنه يحتاج إلى صدمات كهربائية وكهرروائية وكهر إبداعية ليتعرف على ذاته من جديد ولذلك ظهرت بعد نكسة 1967 مجموعة من الروايات تعيد النظر في الهوية والذات العربية.واليوم نحن نمر بفترة انتقالية أخرى فنحن لم نمرّ بعد 1967 لم نمر بنكسة فعلية إلا بعد 11 سبتمبر 2001.لذلك فان المجتمعات العربية قد تغيرت ودخلت في دوامة جديدة من الانهزامية ومن المأساة التي يعيشها الوطن العربي بشكل عام والمواطن العربي بشكل خاص. لذلك كانت رواية المشرط منطلقة من هذا الجوّ السريالي الكفكاوي الذي نعيشه يوما بيوم.

 الراية: لقد نجحت رواية"المشرط" في تعرية الواقع التونسي من كل الأقنعة.لكن ألا ترى أنها جاءت موغلة في المحلية وكأنك كتبتها ليقرأها التونسي لا غير؟

 أنت هنا تفتحين موضوعا خطيرا جدا وهو ما معنى المحلية والعالمية. المسألة لا تطرح من هذا الجانب بل بالعكس تماما و كما يقول أحد عمالقة الرواية العالمية :"أنا أكون عالميا بقدر ما أكتب عن قريتي".لذلك فليس صحيحا أن هذه المناخات التونسية بعيدة عن القارئ العربي.
إن مهمة الكاتب التونسي أن ينقل مناخاته التونسية للقارئ أينما كان وحتى لا تكون الأعمال والروايات مستنسخة من بعضها فلا بد أن تنبت روايتي في بيئتها وفي مناخها.أما مسألة تعرية الواقع التونسي فأنا أعتقد أن همّ الرواية ليس بالأساس التعرية ،ربما الموضوع هو الذي استدعى ذلك وتطلب تلك الجرأة في الطرح .
ربما أردت القول إنه إذا كان المجتمع التونسي الذي يعد من بين أكثر المجتمعات العربية حداثة،يعيش هذه المشاكل فما بالك بالمجتمعات العربية الأخرى.

 الراية:إلى أي مدى كان كمال الرياحي حرا في كتابة المشرط ؟أي إلى أي مدى خضت في ما يسمى "المسكوت عنه"؟

 طبعا ،الحرية هي شرط أساسي في الإبداع إذ لا إبداع دون حرية لذلك كتبت الرواية بقدر كبير من الحرية على مستويات كثيرة:لقد حاولت التخلص من كل التابواتtaboux الممكنة أي من المحرمات والمقدسات الزائفة التي تحيط بالمبدع .
طبعا هناك مقدسات لا سبيل إلى هتكها.لكني حاولت في الرواية وبأسلوبي المتهكّم السخرية من العقليات المتحجرة والأوضاع السياسية العربية المضحكة التي نعيشها و من وضع الإعلام العربي... لذا كان هناك قسط من الحرية.
ربما لو توفرت حرية أكبر، لغصنا في أعماق أخرى أكثر جرأة من هذا.وهذا هو المطلوب من الرواية أن تكون جريئة في مستوى طرحها الفني قبل أن تطرح المسالة الإيديولوجية.

لقد خرجنا من مستوى الرواية باعتبارها حكاية مغامرة إلى الرواية باعتبارها مغامرة كتابة.إذ لم نعد نكتب للمغامرة بل أصبحنا نغامر في الكتابة على المستوى الفني.أما على المستوى الإيديولوجي، فأنا ضدّ الكتابة التي لا تقول شيئا و أرى أنه ليست هناك كتابة بيضاء بالمعنى المائع لذلك لا بد للكاتب أن يقول شيئا وأن يكون له موقف من واقعه وعصره وأن يعبر عن ألم الجماهير وتطلعاتها.على أن لا يتحول الخطاب الإبداعي إلى خطاب سياسي أو إيديولوجي.

 الراية:اعتمدت في "المشرط" مجموعة من الرموز مثل" المخاخ"،" شجرة الخروب"،" الهدهد "،"المرأة"، "ابن خلدون"..لكن ألا تلاحظ أن مشرطك قد توجه بالدرجة الأولى إلى المرأة وكأنك تحملّها مسؤولية ما حصل للمجتمع وهوانه؟

 بالعكس تماما ، فأنا أرى أن المرأة العربية بشكل عام منتهكة الحقوق. رغم أنها في بعض مجتمعاتنا ربما تكون قد تحصلت على بعض الحقوق إلا أنها أفقدتها هويتها الحقيقية لأنها ركضت وراء حقوق وهمية .أما القول إن الرواية كانت ضد المرأة فلا أعتقد ذلك، بل بالعكس لقد حاولت أن أبيّن أن المرأة هي الضحية الأولى لهذه المجتمعات الذكورية.

لقد تحدثت مثلا عن الهزيمة في صورة إمرأة مومس تحولت إلى محاكمة هذه المجتمعات وهؤلاء السياسيين.وفي الجزء الخاص بالمخاخ كانت المرأة ضحية في النهاية وكانت تستعبد بالإنجاب..وهذا واقع المرأة في المجتمعات العربية .وكما قلت فان الرواية ليست تونسية بمعنى "التونسية القحة "التي يمكن أن تعوق المحلّية انتشارها أو أن تفهم خارج مجالها. وإنما هي منفتحة عن المشهد الاجتماعي العربي لذلك فصورة المرأة في المخاخ هي صورة المرأة في المشرق وليست صورة المرأة في تونس.ومع ذلك أعتقد أن المجتمع العربي هو مجتمع واحد يعاني من نفس المشاكل .فالمرأة في القرى التونسية مثلا مازالت تعاني من الحس الذكوري بامتياز.

 الراية : قلت إن المرأة قد ركضت وراء حقوق وهمية.فماهي حسب رأيك الحقوق الحقيقية التي لم تطالب بها المرأة بعد؟

 أعتقد أن المرأة قد سقطت في الفخ الذي نصبه لها الرجل الذي أوهمها بأن هذا الذي تحصلت عليه هو حقوقها. في حين أنها في المقابل أهملت هويتها وكيانها فأصبحت المرأة كما نرى اليوم في الفضائيات والمجلات مجرد فتاة إشهار.وهذا ما أفقدها هويتها الحقيقية بصفتها إنسانا.
لذلك فالرجل يغدق عليها هذه الحريات لتتحرر في خروجها وسفورها. ولكن لسائل أن يسأل لصالح من؟في الحقيقة انه لصالح الرجل الفخور بحسه الذكوري الذي يريد أن يستمتع بالمرأة في مشهده، في واقعه في الإعلام، في التلفزيون...وهو ما جعل المرأة تسقط أسيرة جمالها الذي صنعته عين الرجل.

في حين أن جمال المرأة أكبر من تعرية جسدها في الفضائيات .لقد أصبحت بناتنا وأخواتنا في العالم العربي اليوم يحلمن بأن يكن مجرد عارضات أزياء أو مجرد إكسسوارات في فيديو كليب.وهو ما يعد إهانة لهوية المرأة الحقيقية التي لا بد أن تشارك الرجل وان تكون ندا له في العلم والأدب والمعرفة.وهنا أفتح معقفين للحديث عما يسمى بالأدب النسائي مثلا:لقد سقطت الرواية النسائية في الحس الذكوري للآخر فأصبحت المرأة وكأنها تستعير قلم الرجل لتكتب ما يريده وسقطت في ما يسمى بالشهرزادية لأن شهرزاد كانت تروي ما يريده شهريار.

 الراية : على ذكر ما يسمى بالرواية النسائية أو الرواية النسوية ،مازال هناك جدل هل هي الرواية التي تكتبها المرأة أم هي الرواية التي تتحدث عن قضايا المرأة.كيف تنظرون إلى هذه المسألة.؟

 طبعا،هناك مشكل مصطلحي كبير لم يحسم في الغرب فما بالك في الشرق .ويبقى السؤال مطروحا هل الرواية التي تكتبها المرأة هي رواية إمرأة فعلا؟ وهنا أعود إلى النقطة الأولى وهي أن المرأة كتبت رواية بانتظارات الرجل أو أنها كانت متطرفة فضحّت بإبداعها من أجل أن تتحول إلى مناضلة في حقوق الإنسان وحقوق المرأة. وهذا ما سقطت فيه نوال السعداوي ومشتقاتها.فالمستوى الفني ينزل ويتصاغر كثيرا عندما يصبح الهاجس هاجس تحرري ونضالي وفي المقابل هناك بعض الكاتبات اللواتي جعلن من هتك المستور وسيلتهن للشهرة وهؤلاء كثيرات في العالم العربي ويطبل ويزكر لهن النقاد الرجال لمزيد تفشي هذه الظاهرة لأنها تبقى في صالحهم في النهاية عندما يقارن كتاب المرأة بكتاب الرجل.فتظهر عيوب هذه الكتابات الجديدة حتى أن المرأة غالبا ما تلتجأ للرجل ليقدم لها ما تكتب وهذا ما يؤكد أن المرأة مازالت تحس أنها بحاجة إلى الرجل أي في حاجة إلى التأشيرة الذكورية .وحتى لا نكون متحاملين على كتابة المرأة ، هناك من لهن أقلام محترمة ويكتبن على مستوى راق أفضل بكثير مما يحبر الرجال العرب.

 الراية: لقد اهتممت في" المشرط" بمجموعة من الشخصيات، قلت إنهم من المهمشين.لماذا هذا الاختيار؟ ولماذا اعتمدت على الفوضى كتقنية لكتابة الرواية؟

 أعتقد أن النظام يكمن في الفوضى وأنا ضد النظام في معانيه المختلفة .فالمبدع عادة هو ضد أي نظام يمكن أن يحاصره في العالم إيديولوجيا كان أو سياسيا أو فنيا..لذلك فهو بدّاع من بدّع وابتدع أي خرق ما هو موجود .وبالتالي أعتقد أن الفوضى كانت جمالية في الرواية، فوضى على مستويات عالم الفوضى بجماليته وبنظامه المحبوك على مستوى فني جيد أخذ مني وقتا .
أما بالنسبة للمهمشين،فأنا اعتقد أن العالم العربي برمته هو عالم المهمشين :نحن مهمشون في هذا العالم.إضافة إلى أن المجتمعات العربية هي مجتمعات مهمشة من الداخل حيث نسبة التهميش فيها كبيرة في حين أن نسبة النخبة فيها مازالت صغيرة جدا. والباقي يعيش في فقر مدقع في الحواري والشوارع وفي قرى مسكوت عنها وهذا ما أشرت إليه إذ أن إحدى القرى التي تحدثت عنها تصوروها في تونس قرية عجائبية وغير موجودة.في حين أنها موجودة بإسمها الذي ذكرت.
إذن هذه هي الفضاءات الهامشية كما أن الهامشيين هم صناع الحضارة والمجتمعات.فأهم الكتاب خرجوا من الهامش وتناولوا الهامش ك"جون جيني" و "هنري ميلر" و بول بولز الأمريكي الذي اشتغل على الهامش وجاء إلى المغرب ليعيش مع المهمشين.
أنا لا أقول ولا أدعي أني أول من اهتم بالهامش ولكن الهامشي يبقى ثريا جدا لأن الطبقات الثرية والراقية لا تهمك إلا نكدا .واعتقد أن شخصية الهامشي هي الشخصية المؤهلة لأن تكون شخصية روائية لأنها شخصية مركبة ومشحونة وكثيرة العمق.

 الراية: إلى أي مدى استطاع الرياحي الروائي أن يستفيد من أدواته النقدية؟ والى أي مدى يمكن لتطور الحركة النقدية أن يساهم في تطور الاتجاه الإبداعي؟

 لقد بدأت رحلتي مع الإبداع و قبل أن أخوض في النقد فقد نشرت مؤلفاتي القصصية قبل أن أدخل عالم النّقد. وهنا أطرح سؤالا هاما هل الناقد يمكن ومن الطبيعي أن يتحول إلى مبدع عندما يمتلك آليات الكتابة الروائية أو القصصية أو الشعرية؟؟ هذا طبعا مستحيل وضرب من الغباء لو يرتكبه الناقد وللأسف لقد ارتكبه بعض النقاد العرب. و بينوا فشلهم وخسروا قراءهم في جهة النقد الذي اشتهروا به لان الإبداع لا يتعلم في المدارس أو في الكليات.لذلك فالمعرفة النقدية بالأدوات السردية لا يمكن أن تخلق منك مبدعا ، ربما قد تخلق منك مدرسا و تبقى قارئا للرواية لكن لا يمكن أن تخلق منك روائيا أو شاعرا...
لكن هذا لا يعني أن كل من جرّب النقد سيحول ذلك دون أن يرتكب الإبداع إذا ما كان بالفعل مبدعا واعتقد أن بدايتي كانت مع الإبداع ومعرفتي بتقنيات الكتابة السردية لا يمكن أن تؤثر إلا ايجابيا لأنك ستحاسب نفسك انطلاقا من هذه المعرفة بهذه المناخات والكتابات لتسأل نفسك أكثر من مرة عكس المبدع الجاهل بتقنيات الكتابة :وسيبقى هاجسك متعلقا بماذا ستضيف إلى هذا الكم الذي قرأت؟ و كيف ستغامر بإسمك الذي ربما قد صنعته بعد جهد كبير في مجال النقد لتدخل مجالا آخر ستحاسب عليه أكثر من غيرك؟

نعم، لقد استفدت من معارفي النقدية ولكن لو نقلب السؤال بطريقة أخرى لماذا نسأل نحن عن جرم الإبداع ونحن بدأنا مبدعين؟ ولماذا لا نسأل "المبدعين" لماذا يكتبون النقد؟ أحيانا نقرأ مقالات سخيفة لبعض المبدعين لو اكتفوا بنصوصهم الإبداعية وسكتوا لكان أفضل لهم لأنهم غير مطلعين بتاتا على الإبداع ويريدون أن ينّظروا له.

 الراية: يقول أدونيس إن الجزع ينتابه مما يسمى أدب الواقع الزائف الذي انتشر هذه الأيام إذ أن الأدب الحقيقي في رأيه هو كشف واستبصار.ماهو مفهومك لأدب الواقع؟ وهل يمكن أن نصنف المشرط ضمن أدب الواقع؟

 طبعا مع احترامي الكبير لادونيس الذي أعشقه من دون بقية الشعراء العرب وقد وظفت في روايتي مقطعين من قصيديتين له . لكن أعتبر أن هذا القول جاء في سياق خاص بأدونيس لان الإبداع لا يمكن أن يتخلص من الواقع بتاتا إنما هو يبقى في جزء منه انعكاسا له . لكن كيف يمكن أن تحول هذا الواقع هذا اليومي الذي نراه جميعا إلى عمل إبداعي؟
بالفعل الأدب اكتشاف وكشف واستبصار :كشف عما يجري في الواقع واستبصار له بطريقة فنية أدبية راقية لذلك فان الواقع هو الأصل وهو اللبنة الأولى للتخييل . إذ أني لم أر طائرا يطير هكذا مباشرة في السماء قبل أن ينطلق من الأرض إلى السماء.
فأدونيس كان أيضا ينطلق من واقعه في أكثر من قصيدة ليجنّح بعيدا في الوجودية أو في غيرها،فحتى الفلسفات وغيرها كانت تنطلق من الواقع لتنظّر وإن كانت الفلسفة أحيانا تأتي لتفهم الواقع لا لتغيره. نحن أيضا لا نريد أن نغير الواقع فليست مهمتنا وإنما مهمة المبدع الكشف عن هذه الدمامل الموجودة في الواقع والإشارة إلى إمكانية وجود مشرط ما لاقتلاعها.

 الراية :هل تعتبر أن الرواية العربية قد نجحت حقا في مقاربة الواقع خاصة وأن هناك من يرى أنها قد حققت التراكم النصي وعرفت تجديدا في مستوى الأسلوب وأيضا في مستوى مقاربتها للقضايا الراهنة؟

 ربما مازال الواقع العربي بكرا لم يفضض المبدعون بكارته بعد، لذلك مازال الروائي العربي أو المبدع يمسح على هذا الواقع دون أن يغوص فيه و يفجره من الداخل.لذلك تبقى بعض الكتابات عن الواقع كتابات سياحية أو كتابات نوستالجية nostalgie / كتابة حنين إلىهذا الواقع...إذ ليس هناك من يقارب هذا الواقع ويصارعه من الداخل.
علاوة على أن بعض الكتاب قد سقطوا في الدعائية والسياحية وبعضهم سقط في النظرة الاستشراقية الغربية كأن يتناولوا الواقع ببؤس شديد وكشف مشبوه وكأنهم يريدون أن يقدموا النص الذي ينتظره الغرب لهذه المجتمعات البائسة.
ويبقى الواقع حمّال أوجه وحمّال إبداع لان المبدع العربي مطالب بأن ينكب على واقعه عوض أن يحلق بعيدا في استنساخ نصوص عالمية مثلما نرى كل يوم:هناك نص وجودي سارتري وهناك نص عجائبي ماركيزي وهناك نصوص أخرى تشبه نصوص كلود سيمون وغيره..لذا نحن مطالبون بأن نكتب ذواتنا وهويتنا الثقافية وأن نكشف عما يجب أن نكشف عنه.

 الراية: كيف تقيم المشهد الثقافي الأدبي التونسي مقارنة بما يكتب عربيا، خاصة وان هناك من يقول إن للأدب التونسي سمة خاصة نتبينها مثلا من خلال كتابات علي الدوعاجي وغيره ؟

 لو بقي الأدب التونسي يكتب على طريقة علي الدوعاجي(هذا العملاق في السرد العربي والذي يعتبر مرحلة جنينية في تكون الرواية العربية) وبشير خريف لكان أدبا عالميا ولكن مأساة الأدب التونسي بدأت منذ بداية الثمانينات مع ثقل كتابات محمود المسعدي في تونس التي حولت وجهة الكتابة التونسية إلى وجهة بعيدة جدا عن المجتمع التونسي ومناخاته .وهو ما جعل الكثيرين يسقطون في استنساخ روايات المسعدي لسنوات وهذا لم يعطنا إلا تراكما ورقيا فارغا ، حتى أن المسعدي في يوم من الأيام قال لكاتب أعطاه كتابه ليبدي رأيه فيه:" كن نفسك" أي لا تستنسخني.

ومع ذلك نلاحظ الآن أنه توجد صحوة وعودة إلى كتابات خريف والدوعاجي لأنها كانت تونسية بالفعل .إذن المشهد التونسي يعاني من بعض المعضلات التي تعوق انتشاره عربيا. وبصراحة العديد من الكتاب التونسيين لا يقرؤون أصلا حتى أن بعضهم قال إن مهمتي أن أكتب وليس أن أقرا وهذه فضيحة كبرى.هناك من يقرا 1000 صفحة ليكتب صفحة واحدة ،وهناك من يكتب 1000 صفحة حتى لا يقرأ شيئا وعندما يقرأ فانه يطالع خبرا كتب عنه في الانترنت.إن المبدع الذي لا يقرأ لا يمكن أن يكون مبدعا .

 هل يعني ذلك أن المشهد التونسي منفصل عن المشهد العربي؟

 هو منفصل بطبعه لأن الهواجس التونسية بعيدة في جزء منها خاصة في ما يخص الحريات وحقوق المرأة ، فهذه غير مطروحة في المجتمع التونسي على نحو شبيه بالطرح المشرقي حتى انه في زياراتي إلى بلدان المشرق أو حتى إلى الجزائر والمغرب أشعر أنني قد انتقلت من حضارة إلى حضارة أخرى وليس من بلد إلى بلد آخر.لا بد أن نعترف أن العقلية التونسية مختلفة وهنا لا أعني التفاضلية .
هناك مبدعون كبار في تونس لا بد من تسليط الضوء على تجاربهم، بقي أن ما يصل إلى المشرق ربما يصل عن طريق علاقات شخصية وغيرها.كما نعاني في تونس من سيطرة لأشباه الكتاب على القطاع الإعلامي.وهذه كارثة كبرى و ظاهرة متفشية تهدد المشهد الإبداعي برمته.فهناك من يكتشف فشله الذريع في عالم الصحافة فيتحول إلى كتابة الشعر بين لحظة وضحاها ويرجمنا بكم ورقي لا يصلح حتى كورق صحي.
وبالتالي، فان هؤلاء الذين يسيطرون على الإعلام في تونس يحزّ في أنفسهم أن يظهر مبدع بينهم لذلك فهم يصرون على التطبيل إلى أشباههم ويعظمون من شأن أشباههم ولا أذيع سرا إن قلت إن بعض الكتاب التونسيين فروا إلى أماكن أخرى للكتابة لان المساحة المعطاة لهم داخل تونس بمنابرها الصغيرة أصبحت لا تليق بأقلامهم وهذا معروف والعديد من الكتاب التونسيين خيّروا أن ينتشروا في أرض الحبر الواسعة من خلال مجلات و صحف مشرقية أو غربية.

 الراية:فزت سنة 2005 بجائزة لديوان العرب ضمن المسابقة القصصية العربية في مصر . من تلك التجربة القصصية إلى هذه التجربة الروائية ما الذي تغير في قناعات كمال الرياحي الإبداعية؟

 أعتقد أنه على عكس ما يرى المفكر الكبير "علي حرب" من أن الهويات متحولة ونامية فربما جانب كبير من هذه الهوية يبقى ثابتا دائما وخاصة في ما يتعلق بالمبادئ التي تحدثت عنها .إذ لم يبق لنا إلا أن نتمسك بمبادئنا التي ولدنا بها. والحقيقة أننا نحن أبناء الريف من الصعب جدا أن نخلع قناعاتنا الأولى، لذلك لازلت احمل الوعود التي قطعتها لقريتي على أكتافي وامضي في هذا التيه المديني.
أما في مستوى الإبداع،فالجانب الإبداعي لا بد أن يتطور لأن الشخص ينمو في تصوراته، في رؤيته للعالم في ماذا يمكن أن يضيف.لقد بدأت في كتابة الشعر وصدر لي ديوان ولكني وجدت نفسي لا أضيف شيئا كبيرا حتى لا أقول شيئا لأن ما أكتبه لا يمكن أن يتصدر القائمات المحترمة الكبيرة. إلى جانب أن الشعر أصبح مثل الحمار القصير سهل الركوب في هذا الواقع العربي المرير.لذلك أعفيت المشهد التونسي والقارئ التونسي من شعري الذي قيل فيه في وقت من الأوقات إنه جيد وأنا لا أكتفي بعبارة جيد في ميدان ما .لقد وجدت نفسي أكثر في السرد والسرديات فخيرت أن أركز على هذا النوع من الكتابة بعد أن جربت قبله المسرح والرسم.
إن الشخص مطالب بأن يراجع نفسه في نوعية الإضافة التي يحققها .ليس مهما أن نكتب فالمسألة ليست منبرية ،لقد سقطت مرحلة المنبريات الشعرية والكلام الفارغ. أصبحنا مطالبين بأن نكتب أدبا يخضع لشروط فنية.ومن ثم، أعتبر أن إضافتي ستكون في السرد.

 الراية:قبل أن نبتعد مرة أخرى عن المشرط ،ألا توافقني القول إنك قد صبغت بداية المشرط بنوع من السريالية ثم بعد ذلك وسمت الجزء الثاني بنوع من الواقعية.ألم تخف من أن لا يواصل القارئ قراءة الرواية؟ ألا يمكن أن يجعلها هذا التمشي رواية نخبوية لا يفهمها الجميع؟

 سانطلق من الجزء الثاني من السؤال حول نخبوية الرواية لأؤكد أنها بالفعل نخبوية فصحيح أنها ظهرت في حقل المهمشين لذلك سميت بـ"الرومون" roman نسبة إلى اللغة الرومانية(بتسكسن الواو) وهي لغة المهمشين .
لقد كانت الرواية في وقت من الأوقات عورة وكان ينظر إليها باعتبارها مفسدة للأخلاق و أفيون الشعوب ، لأجل ذلك حوربت الرواية ومازالت تحارب ولكن لأسباب أخرى...لقد تحولت الرواية بعد مدة من هذا المناخ الهامشي إلى مناخات النخبة فمن يصبر على قراءة الرواية غير نخبة النخبة حتى الجامعيين اليوم لا يقرؤون الروايات بنهم فما بالك بالإنسان العادي الذي يبحث عن التسلية التي أصبحت متوفرة بوسائل أخرى غير الرواية والمطالعة.

لا بد أن لا نستغبي القراء لأن الذين يقدمون على قراءة الرواية في لعتقادي , يحملون عقولا تؤهلهم لذلك .وبالتالي أنا ضد إستغباء القارئ بكتابة أشياء ساذجة معتقدين أن القارئ لا يمكن أن يفهمها .وهذا ما قاله احدهم: أردت أن أعلم الناس القراءة شيئا فشيئا.

ومن ثم، وجدت أن البداية السريالية في المشرط كانت ضرورية. لذلك أنا لم أفكر في القارئ إذ لا يعنيني إن كان القارئ مثقفا أو غير مثقف ،أن يفهم الرواية أو لا يفهمها لأننا بالأساس نكتب إبداعا. ومن يكتب الإبداع لا بد أن تكون له مؤهلات لفهمه إلى جانب أن هنالك مستويات عدة للقراءة :إذ هناك القراءة السطحية العادية التي تبحث عن قصة أو حكاية داخل الرواية وهناك من يبحث عن الفن وهناك من يبحث عن الاثنين معا ..كما أن هنالك القارئ الناقد والقارئ الصحفي والقارئ الطالب ...

لقد أردت أن انطلق من المناخ السريالي العجائبي في بعض الأحيان لأصل إلى الواقع. وأقول إن هذه العجائبية وهذه السريالية التي ترونها في الأول إنما هي شئ صغير مقارنة بعجائبية الواقع الذي نعيشه.إلى درجة أن الراوي في الرواية يقول ما جدوى ما أكتبه من هذه العجائبية والواقع أكثر عجائبية مما اكتب.

 الراية:أنت عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب. ألا يمكن ،حسب رأيك، للثقافة الرقمية أن تهدد بانفصال الكاتب عن واقعه خاصة وأن العالم العربي يعتبر الأقل حظا من التكنولوجيا؟

 لقد سبق أن بينت هذا في إحدى الندوات التي شاركت فيها حول مستقبل الأدب والكتاب في عصر الانترنت والمعلومات .وقد قلت إن الأدب بشكل عام لا تهدده أمية الشعوب لان هذا الأدب لا يتوجه إلى كل الشعوب والدليل على ذلك ما تعيشه اليوم رواية أمريكا اللاتينية من ازدهار إلى حد أنها وصلت إلى العالمية. فلماذا ازدهرت هذه الرواية ووصلت إلى العالمية في حين أن مجتمعات أمريكا اللاتينية تعاني من الفقر المدقع ومن التخلف والرجعية بشكل مهول.
ومن ثم لا أعتبر أن الثورة الرقمية يمكن أن تهدد الأدب العربي. بل بالعكس،إنها من الممكن أن تكون وسيلة للكاتب العربي لينتشر ويصل كتابه وإبداعه إلى الآخر. وربما لكي يراهن على قارئ افتراضي آخر ويوسع من دائرة التلقي لأنه لا نبي في أهله.

فأحيانا كثيرة يمكن للتعتيم على كاتب معين داخل بلده أن يجعله مجهولا لكن عندما يموت وبعد سنوات وعقود يقع اكتشاف أن هذا الرجل كان عظيما في بلاده لكن أمورا أخرى حالت دون أن يظهر. فالشابي مثلا لم يأخذ حقه إلا بعد أسهمت أبولو المصرية في انتشاره عربيا ومات وفي قلبه حسرة لان ديوانه لم يطبع وكاد يرمى بالحجارة عندما خرج كتابه" الخيال الشعري عند العرب".وهذا ينسحب على الكثير من الكتاب في المشرق الذين قتلتهم محلية الإعلام والمحسوبية.
بقي الحديث عن استفادة الأدب من الرقمنة ،في الحقيقة نحن مازالنا نتحسس هذه التجربة التي قام بها الصديق محمد سناجلة في الأردن إذ اصدر روايتين:"تشات"و "ظل الواحد". وقد سبق لي أن تحدثت معه حول مستقبل الرواية العربية وقلت له متسائلا: هل في المستقبل سنكتب أدبا أم سنصنعه؟ لا بد أن يكون المبدع مبدعا أولا ثم يستعمل التقنيات ومثلما تحولنا من المخطوط إلى الطباعة والنشر الورقي سنتحول إلى النشر الالكتروني والرقمي و هذا ما لمسته عند الصديق المبدع محمد سناجلة . ومع ذلك فالمناخ التكنولوجي لا يمكن أن يصنع مبدعين إذا لم يصنعهم الحبر قبل ذلك.

 الراية:ماذا يمكن أن تقول للقارئ الخليجي والقطري بصفة خاصة حتى يقرأ المشرط وغيرها مما يكتبه مبدعو المغرب العربي؟

 أنا في علاقة مباشرة بعديد المبدعين في الخليج ونحن في المغرب العربي نقرأ العديد منهم بنهم كبير مثل عبد خال و رجاء عالم ...إذ أن هناك في المغرب العربي ما يسمى بالمصالحة مع الكتاب العربي، نحن نقرأ الكتاب العربي خليجيا كان أو مصريا أو ليبيا ..

لكن هناك قناعة يجب مراجعتها في المشرق وفي مصر تحديدا وهي أن هذا المغرب العربي مغرب نقد وهوامش وليس مغرب إبداع. وقد بدأ الكثير من المشارقة يلتفتون إلى المبدعين المغاربة خاصة بعد أن وصل الكثير من هؤلاء المبدعين إلى المشرق مثل حبيب السالمي من تونس وسالم حميش من المغرب و"أحلام المستغانمي "و"واسيني الأعرج" و" حبيب السائح" من الجزائر...ولنا من الأسماء الواعدة ما يمكن أن يمثل مفاجأة للقارئ الخليجي في اكتشافها لان هؤلاء لا يسافرون كثيرا وكتبهم لا تسافر.وأنا اعد القارئ القطري بأنه سيجد ضالته عندما يقرأ لهؤلاء الشبان مثل عمارة الاخوص من الجزائر وبشير مفتي حتى لا اسمي نفسي.

الحرية شرط أساسي للإبداع الذي يستحق أن يكون إبداعا بالفعل

عن الراية القطرية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى