الخميس ٢ أيار (مايو) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

القصة القصيرة المغربيَّة و جماليَّة المَحكي

يظل علمُ الجمال فرعا من فروع نظرية الأدب، فلا حديث عن الأدب بمعزل عن الجمال، بما هو فصيل فلسفي وترعرع تحت فيئه وتحت عريشه الضليل. ففي منتصف القرن الثامن عشر استقل علم الجمال بمنهاجه و مصطلحاته وعناصره عن باقي العلوم الأخرى. في مقابل ذلك، فالجمال موجود في الطبيعة الحية و الجامدة، في الإنسان و تصرفاته. ففي مستهل القرن التاسع عشر استطاع علم الجمال أن يحلق فوق باقي العلوم، منشدا الحرية التي كان يتوق إليها، بذلك حقق جزءا هاما من طموح القائمين بالشأن الأدبي والثقافي. علاوة على ذلك، فنظرية الفن تضم ثلاثة أبواب كبيرة هي: الأدب و الرسم والموسيقى. إن علم الجمال كامن في الأدب، وذلك عندما يربط الفن و بالواقع. أو عندما يصبح جمالُ الأدب صورة للواقع. ونتيجة لذلك، أصبح لعلم الجمال تعريفٌ ذائع الصيت، "هو علم جوهره الفن يتم عبره استيعاب وإدراك العالم بواسطة الإنسان"، وبالتالي قد ألف ـ أي التعريف ـ بين مختلف التوجهات، التي تهتم بعلم الأدب.

يغدو مدخلـُنا، في ذلك، فكرُ طه حسين. لا ضير أن نشير إلى الكيفية التي يتمظهر بها الجمال في فكر عميد الأدب، حيث يقول هذا الأخير في "خصام و نقد": "إن اللغة هي صورة الأدب، وأن المعاني هي مادته وإن صورة الأدب و مادته لا يفترقان، أو هما شيء واحد، إن شئت، وأضف إليهما عنصرا ثالثا، إن صح أن يستعمل العدد في مثل هذا الموضع، هذا العنصر يلزمهما لزوما لا فكاك منه وهو عنصر الجمال". وتأسيسا على ذلك تربع علم الجمال في الخطاب الأدبي، بل لا تقوم قائمة الأدب من دون هذا الغطاء الجمالي، الذي يلف مكوناته الإبداعية. فالجمال، حسب طه حسين، لا يكمن فقط في اختيار المعاني المناسبة والألفاظ الرنانة، بل التوليف بينهما في انسجام تام. علاوة على ذلك، فمن بين أهم مقومات الخطاب الأدبي، عند عميد الأدب، هو عندما تـُلف كلٌ من المعاني والألفاظ في ثوب الجمال الفني، حينئذ نتحدث عن الإبداع الحقيقي.

وفي سبيل ذلك فالجمال الفني، إذن، شأن داخلي في الخطاب الأدبي، يتوسل اللفظة المناسبة والمعنى الأنجع داخل تصوير مميز، وهذا كله يسعى نحو تحقيق الهدف الأسمى من الأدب، ألا وهو: بلاغة الإمتاع. فمسار الجمال الفني في الخطاب القصصي يكتسي طابعا تشعُّّبيا، بمعنى أنه يمتح ويتلون بمختلف التيارات الفكرية و النفسية و الأيديولوجية و التاريخيّة أيضا. لهذا السبب نجد تدرجا في الوعي بأهمية المقاربة الفكرية للواقع، وفيها يسكن الجمال الفني، كمقاربة تهدف نحو تحقيق الانسجام و التكامل في بناء المجتمع الواحد.

إن النسق الداخلي للقصة المغربية بالخصوص، من حيث إنه موطن جمالها، قد عرف تحولات جوهرية هامة، خصوصا ما تعلق بالشكل و النسق الخارجي، ففي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي ركزت جماليات القصة المغربية على ما هو خارج الذات الكاتبة، ظروف اجتماعية، سياسية، نفسية... إلخ. ومع حصول المغرب على الاستقلال تبوصِل الجمالُ الفنيُّ في القصة في اتجاه اقتناص هموم و مشاكل الذات المبدعة للحكي من الداخل. إن هذه الالتفاتة جاءت على شكل تسونامي حقيقي اجتاح العالم بأسره، وكان للأدب المغربي نصيب منه. في هذا المسعى نجد أن القصة المغربية بدأت تفيد من العلوم الإنسانيَّة بمختلف مشاربها المعرفيَّة، التي اقتحمت الخطاب الإبداعي عموما وجنس القصة بالخصوص. ومهدت لسمت واضح نحو اجتراح مواضيع ذات علاقة بجوِّانية الإنسان الحديث. فما كان للحلم و الرؤيا واللاشعور و الهو و الليبيدو، إلا أن تطفوا كجزر عائمة و أرخبيلات فوق سطوح الإبداع.

إن هذا الصعودَ الصَّاروخيَّ للذات، وهيمنتها على المحكي له مبرراته و مسوغاته. في مقدمتها صعودُ نجم الرومانسية في الأدب العالمي، بما هي تبغي الكمالَ و الجمالَ في جوهر الإنسان وتخاطبه من الداخل. وتمحي صورته السلبية، التي ألفقتها له الحربان الكونيان في القرن الماضي. فضلا عن تصوير جوهره ذي المنابع الطُّاهرة التي تصفوا عند الأشـُنَّة والغياض، متعاليا بذلك عن جوهر الشر الكامن فيه . ونتيجة لذلك بدأ الإحساسُ و الشعورُ بثقل المسؤولية الملقاة على عاتق كاتب القصة القصيرة بالظهور. فما كان للتخطيط والتفكير و بلورة الإحساس، كمكونات أساسية، إلا أن تصبح جميعُها من صنعة الكتابة القصصية. فضلا عن ربط جسور الأدب عموما بالحياة و بالعالم و بالناس، وتماشيا مع ذلك يظل البعدُ الرومانسي حاضرا في القصة القصيرة المغربية من خلال أعمال روادها. فالاحتفاء بالذات يكون نابعا من خلال بنية تلفظية تـُعنى بالضمير أكثر مما تـُعنى بالبناء ككل. ومنه يتم التداخل على مستوى الذات و الأخر، إلى حد التواشج و التلاحم و الانسجام.

لكن الاهتمام بالذات لا يصفو معينه، عندما نريد أن نعطي تعريفا جامعا مانعا للذات المتحكمة في وعي الحكي القصصي. فضلا عن أن مفهوم الذات، فلسفيا، ينحو نحو التقلب اللانهائي، وبالتالي فهي عصية عن الاختزال و عن التنميط. في هذا الاتجاه سنجد أحمد بوزفور يخاطب الذات كما يخاطب الآخر في سيرورة تفاعلية ترمي بظلالها على القارئ. يقول في قصة "اللوح المحفوظ "من ديوان السندباد:... ونزل من الباب الخلفي للكار، وفي يده الحقيبة الجلدية الحمراء... "إن الآخر ما هو إلا الذات الفاعلة بإسقاطاتها المعرفية و الثقافية والتاريخيّة والسيكولوجية. بهذا التداخل التلفظي بين الذات و الآخر تارة أو بين الذات و النحن أو بين الذات و الهُم ضمير الجمع الغائب تارة أخرى، يزرع فتنة المحكي في سِدْرة المنتهى، وتكتسي معه الحكاية جمالياتها الفنية و الدلاليَّة.

مما سبق يمكننا أن نقول: إن للحكي بؤرا متعددة ً، بمعنى أن توصيفات الحكي تستقي فعاليتها ونجاعتها من عدة حقول معرفية، تتراصف أمام الكاتب، و يختار بعد ذلك المنهج المناسب والمعجم الشائق اللائق. ولكي لا يتشتت الخيط الناظم، لا ضير أن نشير إلى عناصرَ إضافية تتوهج معها جمالية القصة، وهي ذاهبة نحو بناء عالمها الخاص. يشير في هذا الصدد الكاتب المغربي محمد معتصم إلى ثمة مكونات، لابد للقاص أن يتناولها ويدمغَ بها حكيهُ، نقف عند أهمها و تمفصلاته، التي تؤثر في البناء الجمالي العام للقصة القصيرة :
أـ بناء المحتوى، و أثره في الصياغة الجماليَّة للقصة القصيرة:

إن الانتاج القصصي هو بناء و استراتيجية متفاعلة العناصر و المكونات. فلا يستقيم عودُ القصة القصيرة من دون الحوافز، بما هي الوسيلة و الأداة التي تساعد على تنامي الأحداث، وتسارعها نحو تأزيم جميع عناصر الحكي من شخوص و مكان و زمان. وفي هذا الإطار يشير الباحث و الدكتور حميد لحمداني في كتابه "بنية النص السردي"، إلى أن الحوافز تقتضي الخضوع لمبدأ السببية، و للنظام الداخلي، وهذا من أكبر الروافد الجماليّة، التي تضخ الحيوية والرشاقة في جسد القصة بصفة عامة. علاوة على ذلك فالحكي هو مجموع الأحداث المتداخلة التي تشكل الحكاية، فالحوافز لا تزيغ عن اللغة و وظائفها. كما أن للزمن يد طولى في التأثير المباشر على تسلسل الأحداث في نسق و ناموس معين و خاص.
وفي هذا الإطار، فالتقيد بالزمن، في الدراسات الحديثة، أصبح غير مجد و غير ملزم للقاص. فأسطورة الزمن التصاعدي في الحكي أصبحت متجاوزة في التاريخ، وتنأى عن الواقع الذي يفرض التعاقب فرضا طبيعيا. فكما أشار الباحث الشكلاني الروسي الكبير توماتشفسكي أن ثمة علاقة جوانيَّة بين تعدد الحوافز أو الحوافز المشتركة، في المتن الحكائي، و الرؤية الفنية، التي يسعى إليها الإبداع عموما.

وفي المقابل نجد عند عالم البنيوية الفرنسي رولان بارث ارتباط الحوافز بالألفاظ و العبارات. وذلك من خلال البحث عن المعنى الثاوي في الخطاب القصصي. فالحوافز، عند بارث، تـُخلق من اللغة ومن الدلالات. فالتبئير، حسب سعيد يقطين، ينصب على المفردات لاستخراج الوظائف، التي تقوم بها والحوافز التي يسعى إليها الكاتبُ.

ب ـ البناءات المساعدة لانفتاح جنس القصة القصيرة على الظاهرة الانسانيّة:

في ظل هذا التجاذب المعرفي، حول بناء محتوى الإبداع القصصي بين مختلف المدارس والتيارات، إلا أن هناك اتفاقا حول شيء مهم، اعتبر كجسرٍ يوحد مختلف الروافد المعرفية، التي تغذي الفكر الإنساني بعامة. فالجماليّة أو بلاغة الإمتاع تكون حاضرة و متحققة من خلال إقحام مكونات ذات صلة بالواقع، تدخل في تناغم و باقي المكونات الأخرى. غير أن البناء لا يكتمل له صرحٌ إلا بالوقوق على البناءات العامة، التي تسيج محتويات القصة القصيرة، وترمي بها في أتون إثبات وجود الذات، كجنس أدبي قادر على احتواء الظاهرة الإنسانيَّة. وفي هذا الصدد نشير إلى بعض هذه الأنواع في عُجالة، ومن بين هذه البناءات التي تفيد المحتوى، نجد:

1ـ البناء المنغلق: وفيه يكون القاص شديد الحرص على الاختزال و تقليص الهوامش المولدة للحكي و الفعل السردي،

2 ـ البناء المتفجر: ومنه ينطلق الكاتب لينسج عوالمه الخاصة، و يتيه في دروب الإبداع. مفجرا العلاقات، حيث تغدو القصة مشتلا للعديد من الاحساسات المتدفقة في سرد الحكاية،

3 ـ البناء المتشظي: وفي هذا الضرب تصبح القصة تعرف التشتت و التلاشي وعدم الانسجام بين مكوناتها، وبالتالي تختزل على شكل لوحات فنية، ينعدم فيها الترابط، الذي يحفظ ماء النص القصصي.

إن لهذه البناءات الخارجية للنصوص القصصية لفعلا سحريّا في التأثير المباشر على تلقي القصة القصيرة بالمغرب. إذن، فبلاغة الإمتاع لا تقف عند حدود الحوافز و الوظائف، بل تتعدى ذلك لتصل إلى ما له صلة بالبناء الخارجي ككل. كما أن ربط المنتوج الإبداعي، بما هو واقعي شيء تثمنه التوجهات الحديثة في الإبداع القصصي، شريطة أن يتحقق الانسجامُ و التوافقُ بين مختلف المكونات الأخرى.

ومن الطبيعي أن يعي الإنسان دورَه في الوجود، ومن الطبيعي أيضا أن يحتل الحكي جزءا كبيرا من تواصلاته اليومية. فإلى جوار ذلك فكل الأجناس الأدبية تجعل من الحكاية عمودها الأسنى، وعليها تبني صرحها الوجودي. فلا تقوم قائمة الجنس الأدبي من دون هذا الملفوظ، الذي يخيط لـُحمة السرد. فالحكاية تخترق القصة و الرواية و المسرح و السينما و الفن التشكيلي... إلخ، غير أن علاقتها بالسرد تظل ملتبسة. وبشكل مماثل، فالحكاية تغتني بالرموز والإشارات، و تجعل من الإبداع وصيدا مثاليا نحو تشكيل الواقع عن طريق الحكي.

بالمقابل فالبناء السردي للمواضيع القصصية، شديدة الترابط و الارتباط بالمتغيرات التي تطرأ داخل المجتمع، وإذا كنا نتحدث عن المجتمع المغربي مثلا، فإن مواضيع القصة راصفت التحولات التي مر منها المجتمع بُعيد الاستقلال. فهناك مواضيع تخص التاريخ (محمد الزنيبر) في مجموعته "الهواءُ الجديد"، وهناك مواضيعُ لها ارتباط بالرومانسية الذاتية (عبد المجيد بن جلون) في باكورته القصصية "وادي الدماء"، وهناك مواضيعُ ذات البعد الاجتماعي (محمد زفزاف) في مجموعته "بائعة الورد "و الشق السياسي كان للمرحوم (محمد غرناط ) في "داء الذئب "...إلخ. هذه الفسيفسائية اغتنت بفعل الدراسات الغربيَّة، وانفتاحها الدائم على تشكيل وعي جديد و مسجور بالتغيير نحو ما هو أفضلُ وأنجعُ.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى