الخميس ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١٧
التبئير الجمالي في تشكيل بنية
بقلم عصام شرتح

القصيدة عند بشرى البستاني

لاشك في أن التبئر الجمالي يعد نقطة تمفصل الرؤيا، ومحرقها الجمالي، لاسيما في تقييم مصدر جمالية المنتج الفني،وقيمته،ومن هذا المنطلق، يعد التبئر الدليل المرجعي الأهم في الكشف عن مركز الحساسية الجمالية في هذا المنتج الفني، أو ذاك، ولا تتحدد القيم الجمالية – على مكمن الحقيقة لا المجاز- إلا بالكشف عن مركز نشاط القيم الجمالية،والمحور الذي تنبثق منه باقي القيم الجمالية. وقد لا نجافي الحقيقة في قولنا: إن معظم النتاجات الجمالية في لغة الحداثة، ترتكز على محرق جمالي مؤثر في توزيع القيم الجمالية الأخرى،وإبراز مؤشرها الجمالي؛ بمعنى أنه ثمة محرق جمالي مركزي الرؤيا، يؤثر في باقي القيم الجمالية داخل المنتج الفني، مما يدل على أنه ثمة محرق جوهري في كل القصائد المبدعة يجعلها ذات رؤيا شفافة،ومنظور مغاير.

ونقصد ب (التبئير الجمالي) التبئير اللغوي أو التبئير التصويري الجمالي الذي يرتقي بالرؤيا الشعرية من طابعها الحسي، إلى طابعها المجرد، وهذا يفعِّل الرؤيا الشعرية، لتنفلت من عقالها الحسي إلى طابعها المجرد؛ وهذا يدلنا على أن شعرية التبئير الجمالي تتحكم في الأنساق اللغوية، تبعاً لمهارة الشاعر وقيمته الإبداعية في خلق الاستثارة الجمالية، وتحقيق عناصر الاستثارة الجمالية الخلاقة.

ووفق هذا التصور، يمكن القول:

إن أي عمل إبداعي فني مؤثر لا بد وأن ينطوي على قيم جوهرية مبئِّرة للرؤيا الجمالية، أو الهدف الجمالي المنشود؛ والمبدع لا يبئِّر الرؤيا الفنية إلا على ما هو جوهري وأصيل وإبداعي فيها، ولهذا سمي الشاعر بالملهم، لأنه يرى ما خلف الأشياء، يرى بعين الإلهام، بعين البصيرة لا البصر، وما الشاعر إلا هذا الملهم الذي يؤلف الأشياء؛ ليشف من خلالها ما هو بعيد، وإيحائي، ولا متوقع؛ يقول (ما لارميه):" إن الشاعر هو الرجل الذي يُحلِّق برؤيته، بأن يرى رؤية سماوية".
ومن هذا المنطلق، يعد (التبئير الجمالي) هو"رؤيا الرؤيا"، أو"رؤيا الجوهر" ؛ وهذه الرؤيا هي جوهر الفنون جميعها، ومكمن سرها الإبداعي ؛ ومن أجل هذا، قال بريتون:"إننا لم نعد نرى هذا العالم كما هو... أيتها الطبيعة... إنه الشعر ينكر علاماتك... أيتها الأشياء ماذا تهمه خواصك.فالشعر لا يعرف الراحة مادام لم يضع يده الذاكرة للحقائق على الكون كله".

وتبعاً لهذا المنظور، فالشاعر لا ينظر إلى العالم من منظار ما هو كائن، وإنما من منظار ما هو ممكن أن يكون؛ فالشاعر لا ينظر إلى الأشياء بمنظار الطبيعة، وحقائقها، وإنما بمنظار الجمال، وحيثياته الجوهرية ؛ ولهذا يرى (بريتون) أن الشاعر الجمالي المبدع هو الشاعر الرؤيوي، أو الشاعر المستقبلي الذي"يأخذ على عاتقه لأول مرة ودون ضيق استقبال النداءات التي تتدافع فيه، من أعماق النفوس، ونقلها للآخرين". كما لو كانت تصدر من أعماقهم، لا من أعماقه، ومن تجاربهم لا من تجربته الخاصة؛ ولهذا عد (بريتون) الفن بكلماته، وتبئير قيمه، ومنتوجاته الجمالية، خاصة فن الشعر إذ يقول:" لم يعد الشعر يكتفي بالكمال الشكلي، بل إن هدفه هو معرفة المجهول، والتعريف به". ويرى أن"الفن لا ينبغي أن يكون متطفلاً على الحقيقة". وتبعاً لهذا، يرى (بريتون) أنه" من الضروري أن تظل القصيدة غاية في ذاتها". أي أن تكون حقيقتها الإبداعية،هي سر وجودها من حيث الإيحاء، والفاعلية، والتأثير... فالمنتج الفني، إذاً، غائيته في منتجه الفني، وبنيته الجمالية؛ وبهذا المقترب الرؤيوي المحايث لمنظورنا، يقول (برتليمي):" هكذا أصبح العمل الفني عربة تحمل مغزى، وسراً ورسالة؛ وهي رسالة ذات بناء مطابق لشكلها، متميز عن "محتواه المعنوي، أو المذهبي، رغم أنه لا ينفصل عنه، هناك -إذاً- معرفة جمالية نابعة من ذاتها، يكون الفن بهذا وسيلة خاصة، تستولي على الإنسان استيلاء".

والعمل الفني- بهذا المنظور- غائيته- في منظوره، وتبئير جوهره، ومنتجه الجمالي، والرسالة الإبداعية التي يوصلها بحس جمالي ومعنوي دلالي عميق، ولا يخلد الفن إلا بالقيم الجمالية المبئرة التي يتم اكتشافها على مراحل، والتي تبقى في توالد مستمر على الدوام، يقول الناقد والشاعر خليل الموسى:" يخلد النص بالقراءة المتجددة، أو تعددها، واختلاف وجهات النظر بالنص.. وسمات النص الخالدة كثيرة بدءاً من موضوعه الإنساني، إلى ثراه، وتعدد مستوياته، ومكنوناته إلى شكله العضوي الذي يشد بعضه إلى بعض، ومقوماته، ومكوناته المختلفة الشامخة، والمشرئبة، والعاطفة الصادقة، والنزعة الإنسانية الفياضة ".

وتأسيساً على ما سبق يمكن أن نعد" التبئير الجمالي" هو المخزون الجمالي للمنتج الإبداعي، أو الفني الفذ، فكما أن للأرض نواة مركزية، أو بؤرة مركزية عميقة فللمنتج الإبداعي بؤرة جمالية هي مركزه الإشعاعي، والترجمة الجمالية عن مخزونه الإبداعي الأصيل.

وما ينبغي أن ننوه إليه أن [التبئير الجمالي] هو العنصر الجوهري العميق في تقييم المنتج الجمالي، والكشف عن معدنه الأصيل، فالناقد الجمالي ليعثر على القيم الجوهرية العميقة للمنتج الفني ينبغي أن يكتشف مفرزات المنتج، وحيثياته الجزئية، وعلاقتها بالعمل ككل، فمثلاُ لتقييم المنتج الشعري جمالياً ينبغي أن يعي المحلل أبعاد الكلمة، وعلائقها، وروابطها ضمن القصيدة، وأن يستشف جوهرها الإبداعي، ونبضها الجمالي المتميز حتى يستطيع أن يخلص إلى حكم جمالي دقيق، أو قيمة جمالية جوهرية في القصيدة، وكما هو معروف فإن الشاعر يتحثث الكلمة، ليبث طاقتها الروحية، نظراً إلى الحساسية الجمالية الشديدة التي يملكها، يقول (آلان): "إن الحساسية التي يتصف بها الشاعر تنحصر بلا شك في أنه لا يزال يسمع صيحة الكلام الأولى، وفي أنه لا يزال يربط ربطاً خفياً بين النغم والمعنى، لكي يعثر على الصفة الطبيعية للغة، أي للصلات الوثيقة بين الأسماء، والأشكال، والأفكار".

وهذا يعني أن الناقد الجمالي يتوجب عليه أن يعي خصائص الكلمة، ومؤثراتها الجمالية، وإيحاءاتها، لاستشفاف القيم الجمالية التي تولدها الكلمة ضمن منتوجها الإبداعي، يقول (سان جون بيرس):"لا الشيء المكتوب، بل الشيء نفسه وقد أخذه لحظة حيوية، وفي مجموعه كاملاً". فالذي يمنح الجاذبية في المنتجات الفنية عموماً هو الإيحاء، والنبض الجمالي؛ والبؤر الجوهرية العميقة المختزنة في هذا المنتج أو ذاك؛ لتحقق تكاملها، وتوازنها الفني؛ وهنا، يمتاز كل منتج إبداعي عن الآخر؛ بالقدرة الروحية الإبداعية الوهاجة التي يتضمنها، ومقدار جاذبية كل حيثية جمالية من هذا المنتج، لإبرازها، وتظهيرها إبداعياً، وتبعاً لهذا، فإن المنتج الشعري، ليحقق منتوجه الإبداعي المثير يتوجب عليه أن يولد في الكلمة الشعرية طاقة إيحائية مبئِّرة للحدث والرؤيا معاً، لإكساب الكلمة طابعاً جمالياً إيحائياً خاصاً.

وبهذا المنزع الرؤيوي يتحدث (جان جوف) عن"القدرة الروحانية للكلمة في خلق الشيء". وبناءً على هذا" تصبح تجربة الشاعر هي أنه بدلاً من أن يعرف الأشياء أولاً بأسمائها يلوح أنه يحدث اتصالاً ساكناً بينه وبينها، ثم يحدث أن يستدير نحو هذا النوع الآخر من الأشياء التي هي الكلمات بالنسبة له، يلمسها، ويتحثثها لكي يكتشف فيها ضوئية صغيرة خاصة بها.... فبدلاً من أن تكون الكلمات تعبيراً عادياً يشير إلى الأشياء تجده يعدها بمثابة فخ يمسك بالحقيقة الهاربة. وبالاختصار تصبح كلها عنده مرآة العالم، أو أنها المعادل الوجودي للعالم".

وهذا يعني أن الشاعر المبدع هو الذي يخلق الكلمة خلقاً جديداً، لتكتسب أطيافاً دلالية جديدة للكون لتكون مرآة العالم أو المعادل الوجودي لهذا العالم؛ وبهذا فإن التبئير الجمالي يعد قيمة مثلى أو عظمى في الفنون الجمالية كلها، خاصة فن الشعر؛ إذ إن الشعر يخلق لذته الجمالية من هذا الرنين المنبعث من أصداء الكلمات، وطاقتها المبئرة للدلالة،والإيحاء، يقول (كلوديل):"إن اللذة تتولد من التقارب، من التلامس والخليط، وعن طريق معان توضع في موضع" الاهتزاز"، وعن طريق أفكار تنتمي إلى مختلف المجالات، بحيث نشعر بشعور يمتد بنا نحو السعادة، وينفذ إلى قوانا نفاذاً يكاد يكون إلهياً".

وبهذا المنظور، فإن المنتج الإبداعي لا يخلق قيمته الجمالية إلا باستثارتنا، ورعشتنا إزاء اللذة الجمالية التي أثارها في داخلنا، وسلبت قوانا بأثرها الجمالي الرائق، بنشوة اللذة، ومتعة الإحساس. يقول الشاعر الفلسطيني صالح هواري:" الشعر- كما قال إلياس أبو شبكة- [غفلة واعية، وحالة غائمة من الأحاسيس المرتبكة، والمتشابكة التي تختلج في ذات المبدع، وتلح عليه للخروج إلى الهواء الطلق]. ولا يمكن أن نفسر هذه الحالة الغامضة من الشعور الداخلي إلا إذا مرت عليها أنامل اللغة، لتصوغ عجينتها وفق ما ترسمه المخيلة.. والشاعر الذي يكابد التجربة شاعر (بجنونه المبدع) يستطيع أن يخلق لنا من أحاسيسه، وخلجاته الروحية حالات فنية، يبدعها خياله المتوقد بشرارات هواجسه... وعلى هذا أقول: الشعر إحساس قبل كل شيء، ولا يستحيل هذا الإحساس إلى شكل فني باهر إلا إذا مسته يد الصنعة بإزميلها القادر على تشكيل الجوهر الذي يختفي خلف تجاعيد الروح المسكونة بشرارات الإبداع".

وبهذا المنظور، فالمنتج الفني سواء أكان شعراً، أم فناً آخر، لا بد لتقييمه جمالياً من تبئير القيمة الجمالية، والبحث عن جوهرها المتوهج المسكون في بنية المنتج الفني ذاته؛ إذ إن لكل منتج فني جوهراً إبداعياً أصيلاً، غاية المؤول الجمالي أو الناقد الجمالي الرئيسية الكشف عن الجوهر، لاستخلاص الحكم الجمالي المركز، أو القيمة الجمالية المثلى في هذا الفن أو ذاك.
ولهذا؛ تعد مسألة (التبئير الجمالي) الخطوة الأبرز، أو الخطوة الأعمق والأهم في تقييم المنتج الفني جمالياً؛ لإنجاح مهمة المؤول الجمالي في مغامرته الجمالية (مغامرة الكشف والاستدلال) عن ركائز المنتوجات الفنية، ومنبع ثقلها الجمالي.

فواعل التبئير الجمالي في بنية القصيدة المعاصرة عند بشرى البستاني
ما من شك في أن اللغة الشعرية عند الشاعرة بشرى البستاني تحتفي بالمؤثرات والتقنيات الجمالية التي تجعل بنية القصيدة- لديها- خصبة بدلالاتها،وإيحاءاتها الخلاقة، التي تتنوع تبعاً لمثيرات كل قصيدة،وأساليب تشكيلها وخلقها الفني، مما يدل على أن فواعل الشعرية تظهر في كل مايثيرها،ويحقق مصدر جماليتها،ونقطة إثارتها الجمالية.

ومن هنا،جاء ت أهمية دراسة (التبئير الشعري) في قصائد بشرى البستاني، للوقوف على فواعل النص الجمالية المبئرة للحدث، والموقف، والرؤيا الشعرية؛ وهذا يعني أن التبئير الشعري يمثل نقطة تمفصل الإثارة الجمالية في هذا النص الشعري، أو ذاك، وللتدليل على فاعلية التبئير الجمالي في لغة الشعر عند بشرى البستاني نأخذ قولها الشعري التالي:

"أسألكَ..
لماذا أتّسعُ وتضيقُ مفرداتُكْ
وأتحررُ،
وتنكسرُ غصونُكْ..
وأشتعلُ،
وينطفئُ البنفسج ْ...!
وقلبي تفاحةٌ تقطّعُها سكينٌ
على مائدة شُرب.."(15).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن التبئير الجمالي يرتكز في قصائد بشرى البستاني على الحدث الشعري، أو الصورة الشعرية المبئرة للحدث أو المشهد الشعري،وهاهنا، تبئِّر الشاعرة الإثارة الجمالية على تقنية الصورة الوجدية التي تتنوع مغرياتها ومؤثراتها الجمالية باختلاف كل صورة،واختلاف طابعها الجدلي المنحرف،وهنا اشتعلت الصور بالدلالات الجدلية التي تعتمد التضاد،مقوماً فنياً في تبئير الدلالة بنقيضها لتعضيد الإيجاب بالسلب،والسلب بالإيجاب،على شاكلة الصور المبئرة للمعنى المضاد، أو المعنى المضاعف،كما في نسق الصور التالية:[ينطفئ البنفسج= قلبي تفاحة تقطعها سكين]، فالتضاد قائم بين (الانطفاء/ والاشتعال)،و(الجمال/والقبح)و(الحياة/ والموت)و (الحرية/ القيدية)،وهذه الثنائيات مرجعها إلى رؤيا جمالية تتوق من خلالها الشاعرة إلى محاربة القبح بالجمال، والعبودية بالحرية،والموت ببذور الحياة؛ رداً على كل جوانب السلب، وصورها المرعبة الخانقة في الوجود،ولهذا أشارت إلى ذلك بصريح العبارة (لماذا أتّسعُ وتضيقُ مفرداتُكْ وأتحررُ /وتنكسرُ غصونُكْ..)؛فهذه الرؤيا المضادة للسلب هي ما بنت عليها قصائدها، ليس فقط على مستوى قصيدة،وإنما على مستوى قصائد، فكما وسمت إحدى دواوينها بكتاب (الوجد) وسمت ديوانها الآخر بديوان (العذاب)، وشتان في الدلالة ما بين الوجد، ودلالة العذاب، وما تضمه الصور الأولى من أنس ووداعة وتأثيث للجمال،وما تدل عليه قصائدها المعذبة من قتل وموت وتدمير؛ وللتدليل على الوجه الموارب، أو النقيض في ديوانها الموسوم ب (العذاب ) نأخذ قولها:

"شجرٌ مذبوحٌ يعدو نحو الأفقْ..
وغصونٌ تساقطُ ثمرا ميتا في شُرَف قلبي
قلبي الذي خانته طيورُكْ..
قلبي الذي فرش أدغالهُ لتعبرْ
ونشر غيومَه ُ،
كي تستريحَ من عطب شمسٍ ماكرة ْ...
قلبي الذي افترس تفاحَهُ دودُ المحنْ..
وانفرط يمامُهُ في شهيق العاصفةْ...
والبرقُ يصرعُ أعمدة الكونْ
يصرعني البرقُ،
وآهْ....
جماجمُ الألم تتكسَّرُ في غور روحي"(16).

إن التبئير الجمالي الذي تعتمده الشاعرة، تروم من خلاله إبراز المشاهد والمظاهر السلبية في واقعها الوجودي المأزوم؛ وهذا ما تشير إليه في الصور الشعرية المعبرة عن عمق الحدث، وعمق المشاعر الصاخبة التي تعتمر في داخلها من وجاعة وانكسار وتصدع داخلي مأزوم، على شاكلة الصور التالية:[شجرٌ مذبوح.. وغصونٌ تساقط ثمراً ميتاً في شرف قلبي- قلبي الذي افترس تفاحَهُ دودُ المحن..]؛ وهذه الصور تعبر عن تقويض مظاهر السلب بكشفها،وكشف صورها المرعبة ومظاهر الخانقة المؤلمة على النفس،لتعضيد الإيجاب،وتأثيث أركانه،ولهذا رغم قسوة الصور،ودلالاتها المأزومة الخانقة،تحاول الشاعر بث شكواها بحرقة، لعلها تسمع الكون صدى ارتداداتها الشعورية المكلومة بالجراح والحسرات الحارقة:[وآه... جماجمُ الألم تتكسَّرُ في غور روحي]؛وهذا يدلنا على أن التبئير الجمالي الذي تعتمده الشاعرة يتجلى في عمق الصور وموحياتها ومؤثراتها الحارقة،دلالة على مواجهة السلب بالإيجاب،وتأثيث الإيجاب بتقويض أركان السلب،والتعبير عن ذلك بمصداقية في الرؤيا، واللقطات والمشاهد المعززة لكلا الجانبين.
ومن المظاهر البارزة الدالة على عمق الإيحاء التبئير اللغوي الذي يثير الحساسية الجمالية في الرمز والإيحاء الجمالي،على شاكلة قولها:

"في صوتك المربكِ بالحيرة كأصابع الزمنْ
أفتحُ طرقَ الوقار ِ،
وأشُقُّ مسالكَ العتمة ْ،
لتنهمرَ ينابيعي تغسلُ صدأ المعاركِ الخاسرة ِ
في أعمق شِعاب الروحْ.
في صمتيَ الوثنيّ أكتشفُ أنك آتٍ،
فأفتح ُ جِناني،
وأُدخلكَ قاعة َ العرشْ،
فتبكي الغزالاتُ،
وتنسابُ بالنشوةِ الغصونْ.."(17).

هنا، تؤسس الشاعرة المشاهد والصور الشعرية على تقنية (التبئير الجمالي) التي تعتمد المشاهد الصوفية الشفيفة إيذاناً بحالة الوجد القصوى والهدهدة الروحية التي وصلت إليها، من خلال التشكيلات اللغوية التي تفيض بصدى أحاسيسها الفاعلة في تصوير الحالة بإحساسها وشعورها المتقد ولهاً، وتوقاً، وصبابة، وكأن حالة التوق الروحي التي تعتصرها جعلت المعجم اللغوي- لديها – يفيض بالصور الدالة على عمق الحالة وقوة التمثيل الجمالي لها على شاكلة قولها:[أشق مسالك العتمة- في أعمق شِعاب الروحْ /في صمتيَ الوثنيّ أكتشفُ أنك آتٍ]؛ وهذا يدلنا على أن مثيرات الشعرية أو مثيرات الحدث الشعري تجعل الرؤيا قمة في التخليق والصبابة الروحية التي تتملك الشاعرة لحظة التشكيل والخلق الشعري؛ وهذا يقودنا إلى حقيقة جد مؤكدة،وهي أن التبئير الجمالي – في قصائدها يتمركز على الحدث البليغ والصورة البليغة في دلالتها،والتي تعبر عن عمق الرؤيا الشعرية من الصميم، فالتبئير اللغوي يدخل في صلب التبئير الدلالي،والتبئر الدلالي يدخل في صلب التبئير البصري،مما يدل على تفاعل الإيقاعات الشعرية جميعها في خلق الأنساق البليغة، والرؤى العميقة بدلالاتها ورؤاها الشعرية التي تفيض رقة وحساسية وقيمة جمالية في شكل التعبير ومحتواه.

وأولى مؤشرات التبئير الجمالي في قصائد بشرى البستاني مايلي:

المهارة الجمالية:

لاشك في أن المهارة الجمالية الخلاقة هي أولى مؤشرات التبئير الجمالي الفعال التي تتحكم في المسارات النصية للمنتج الفني،ولهذا تختلف فاعلية التبئير الجمالي من مبدع إلى آخر،ومن نص إلى نص آخر، حسب فاعلية كل منتج فني،ومستوى إثارته وجذبه للمتلقي؛ والمهارة الجمالية التي تميز منتج فني من منتج فني آخر،والقيمة الجمالية التي ينطوي عليها؛وبتقديرنا:إن قيمة أي مبدع جمالياً تكمن في مهارته الجمالية إزاء صنع منتجه الفني، والمستوى الرائق الذي وصل إليه، والذروة الجمالية التي حققها في منتجه الفني حتى انماز بخصوصيته الإبداعية المؤثرة، وارتقى جمالياً عما سواه؛ وهذا يعني أن المهارة الجمالية الناجحة، والمستوى الفني الذي ارتقت بالمنتج الإبداعي، هي القيمة التي تميز مبدع من آخر، وترتقي بأسهم مبدع جمالي على مبدع جمالي آخر، ومن أجل ذلك لا تحقق المهارة الجمالية في المنتج الفني ذروتها في نمو الحيز الجمالي للمنتج الإبداعي إلا بتفاعلها وتضافرها مع المهارة الجمالية التي يملكها المتلقي؛ للارتقاء جمالياً بالمنتج الإبداعي، وتقييمه فنياً،فالمنتج الإبداعي هو انعكاس فني لمهارة المبدع، وليس ذلك فحسب، بل هو انعكاس فني لمهارة القارئ، أو المؤول كذلك؛ فالمنتج الجمالي هو حصيلة مهارة جمالية لدى المبدع أولاً، ولدى المتلقي ثانياً؛ وتبعاً لهذا، تزداد الأسهم الجمالية في المنتج الإبداعي قيمة، بازدياد أسهم تلقيه جمالياً لدى القارئ، لأن ترجمة القيم الجمالية للمنتج الإبداعي تتوقف على مهارة المتلقي، وخبرته الجمالية، وفهمه للمنتج الفني، وبؤره العميقة.

ومن المفيد للغاية التأكيد أن المهارة الجمالية للمنتج الإبداعي لا تنفي المصادفة الإبداعية، أو الصدفة الجمالية، للارتقاء بالمنتج الفني، ورفع أسهمه الجمالية؛ فالصدفة الإبداعية هي" مهارة جمالية" أو ذروة الحس الجمالي، والنبض الجمالي، بوصفها على حد تعبير (تلزر):" أداة عمل فني"(18).والمبدع ليس بمنأى عن المصادفة الجمالية، أو المصادفة الإبداعية، كما هي حال المصادفة في واقعنا المعيش؛ وبقدر ما يكون أثر المصادفة أكثر غوراً وعمقاً في خلجات الروح المبدعة، بقدر ما ترتقي سوية المنتج الإبداعي قيمة، وخصوصية، وارتقاءً جمالياً ملحوظاً؛ يقول الشاعر صالح هواري:" المبدع كائن في يده ريشة مغموسة في محبرة دمه.. يرى الأشياء حوله، فيرسمها بكلمات من الضوء والعطر. ومن معين محيطه ينهل المفردات، ليجسدها لوحات فنية على الورق، وكلما كان حفيف النسيم حوله ناعماً ظهر حرير القصيدة متماوجاً وناعماً... وكلما هزت الريح بجذع خياله، تساقطت ثمار الصور، والمعاني... وهل هناك أقدر من المبدع على التأثر بما حوله، والتأثير به ؛ والمبدع الناجح، لكي يخلق نصاً حقيقياً، لا بد من أن يتحد بالأشياء وتتحد به، وأن يتعامل مع معطيات اللغة تعاملاً شعرياً، يتصاعد فيه خطه التعبيري. والموهبة وحدها لا تكفي لصناعة مبدع متفوق، ولا بد من الثقافة والوعي بمدركات الواقع المحيط، والاستعداد الفطري للتعامل مع الصور الفنية، تعاملاً قادراً على الابتكار والخلق"(19).

وهذا يعني أن الموهبة الإبداعية، والتبئير الجمالي في تمثيلها ما هي إلا حصيلة رؤى، وتجارب، وثقافة، ومخزون معرفي واسع؛ وإحساس جمالي إبداعي؛ يرتقي بما هو بديهي؛ إلى ما هو جمالي وخصب، ومؤثر.فالقيمة ليست بالمواضيع المطروقة؛ وإنما في الأساليب الجمالية في التعبير عنها. يقول الشاعر فؤاد كحل:" لا يوجد تعريف نهائي للشعر العظيم، كل روح لها قوانينها، وخصوصياتها في بناء علاقتها مع النص الإبداعي. ما هو عظيم استمر وسيستمر في التراث الإنساني، وما هو غير ذلك ذهب، وسيذهب النسيان الأبدي. والشعر العظيم - باختصار- هو أن يكون شعراً نابعاً من الوجدان، ومعبراً بصدق عن تجارب ذاتية، وبأسلوبية عالية، وباختصار، أن يكون حياً؛ فللمخيلة غصن في الأعالي؛ وجذر في أعماق الروح"(20).

وبهذا الإحساس، نقول: إن المهارة الجمالية سمو، وارتقاء في الرؤيا، والموهبة لدى المبدع؛ وهي التي تحدد قيمة التقييم الجمالي للمنجز الإبداعي، من حيث المصداقية، والكفاءة، والفاعلية، والعمق، وبقدر ما ترتقي المهارة الجمالية- لدى المبدع- ترتقي جمالية المنتج الفني، وتزداد قيمته الإبداعية؛ والمهارة الجمالية ليست سوى انفتاح معرفي، وخبرة جمالية تتولد في المرء لحظة اكتمال أدواته الإبداعية، وإدراكه للعبة الفنية، وطريقة إنتاج العمل الإبداعي المؤثر. فالشعراء المبدعون –مثلاً- يدركون أن الموهبة الجمالية الراقية هي سر إبداعي، وتطوير دائم في الأدوات، والوسائل الجمالية، يقول الشاعر العراقي المبدع حميد سعيد:" تنفتح القصيدة على كل ما يضيف إليها من طرائق التعبير، ووسائله، وما دامت هذه الوسائل، تدخل في البنية الشعرية لها، في تشكل من الداخل، وليس على شكل ملصقات من خارجها. إن قصيدة ما تنتسب إلى البناء الدرامي من الطبيعي أن تبحث عن وسائل تكريس هذا البناء، وتغنيه، وتجعله أكثر حيوية، وفاعلية، وجمالاً، والبنية السردية من بين أكثر الوسائل حيوية في تكريس البناء الدرامي في القصيدة. وبهذا الوعي، وعي كتابة قصيدة ذات بنية درامية لطالما وظفت السرد، وأفادت من جميع ممكناته، لتمتين هذه البنية. وفي قصيدتي، كان ما يشبه التكامل بين السرد والدراما، وهذا ما أبعدها عن الاندياج والتسطيح، وقد كان من علل قصيدة التفعيلة، حيث نجد قصائد شعراء، تطول فيما يشبه الهذيان، حتى كأن الشاعر لا يتحكم بحركة قلمه على الورقة البيضاء"(21).

إن هذا الرأي يعرفنا أن إدخال التقنيات الجديدة إلى بنية القصيدة الحداثية هو ضرورة تقتضيها الفنون الإبداعية؛ جميعها، خاصة فن الشعر، بوصفه الفن الأمثل، لتقبل مختلف التقنيات الفنية من صورة، وإيقاع، وموسيقا؛ لدرجة أن الصورة هي (الدينامو) المحرك لإيقاعاتها الجمالية،وبهذا المعنى يقول الشاعر فؤاد كحل:" الصورة أساسية في بناء الشعر على أن تكون جزءاً من تكوين الصورة الكلية للقصيدة، والتي -بدورها- توحي بتصور شامل للحالة الإبداعية، التي انبجست عنها القصيدة. وإلا فقد تكون أقرب للمجانية. وأنا أميل إلى الصور الحسية، وأحاول الابتعاد عن الصور الذهنية الباردة. على كل حال لكل شاعر طريقته، بل لكل حالة في تكوين الصور والمجازات طريقتها في القصيدة"(22).

وتبعاً لهذا المنظور، فالمرتكزات الإبداعية لكل فن من الفنون مختلفة، تبعاً لطبيعة الفن الإبداعي وتقنياته التي تشكل جوهره الإبداعي المؤثر، فالفنون جدلية كما هي في واقع الحياة، وهذا ما ينطبق على فن الشعر؛:" فالشعر جدلي كالحياة، والقصيدة إن لم تكن كذلك فهي تطير بجناح واحد فقط، لأن هذا يمنح القصيدة التوازن، والإيقاع الكوني، والبعد الفلسفي الأعمق للوجود، فكل شيء، يقوم على هذا التضاد المتوازن المدهش، حيث لا شيء إلا ويعني ظله، ودلالاته، إن كان حجراً، أو كلمة، أو لوناً إلى آخره"(23).

وما ينبغي تأكيده أن المهارة الجمالية بوصفها ذروة التبئير الجمالي في التقييم الجمالي،هي ذروة الإحساس، والبراعة، والحنكة، والممارسة الإبداعية، فما لا نفهمه، ونتذوقه لا نستطيع تقييمه، ولا نملك الجرأة على تقييمه جمالياً؛ ولهذا، فإن درجة الوعي، والخبرة، والمهارة الجمالية هي التي ترتقي بالمنتج الإبداعي، وترتقي بمخزونه الإبداعي، يقول أدونيس:" الأساسي، والمبدئي والأولي، في تقويم النص الشعري هو المعرفة الشعرية، معرفة المزايا الخاصة بالإبداع الشعري، وماهية اللغة الشعرية، وتاريخية هذه اللغة. فهذه المعرفة وحدها يمكن تقويم النص الشعري بخصوصيته، وبالأدوات التي تقدر أن تكشف عن هذه الخصوصية، وتدل عليها، خصوصاً أن خصائص النص الشعري هي التي تحدد تقويمه، ليس التقويم هو الذي يحددها"(24).

وبهذا التصور الأدونيسي، نقول: إن المهارة الجمالية عنصر رئيسي، لدرجة تشكل محورياً في مغامرة التقييم الجمالي، خاصة عندما تتعاضد الخبرة الجمالية مع المهارة، والبراعة،والمعرفة الإبداعية، فإنها ستقود الناقد الجمالي حتماً إلى اكتشاف ما هو باطني وجوهري وعميق في المنتج الإبداعي؛ أياً كان مصدره أو مؤثره الفني.

وتعد المغامرة الجمالية في قصائد بشرى البستاني من مغرياتها الجمالية التي تسهم في تشكيل الرؤيا الشعرية، وتبئير مدلولها صوب الدلالة المراوغة، أو الدلالة الجديدة التي تشكلها في قصائدها على المستوى الفني؛ ووفق هذا التصور، فإن من محركات الشعرية وفواعلها النصية إثارة المتخيلات الشعرية التي تجعل النص الشعري لدى الشاعرة بمنتهى العمق، والتأمل الوجودي، على شاكلة قولها:

"وأقولُ.....
أحبك ِ،
فينفرطُ الرمانُ،وتشتبكُ الأضواءُ بالألوانْ
وتقولين للتقوى، هيت َلكِ.
وللمعصية...تزلزلي.
والمعصية ُهذه الوحشةُ الموصدة ُعن اليقين
واليقينُ حضورُكِ في أمن صدري
حيث تبتدئ صحارى الكون ِ،
وترتعشُ بالنشوةِ الجذورْ"(25).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن التبئير الجمالي- من محفزات الشعرية في قصائد بشرى البستاني، إذ تعتمد الحراك الجمالي في الصور الدالة على حالة التوق، والوله،والتصوف المطلق؛ مما يدل على فاعلية الصور المبئرة للرؤيا والموقف الشعري، على شاكلة الصور التالية:[أحبك ِ، فينفرطُ الرمانُ،وتشتبكُ الأضواءُ بالألوانْ]؛ وهذا يدل على فاعلية الصور الشعرية في إبراز ما يعتري الشاعرة من مواجد، وأحاسيس، تؤثث من خلالها لكل ما يثير الجمال واللذة والنشوة الروحية ضد مظاهر القبح،والدمامة الوجودية، لتخلق حالة من الوئام بين ماتشعر به وماتنقله على الصعيد الوجودي، ما يدل على مواجهة السلب بالإيجاب،وهذا مانستدل عليه من خلال قولها:[والمعصية ُهذه الوحشةُ الموصدة ُعن اليقين/واليقينُ حضورُكِ في أمن صدري]؛وهذا يدلنا على أن شعرية الرؤيا هي من المحفزات النصية التي تجعل النص غاية في التفاعل والتضافر النصي
وبتقديرنا إن التبئر الجمالي – في قصائد بشرى البستاني – يهدف إلى إبراز منتوج الرؤيا الشعرية عبر فاعلية المغامرة الجمالية،ومقدرتها البليغة تتحقق شعرية التبئر،وتحقق مرؤدودها الجمالي على شاكلة قوله:

"وأدعوك
لا يتسرَّبُ وجهُك َمن بين الأصابعِ،
لا تضيعُ الظلالْ،
بل تتوقفُ الخيولُ،
تحمي جزرَ الله ِالتي تصهلُ فيها المواجدْ
لتنهمرَ أمطارُ الحقيقةِ متوجة ً بأكاليل الرحمة ْ..
وهل الرحمة ُ إلا حضورُكْ..!
في الليل أنتظركْ ….
ندخلُ الغيومَ معاً،
نسرقُ لآلئَ المطر ِ،
ونشعلُ في الوجودِ الحرائقْ"(26).

لابد من الإشارة إلى أن المغامرة الجمالية الفاعلة هي التي تعتمد التبئير الجمالي؛ سواء أكان ذلك على صعيد الرؤيا، أم على صعيد الصورة، أم الدلالة، بمعنى أن المغامرة الجمالية الناجحة عندما تطال الأنساق اللغوية تمثل ذروة الاستثارة الجمالية على مستوى تبئير الرؤيا،وتخليقها جمالياً، وهاهنا، استطاعت الشاعرة أن تبئر الرؤيا، بالارتكاز على الصورة المحور، أو الصورة المركز التي تستثير المتلقي،وتدفعه إلى التفاعل مع الموقف الشعري المجسد، أو الحالة الصوفية بكامل احتراقها وتوترها،كما في قولها:[ لتنهمرَ أمطارُ الحقيقةِ متوجة ً بأكاليل الرحمة ْ/ نسرقُ لآلئَ المطر ِ،ونشعلُ في الوجودِ الحرائقْ]؛وهكذا، تتأسس المغامرة الجمالية الناجحة على تبئير الصورة، وتكثيف دلالاتها الفاعلة التي تسهم في التحفيز النصي، لدرجة تحقق شعرية الحالة، بجدلها وصخبها الوجودي، على شاكلة قولها في هذا المقتطف الشعري:

"في الليل انتظركْ،
فالنوم خريطة ٌ لا أحبُّها،
خريطة ٌ تدخلني في الغيابِ،
وأنا أتشبثُ بالحضورْ،
واليقَظة ٌ سكينٌ بحدّينْ"(27).

إن القارئ لهذه الأسطر الشعرية يدرك فاعلية التبئير الجمالي،لإبراز الجدل الشعوري أو الاصطراع الوجودي بين طرفين،(الغياب/ والحضور)،و(اليقظة/ النوم)،وهذا يعني إن توق الحالة تجعلها تبحر في خضم المتناقضات، والثنائيات الضدية، لخلق حالة من التفاعل بين ما تشعر به من وجود دموي،وما تحلم به بعالم فضائي حر، تطير إليه ملهوفة بالوجد، والحضور لا الغياب،غياب المحو الذي تعانيه لحظة الفقد والتأمل بما حولها من شتى أشكال الدمار والخراب عبر آلة الحرب المدمرة التي وصفتها خير وصف عبر المشاهد المتحركة،والصور المتداخلة فيما بينها،كما في قولها:

"خيوطُ الحرير تشتعلُ في عبير روحي
ورصاصٌ يمزق إغفاءة الشجرْ.
تنهضُ الأرضُ من كهوف الغفلة
تنهض الأرضُ بوحشية
تنهض الأرض فاغرةً فاها..
تبتلعُ صواريخهمْ
وشظايا آثامهمْ،
وألغام لُعَبهم الناريةْ..
تزلزلُ الأرضُ زلزالها
تبتلعُ نواياهم..
وتُطلعُ ورداً احمرْ..
يتفتحُ في عيون زمن يُلقي رداءهَ الداكنَ،
ويفتح ساعديه للمحنةْ،
ويقولُ..
ها أنا ذا.."(28).

لابد من الإشارة إلى أن المغامرة الجمالية الفاعلة هي التي تتأسس على مرجعية الرؤيا التي تتطلب وعياً في التشكيل،من خلال تبئير الرؤيا،على بلاغة المشاهد المتحركة التي تشعرن الحالة،بكل ما فيها من مشاهد كابوسية مرعبة،لتعرية الواقع بكل مشاهده الدموية المؤلمة وارتكاساته الوجودية المأزومة،وكأن الشاعرة باعتماد الصور الكابوسية تقلد أصحاب المذهب السريالي، في إبراز مشاهد التشظي،والدمامة، والقبح،لتعرية الواقع بسلبياته، ومظاهره المؤلمة؛ لإحلال عملية المحو،بالانتقال إلى السلب كحالة من المواجهة:[ ورصاصٌ يمزق إغفاءة الشجرْ. /تنهضُ الأرضُ من كهوف الغفلة/ تنهض الأرضُ بوحشية]؛ وهذا يدلنا على أن التبئير الجمالي في حركة المشاهد الشعرية، يعزز من فاعلية الرؤيا،ويزيد من بلاغة دلالاتها المعبرة عن الاحتراق الداخلي في مواجهة القبح الوجودي وآلاته المدمرة، بصور بليغة مبئرة للحدث والمشهد الشعري.

وهكذا، نصل إلى حقيقة جد مهمة،وهي أن المغامرة الجمالية الناجحة تدلل على فاعلية التبئير الجمالي في إصابة المعاني العميقة والدلالات المضاعفة للحدث،والرؤيا الشعرية، ما يدل على شعرية الحدث والموقف الشعري من خلال بلاغة التبئير،وقيمه الجمالية التي استحوذها بهذا الشكل الجمالي أو ذاك.وهذا ما استطاعت أن تحققه قصائد بشرى البستاني على المستوى الإبداعي.

الفهم الجمالي

لاشك في أن الفهم الجمالي من محفزات الشعرية المعاصرة، التي اعتمدت مختلف الأساليب الشعرية، لاسيما تأثيث الجمال،وتخليق مثيراته الجمالية؛ ولهذا تعد مسألة الفهم الجمالي من المسائل المهمة في تبئير الشعرية،وإبراز منتوجها المؤثر.

ولا نبالغ إذا قلنا:

إن الفهم الجمالي هو الإفراز لطبيعي لمسألة الإحساس الجمالي، فالإحساس الجمالي هو شعور نفسي مركب، مؤسس على الاستحسان، أو الاستهجان إزاء اعمل الفني المنجز، أي مؤسس على التأثر بالمنتج الجمالي، والتأثر بمردوده الإيحائي الذي ينبني على وعي إبداعي خلاق؛ وفهم جملي لمحتواه وجوهره الفني، يقول (ت. س. إليوت):" إن قوة العمل الفني تعتمد على قوة الديناميكية الداخلية التي تولده، ونقصد بها قوة الخاصية الفنية"(29).

وهذه القوة الديناميكية هي القوة الدافعة للعمل الفني، وهي التي تستثير المتلقي، لتحثث المنتوج الإبداعي، بإمعان، وفهم عميق، وبقدر ما يتم إنجاز المنتج الفني بآلية منظمة، ودلائل واضحة يزداد فهمه جمالياً، وتحثثه إبداعياً، فالمبدع المخلص لفنه هو الذي يوظف طاقاته الإبداعية كلها، لخلق الاستثارة في منتوجه الفني، وما التبئير الجمالي إلا الشكل الأسمى لجعل المنتج الفني موجهاً في رؤيته وكاشفاً عن محتواه الداخلي العميق. يقول بودلير فيما معناه:" إن العمل الفني الذي يتم تنفيذه بكل إخلاص يدفع بجذوره إلى أعمق أعماق الإنسان، بل ويذهب ليرسخ في لا شعوره"(30). بمعنى أنه يسكن في قلب متلقيه، من خلال محايثته لدواخله الشعورية واللاشعورية؛ وكأن منطوق العمل الفني منطوق الذات الداخلية لدى متلقيه؛ ومن هذا المنطلق، فإن فاعلية المنتج الجمالي تتحدد بمقدار الفهم الجمالي لهذا المنتج من قبل الشريحة الكبرى من جمهور المتلقين، وبهذا المقترب تتأسس حساسية الفهم الجمالي على العبقرية الإبداعية التي تتفتق من رحم المتناقضات،وبهذا المعنى يقول بروست:" إن العبقرية تتفجر بقوة فوق أكوام الرذيلة"(31).

وهذا القول يناقض أصحاب النظريات الجمالية التي تربط الجمال بالقيم، والفضائل، والمثل العليا، والتي غالباً ما تربط الجمال بالقيم الأخلاقية؛ فترى أن الجمال منتوج روحي، يرتبط بالفضيلة، والمثل العليا؛ بحجة أن المال لا يحدث أثره الفاعل، ولا يخلد كفن إبداعي إلا حين يرتبط بالجوهر، أو يلامس الجوهر الإنساني النبيل؛ وهناك من وقف موقف النقيض، ففصل الأخلاق، والمثل، والقيم عن الفن، وذهب أبعد من ذلك، ومنهم (برونير) الذي يقول:" إني أحدثك عن الفن العظيم.. عن أعظم الفنون، وأقول إن هناك جرثومة لا أخلاقية تنمو دائماً في الفن العظيم، إلى أن هذه اللا أخلاقية (موجودة في قلب مبدأ الفن ذاته)"(32).

إن هذا القول ينفي فكرة المثل، والقيم في تقييم العمل الإبداعي الأصيل،ومدى جودته الفنية، ويرى أن الفن الجميل هو الفن الذي يتضمن بذرة اللاأخلاقية؛ أو الذي ينافي القيم، والمثل، والأخلاق، بحجة أن الفن شيء والمثل والقيم شيء آخر لا علاقة له بالفن لا من قريب ولا من بعيد، وليس ذلك فحسب، بل ليس الفن مطالباً بالمنفعة، ولن يخسر الفن شيئاً، إن لم يحقق المتعة، وبهذا الخصوص يقول برتليمي:" إن العمل الفني العظيم لا يدين بجماله لنفعيته، فهو يمكن أن يكون على نفس الدرجة من الفعالية إن نقص جماله درجة"(33).

وهذا يعني، بالتأكيد انفصال لغة الفن، أو قيمة الفن عن منفعته، فالفن منتوج لا نفعي، ولا يرتبط إطلاقاً بنفعيته، وإنما يرتبط بشكل جوهري في عرف الفن، ومفهوم علم الجمال، يقول كوديل:" إن العمل الفني الجميل، وبصفته الجمالية هذه عملاً موهوباً قام به صاحبه من أجل القيام به، ومن أجل الجمال حسب، فالقصيدة الشعرية، واللوحة، والتمثال، والسيمفونية عديمة النفعية عملياً"(34).

وما هو مقصود بعدم نفعيته هو عدم نفعيته كمادة، وليس كقيم جمالية، أو إبداعية. فما هو إبداعي أو فني لا يقاس بنفعيته، وإنما بمدى سموقه فنياً ومنتوجاً جمالياً مؤثراً، وبقدر ارتفاع القيم الجمالية ترتفع قيمة الفن، وترتقي أسهمه الإبداعية.

وما من شك في أن الفهم الجمالي هو القيمة الجمالية العليا في تقيم المنتج الفني، والكشف عن خواصه، ومؤثراته، ومحفزاته في المتلقي؛ وهنا، يختلف الفن كقيمة إبداعية جوهرية عظمى عنه كمظهر إبداعي مادي ليس إلا. وتبعاً لهذا، تختلف درجة الفهم الجمالي، أو الوعي الجمالي بالمنتج الإبداعي كمظهر خارجي، أو كمنتوج إبداعي جوهري عميق؛ يقول برتليمي:" إن ظواهرية الفن هي وصف التجربة الجمالية. أما فلسفة الفن فهي التفكير في هذه التجربة، بقصد تحديد طبيعتها، ومعناها قدر المستطاع"(35).

وتبعاً لهذا، تختلف درجة الوعي الجمالي، أو الفهم الجمالي، في تقييم المنتج الفني من شخص لآخر، تبعاً للمهارة الجمالية أو الخبرة الجمالية المكتسبة، وعملية الفهم الجمالي هذه ليست عملية شكلية.. إنها لا تصف المنتج الفني وصفاً خارجياً، وإنما تدخل في جوهره الإبداعي، ومحك إشراقه جمالياً؛ فالفنان لا يفكر كثيراً بمنتجه الإبداعي، لأن التفكير لا يرفع سوية العمل الفني جمالياً؛ فالذي يرفعه الأسلوب، والطريقة، والدهشة التشكيلية التي تنظيمه إبداعياً؛ ولذلك، فقد قيل:" إن كبار الفنانين لا يفكرون إلا قليلاً جداً، وحتى كبار الشعراء كذلك"(36).

وهذا يعني أن المنتج الإبداعي الفني ليس أعمال تفكير، بقدر ما هو خلق، وابتكار، وتجسيد جمالي مبئِّر للحدث،و اللحظة الشعورية الحادة (اللحظة الإبداعية)، فلكل منتج فني إحساسه الجمالي الضاغط الذي أثار المبدع، فألهمه منتجه الفني، ولهذا، لا قيمة للمدرك الجمالي، أو الوعي الجمالي إذا لم يكن المنتج الفني مثيراً للمشاعر، ومفجراً للأحاسيس؛ ومحركاً للرؤى،منتجاً للدلالات المبئرة للموقف المثير أو الحدث الشعري. والمبدع لا يمتاز عن غيره سوى بموهبة المشاعر، والترجمة الجمالية في التعبير عن هذه المشاعر بشفافية وعمق، أي الشعور بما لا يشعر به الإنسان العادي أو يحس به، يقول جان برتليمي:" إن الفنان لا يفعل إلا أن يعبر بريشته، أو قلمه، أو مقصه عن سعادته، وآلامه، وغضبه وحبه كرجل، وهو يتميز عن الرجل العادي بموهبة المشاعر"(37).

ولذلك، فإن عملية الفهم الجمالي ترتبط بحركة المشاعر، فما هو غير مثير، ولا مؤثر جمالياً لا يمكن تقبله وفهمه جمالياً؛ ولذلك، فمسألة الفهم الجمالي تبقى مسألة حساسية؛ وهي نسبية(شخصية)، تختلف من شخص إلى آخر، تبعاً للمظهر التفاعلي للمنتج الفني من حيث إشعاعه، ودفقه الروحي، ومقدار التكثيف العاطفي الذي تتضمنه، والمحفزات الجمالية التي تستثيرها في بنيته ومحتواه الداخلي؛ وبقدر المهارة والخبرة الجمالية في تلقي المنتج الفني تزداد درجة الفهم الجمالي وقابلية المنتج، وكشف مخزونه جمالياً، ونبضاً إيحائياً، وهذا- بالتأكيد- يتوقف على المهارة، والخبرة الجمالية التي يملكها المتلقي في تقييم المنتج، وكشف علائقه وخفاياه الفنية".

وقد لا نبالغ في قولنا: إن المنتج الجمالي الفاعل أو المؤثر هو الذي يحقق قيمة جمالية في تبئيره الجمالي،وهذه القيمة تزداد فواعلها ومظهر تأثيرها من منتج إلى آخر؛ فما لا قيمة جمالية لها لا يملك أسهمه الإبداعية المؤثرة،وبتقديرنا: إن التبئير الجمالي- في قصائد بشرى البستاني- لاسيما قصائدها(البسي شالك الأخضر وتعالي)يعتمد الفهم الجمالي في اختيار النسق اللغوي المناسب في بنية الصورة أو الاستعارة؛ لتبئير مدلولها ضمن النسق الشعري؛ مما يدل على شعرية بالغة الاستثارة والتأثير،والفهم الجمالي العميق لمردودها الفني ضمن النسق؛ مما بضمن إثارتها وتأثيرها في المتلقي؛على خير ما يرام من الكثافة والبلاغة والإيحاء،على شاكلة قولها:

"أشدُّ بضفائركِ عروقَ قلبيَ كي لا تفرّي
وأدخلُ قلبك فردوسَ الفراديس
في الفجر أشدّكِ إلى النيران كي تنطفي،
وأقرأُكِ في الليل على ضوء الينابيعْ
فتنبثق الصخور مأخوذةً بتراتيل ِ
عيد لن يأتي
قلتَ...شيءٌ غامضٌ فيكِ.
شيء ٌيحوّل العبيرَ إلى جمرٍ،
فلا أريدُ أن أعرفْ
وإذ تقولين...أحبكْ
يتوهج الكون بيٍ ويضيعُ القرارْ"(38).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن التبئير الجمالي هو قيمة من أهم القيم الجمالية للتدليل على مستوى الفهم الجمالي، أو الحساسية الجمالية التي تملكها النصوص الشعرية –عند بشرى البستاني- من حيث الفاعلية،والقيمة،والخصوبة الجمالية، فالنسق الشعري – لديها – يملك قيمة جمالية،في خلق الاستثارة والفاعلية،والإيحاء على مستوى النسق الجزئي، وصولاً إلى النسق الكلي ؛لاسيما في تكثيف الدلالات،وإبراز منتوجها الرؤيوي الصوفي المؤثر،وهذا يعني أن شعرية النسق جمالياً تتبدى في حراكه واستثارته جمالياً من خلال الدلالة والرؤيا الخلاقة التي يتضمنها؛ وهاهنا، نلحظ أن شعرية الأنساق تتمثل في إبراز الرؤيا الصوفية المتوهجة بالحساسية الجمالية والفهم الجمالي في تبئير الرؤيا،وتعزيز منتوجها:[ "أشدُّ بضفائركِ عروقَ قلبيَ كي لا تفرّي/وأدخلُ قلبك فردوسَ الفراديس]؛ وهذا يعني أن مصدر فاعلية الرؤيا،يتمثل في التبئير الجمالي حول الأنساق المكثفة بدلالاتها الصوفية، والتي ينعكس مردودها على مستوى النسق الكلي.

وما ينبغي الإشارة إليه: إن الفهم الجمالي العميق الذي تشير إليه قصائد بشرى البستاني يتمركز على محرق التبئير الجمالي الذي يطال الرؤيا، كاشفاً منتوجها ومؤثرها الفني البليغ، وهذا يعني أن جل القيم الجمالية التي يفرزها النص الشعري عند الشاعرة بشرى البستاني يصب في أتون الرؤيا، ومحرقها الفني، ولهذا مهما تعددت محاور القصيدة،وتنوعت رؤاها فإنها دوماً تصب في خانة وحدة،ومحرق واحد، كما في قولها:

"سأسقيكِ الليلَ نبيذا وألوّنُ لك الأماسي،
وأدثركِ بغصون المنى.
وإذ تحلقين على أجنحة الغمامِ
سأعتنق عبيرَك، وأرتدي أرديةَ الريح ِ،
كي أحرسَ ما يشعُّ من لآلئ نورك على الكونْ."(39).

لابد من الإشارة إلى أن الفهم الجمالي في إصابة الصورة البليغة المبئرة للرؤيا، أو الحدث من مغريات بنية القصيدة،ومصادر إثارتها جمالياً عند بشرى البستاني؛ لاسيما عندما تختار النسق المؤثر جمالياً في مجرى السياق، للدلالة على ذروة الاحتراق والاصطراع الوجودي؛ وهذا يعني أن من فواعل الرؤيا جمالياً إثارة المشاهد الصوفية بكثافتها ونقطة تمفصلها الجمالي، على شاكلة النسق التصويري التالي:[سأسقيكِ الليلَ نبيذا وألوّنُ لك الأماسي،وأدثركِ بغصون المنى]؛فهذه الأنساق الخلاقة:(غصون المنى=أُلَوِّنُ الأماسيَّ،) هي من البؤر الجمالية التي ألهبت النسق الشعري جمالياً؛ فبدت الصور بموحياتها ومؤثراتها فاعلة في استجرار الدلالات الصوفية؛ لترتقي بمسار الرؤيا،والموقف،والحالة الصوفية المحترقة.وهذا يدلنا على أن الفهم الجمالي في تشكيل الجملة الشعرية البليغة المبئِّرة للموقف والحالة الصوفية من فواعل حراكها الجمالي،والرؤيوي في مثل هذه القصائد، التي تتطلب وعياً جمالياً في التشكيل، وحساسية بليغة في إصابة جوهر الرؤيا في الصميم.

الدهشة الجمالية:

إنه من بديهي القول: إن الدهشة الجمالية منتوج رؤيا جمالية،وحساسية جمالية عالية في ترجمة القول الشعري، إلى صور بليغة، أو إلى أشكال لغوية عالية الفاعلية والتركيز، ودليلنا أن أغلب فواعل الدهشة الجمالية تتولد من الرؤى الصادمة، أو الأنساق المراوغة التي تثير القارئ،وتحفزه إلى تلقي النص الشعري جمالياً.وما نقصده ب[ الدهشة الجمالية]: كل نسق شعري يحقق قيمة جمالية صادمة لتوقع القارئ،ومرتبطة مباشرة بجوهر الرؤيا الشعرية في الصميم، ولهذا تختلف مصادر كل لذة جمالية بقوتها وبلاغتها في إصابة المعنى الغريب والدلالة العميقة.

وبتقديرنا: إن من أهم مؤشرات (التبئير الجمالي) إثارة الصدمة أو الدهشة الجمالية في هذا النسق اللغوي، أو ذاك، تبعاً لكل قيمة جمالية يثيرها المنتج الفني،ويحقق فواعل إثارتها.ولعلنا لا نجافي الحقيقة في قولنا:

إن أي منتج إبداعي فني لا يحقق الدهشة الجمالية، أو الصدمة الجمالية إزاء تلقيه لهو عديم القيمة كمنتج فني إبداعي مؤثر؛ لأن عنصر الإثارة والتأثير من أبرز مؤشرات القيم الجمالية، وتعد رأس سنامها في التقييم الجمالي السليم. ذلك"لأن لكل منتج فني سراً إبداعياً، هذا السر هو الجوهر الخفي الذي يرتقي به فنياً؛ وغالباً ما تظهر الدهشة الجمالية في هذا التقارب بين إحساس المتلقي، وإحساس المبدع في منتجه الإبداعي، حتى حفزه، أو أثار في داخله قيمة ما دفعته، للتفاعل معه، واستدراجه لتقييمه جمالياً. يقول الناقد والشاعر الإبداعي الفذ نذير لعظمة:" في رأيي، أن هناك عنصرين لا ثالث لهما في كل نص شعري، ما يقوله الشاعر، وكيف يقوله. فإذا قرأت قصيدة ما، ولم تخرج منها بشيء فهي قصيدة فاشلة.. القصيدة يجب أن تعديك بمعاناة الشاعر، فالمعاناة أمر أساسي: أن تعاني الغضب، أن تعاني الفزع، أن تعاني الموت، أن تعاني الغربة، ولكن المعاناة وحدها. لا تكفي. إذ إن كل الناس يعانون - بشكل أو بآخر- لكن شرارة الانفعال الشعري التي تنقل المعاناة من الذاتي، إلى الموضوعي، هي الهبة التي على رأسها أروز الشاعر،وأحكم على نتاجه. فالانفعال، هو الذي يعيد تركيب اللغة الشعرية بشكل يستطيع معه أن تؤدي إلى الآخر تجربة الشاعر، بخصوصية، وتميز، وتعديه، أي تحركه وتهزه وتعطيه النشوة إلى حد الأمنية، كما لو أنه كان هو نفسه قائل القصيدة.. وقدرة الشاعر على أن يترجم اليومي إلى كوني، والعادي إلى الشعري، والصدفة إلى مفاجأة، وسيلته إلى ذلك اللغة،من خلال تفجيرها، وإعادة بنائها بناء جديداً ينقل معاناته إلى الآخرين، ويوصل تجاربه إليهم، فيصبح ما هو ذاتي موضوعياً، وما هو موضوعي، يجنح إلى الذاتي، ليعبر عن رؤية شعرية تنبثق من الحياة، ورحم الواقع"(40)

ومن هذا المنظور، فالذي يحفز المتلقي جمالياً أن تتحد رؤية المبدع والمتلقي معاً؛ لتحقيق اللذة الجمالية التي هي القيمة العظمى المقصودة في تشكيل الفنون، فالفن الممتع جمالياً ليس لعباً، أو فناً للتشكيل، إنه فن جاد يحايث الجوهر الإنساني؛ إنه" فيض العبقرية الذي يرفع المبدأين فوق كل البشر"(41). ولذلك؛ فإن الدهشة الجمالية إذا ما تملكت قلب المتلقي قد تكون سلاحاً مضاداً، في ممارسة التقييم الجمالي؛ لأن الاستكانة إلى سطوة الانشداه والتأمل الذي أثارته الدهشة قد يحرف التقييم إلى درجة الاستحسان العليا. ونعني بها درجة الاستحسان المبالغ فيها، مما قد يضعف الحكم النقدي الجمالي، ومن ثم انحراف التقييم الجمالي عن مساره الصحيح، ولهذا، تتحول اللذة الجمالية أو الدهشة الجمالية من مصدرها التحفيزي في التقييم الجمالي، لتتحول إلى مطب. قد يصرف الناقد الجمالي عن ممارسته التقييمية الدقيقة، ومنظارها الإبداعي الصائب؛ لأن اللذة الجمالية قد تسلب اللب، بنشوة الانشداه إلى العالم الجمالي الذي أثاره المنتج الفني، وبهذا المعنى يقول جان برتليمي:" وخاصية [سلب اللب] التي يختص بها الفن تعني قدرته العليا على التصرف بنا فوق عالم الأشياء، عن طريق التخريب الهادئ العجيب الذي يصيب به الحواس، والتي تهدف أصلاً إلى أن تقدم لنا هذه الأشياء تقديماً تمثيلياً كما لو كنا في المسرح"(42).

وإن تغييب العقل لحظة الانشداه الجمالي قد يصرف الناقد الجمالي إلى أحكام جمالية غير دقيقة، مصدرها الاستحسان والانقياد الزائد وراء جاذبية هذا الاستحسان، دون تحكيم عقلي سليم، أو منظور نقدي دقيق، وتأسيساً على هذا نقول: إن الدهشة الجمالية ينبغي أن تكون عاملاً تحفيزياً جمالياً في عملية التقييم، ورائزاً محكماً من روائز علم الجمال النصي في قياس درجة إثارة المنتج الإبداعي، وهذا يقتضي شروطاً ينبغي توفراها لتحقيق هذه الغاية ألا وهي:
 إدراك مرجعية الدهشة الجمالية:

ونقصد بـ[ إدراك مرجعية الدهشة]: الأسس، والمرتكزات، والمحفزات التي أثارت المنتج الفني، حتى توصل إلى هذه الذروة الجمالية في الإثارة، والتحفيز، والمتعة الجمالية. وبقدر إدراك المؤول لهذه المرجعية، وربطها، وتبيان مؤثرها ضمن المنتج الفني يزداد تقيمه، ورائزه الجمالي إحكاماً ودقة في إصابة المغزى الجمالي العميق لهذا المنتج، وروزه بدقة. يقول (فيكتور هيكو):" إنه من الخطأ أن نعتقد أن لنفس الفكرة أشكالاً عدة، ولن يكون لفكرة ما إلا شكل واحد يختص به، وتنبع دائماً ككتلة واحدة من عقل الرجل العبقري... اقتل الشكل تجد نفسك قد قتلت الفكرة"(43).

إن هذا القول يؤكد أن الفكرة الجمالية لا يمكن التعبير عنها إلا بشكل جمالي خاص بالفكرة نفسها، وهذا ما ينطبق على الشكل في مختلف الفنون، ولذلك، فإنه من الضروري- لإدراك مرجعيته الدهشة الجمالية في المنتج الإبداعي،- إدراك مصدرها، والشكل الجمالي الذي اتخذته في المنتج الإبداعي، حتى حققت عنصر تأثيرها وجاذبيتها في ذهن المتلقي.

إعطاء قيمة جمالية انطباعية عليه:

إن ثمة انطباعاً يتخذه المرء لحظة تلقيه المنتج الجمالي الإبداعي المؤثر، هذا الانطباع يمكن أن نسميه [ الانطباع الصاعق] وهو[ الرائز الجمالي الذي لا يخيب في تحثث المتعة، ومصدر اللذة الجمالية في المنتج الفني دون إدراك مصدرها] سوى الشعور بالراحة، والاطمئنان؛ وهذا الإبداع رغم سرعته فإن أثره لا يزول، لأن المتلقي قد أحس بصدمته وشرارته الإبداعية القادحة التي لمعت فجأة في روحه، وأيقظت حساسيته الداخلية، لإعطاء قيمة جمالية، أو انطباعاً جمالياً عاماً لا يعي مصدره.

التقاء حساسية المنتج الفني بحساسية المتلقي:

إنه من البديهي أن نقول: إن لكل منتج فني مؤثر حساسيته الجمالية،و مصدرها- في الغالب- حساسية المبدع، لحظة تشكيله المنتج الفني، وهذه الحساسية بقدر التقائها بحساسية المتلقي يستطيع المنتج الفني فرض سطوته، وجاذبيته، وطيفه الجمالي على المتلقي، وجره إلى دائرته الإبداعية. وهذا يعني- بالتأكيد- أن لدى المتلقي المبدع حساسية جمالية عالية لا تقل قيمة، ولا أهمية عن حساسية المبدع ذاته في تشكيل منتجه الفني؛ وهذه الحساسية الجمالية بقدر ارتقائها، وسموها، تسمو معها الرؤية الجمالية، وترتفع أسهم التقييم الجمالي دقة، ومصداقية في اكتشاف القيم الجمالية التي يختزنها المنتج الإبداعي، وروزها بدقة.
ومن هذا المنطلق؛ فإن اللذة الجمالية لا تحدث إلا بالتلاقي أو التلاقح الروحي بين ذات المبدع والمتلقي في لحظة شعورية متحايثة؛ تجمعهما لدرجة الالتصاق والالتحام الشعوري، لتبدو وكأن تجربة المبدع هي ذاتها تجربة المتلقي، لا انفصال بينهما، لدرجة يشعر المتلقي إزاء هذه الحالة بالنشوة والسكر الروحي، وبهذا المعنى المقارب يقول جان برتليمي:" إن اللذة الجمالية تشهد بأني أستطيع الوصول إلى عالم الفن، وهي بهذه الصفة قادرة على إرشادي عما يتعلق بهذا العالم"(44).

وهذه اللذة، هي البوصلة في الوصول إلى جوهر الفن، على حد تعبير جان برتليمي- ولذا، فهي التي تخلد الفن جمالياً، و تبعاً لهذا يرى (بودلير) أن اللذة التي يولدها الشعر لذة روحية، ونشوة آسرة لا تكاد تنتهي، إذ يقول: "الروح ترى عن طريق الشعر، ومن خلال الشعر تبحث عن طريق، ومن خلال الموسيقا ترى الأشياء العليا التي تقع فيما وراء القبور، وعندما تجلب قصيدة شعر جميلة- الدموع إلى حافة العيون، فإن هذه الدموع ليست دليلاً على سرور مبالغ فيه، بل هي الأخرى شاهد على ضيق قد اهتاج، وعلى توتر في الأعصاب، ورغبة في أن تقبل على هذه الأرض،وكأنها تقودك إلى جنة تكشفت"(45).

وبهذا التصور، تبدو اللذة الجمالية أو الدهشة الجمالية مصدراً جمالياً في التقييم الجمالي للمنتجات الفنية، شريطة أن تستند على فهم عميق، وإدراك دقيق لمؤثرات المنتج الفني، وقيمه الجمالية التي فجرت هذه اللذة، وولدت أثرها الجمالي في المتلقي.

وتعد اللذة الجمالية من مؤشرات التبئير الجمالي الذي يؤدي إلى تحقيق قيمة عليا في قصائد بشرى البستاني التي تتنوع دلالاتها ومؤثراتها الجمالية لتصل إلى درجة عليا من الفاعلية والتكثيف الجمالي،ووفق هذا التصور، فإن ما يحرك الرؤيا الشعرية،ويحقق مصدر تبئيرها الجمالي الخلاق، الصدمات التشكيلية التي تحقق المتعة واللذة الجمالية في نسقها،وهذا يدلنا على أن من فواعل إثارة التبئير جمالياً في قصائد بشرى البستاني الصدمات التشكيلية التي تثير القارئ،وترفع وتيرة النسق الشعري جمالياً على شاكلة قولها:

"وبغدادُ... بغدادُ... بغداد ْ.
بالأجنحة الأقمارِ المحطمةِ في سعف روحي.
يا أشلاءَ العذارى المنثوراتِ على أرصفة الوحشة ِ
دثريني
بما يتساقط من عناقيد دمعٍ يلوّنُ عينيك ِ
وبأقواس قزح الحزنِ التي أستظلُّ بكِ منها،
بنقاء كل نبياتِ الكون ينهمرُ من طُهر وجهك..دثّريني
بأنوار غربة مريمية تسري
بوجعٍ عراقيٍّ ضاقتْ أزرارُ جروحه ِ
وخانه الإيجازُ والمجازْ."(46).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن اللذة الجمالية الصادمة هي من مؤثرات الأنساق اللغوية في شعر بشرى البستاني التي تتنوع موحياتها ومؤثراتها الفنية، تبعاً لحساسيتها الجمالية في ترجمة هذه الرؤى والأحاسيس إلى صور واستعارات وتشكيلات لغوية فاعلة في التحفيز النصي، ومن هذا المنطلق، فإن القصيدة – لديها – متحركة ببواعثها التشكيلية المراوغة التي تثير الصدمات في النسق الشعري الذي يحتويها دلالة على فاعلية الحراك الجمالي والرؤيوي في الأنساق الشعرية التي تثيرها في سياقاتها الشعرية. وهاهنا، تثيرنا الشاعرة بالصدمات التشكيلية التي تجعل الصورة فيضاً من الرؤى والمشاعر المحمومة إزاء العراق،وتصوفها المطلق بحبه والالتزام بقضيته حتى النهاية، كما في النسق الشعري التالي:[ بالأجنحة الأقمارِ المحطمةِ في سعف روحي./يا أشلاءَ العذارى المنثوراتِ على أرصفة الوحشة ِ]؛فهذه الصدمات التشكيلية تبث مواجدها المحمومة إزاء وطنها الحبيب،وتمسكه بترابه وقضيته إلى النهاية، ليكون متنفسها الإبداعي هذه التشكيلات المراوغة التي تحتوي دلالات لاحصر لها. وهذا ما يحسب لها على صعيد تبئير الرؤيا،واكتشاف مخزونها الرؤيوي الإبداعي الثر.

واستناداً إلى ما تقدم، نخلص إلى النتائج التالية:

إن التبئر الجمالي- في قصائد بشرى البستاني- يسهم في إبراز فاعلية الرؤيا الجمالية التي تتضمنها نصوصها الإبداعية، مما يدل على أن اللذة الجمالية من فواعل التبئر الجمالي الذي ينبعث من الأنساق الاستعارية الصادمة، برؤاها ومؤثراتها الخلاقة التي ترتبط بمحرق الرؤيا ودلالاتها العميقة في سياقها.

إن التبئير الجمالي قيمة من أبرز القيم الجمالية التي تحققها الصور المبئرة للموقف والحدث الشعري في قصائد بشرى البستاني، وغالباً ما يطال التبئير الرؤيا الشعرية؛لإبراز متحولها الجمالي، والقيم الجمالية التي يولدها هذا النسق أو ذاك،دالاً على فاعلية الرؤيا ومحتواها الجمالي.

إن ولع الشاعرة بشرى البستاني في تصوير الحالة الصوفية باحتدامها ورؤاها المتوترة قد حقق قيمة جمالية في تشعير القصيدة، وإبراز ملمحها الجمالي.وهذا ما لاحظناه على مستوى الصور الصوفية المحمومة وأنساقها المراوغة، سواء على مستوى الصور المفردة أم الصور المركبة التي تتنوع مثيراتها في كل نسق شعري يتضمنها،وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي.
إن فاعلية التبئر في قصائد بشرى البستاني تتبدى في حراك الدلالات،وإبراز ناتجها الدلالي، مما يدل على أن القصيدة- لديها- مرسمة بعمق، وإدراك، وفاعلية جمالية،فهي ليست لحظية ولا انفعالية، وإنما هي اختلاجات روحية تتمركز حول العبارة المبئرة للرؤيا، والمثيرة للموقف الشعوري الذي يعتريها لحظة الخلق الشعري.

وبعد، فإن التبئير من خصوصية اللغة الشعرية،والفكر الجمالي الذي أنتجها، لتغدو القصيدة – عند بشرى البستاني- ليست اعتباطية، وليست نمطية الوصف والتشكيل الشعري، إنها فضاء محمل بالرؤى،والدلالات المنفتحة في حيزها الجمالي والرؤيوي.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى