الاثنين ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

القطار

صعد الرجل العجوز وحيدا درجات سلم القطار بخطوات واثقة، حيث لم تنل السنون من ثبات قدميه، واستقامة قامته وحدة بصره. ما التفت وراءه مطلقا، و ما لوحت له يد بوداع.

جلس في ركن العربة طاويا تحت إبطه صحيفة ومجلة، لا بد أنه قد حرص على اقتنائهما لتزجية الوقت في رحلته الطويلة.

لم تنقض سوى دقائق معدودة، حتى امتلأت العربة من حوله بمجموعة من الشباب في مقتبل أعمارهم، يجمعهم حديث متداخل مشترك حول تصديق الشهادات الجامعية، التي نالوها حديثا من بلدان شتى، يختلط حديثهم بفرح تشي به ملامحهم، وتشع به عيونهم واجتهاداتهم المتضاربة:

 الخارجية أولا ثم التعليم العالي.

 السفارة قبل ذلك.

 بل سفارة بلادك في الدولة التي تخرجت فيها قبل ذلك كله.

ودّ لو يدخر لهم جهودهم، ويوفر عليهم أوقاتهم ونقودهم، التي سينفقونها في جولات ذات اتجاهات خاطئة، فيقول لهم بكلمات مقتضبة:

 من صدقها من سفارة بلاده في الدولة التي تخرج فيها، فليذهب للخارجية ثم للتعليم العالي، أما من صدقها من خارجية الدولة فقط دون سفارة بلاده هناك، فليتجه إلى سفارة الدولة هنا أولا، فالخارجية فالتعليم العالي، فيحسم بذلك كل قول .لكنه تردد قبل أن يقولها، وحدث نفسه قائلا:

 ومن قال إنهم سيصدقونني، أو أنهم سيأخذون برأيي؟

ونبش عميقا في غور ذاكرته، وهو يسترجع عشرات الجولات التي قطعها في رحلة تصديق شهادته الجامعية، وشهادات الخبرة بعد ذلك، في سيارات التكسي آناً، وعلى قدميه آونة أخرى، دون أن يسأل أحدا، وأردف محدثا نفسه:

 لا أحد يصدق تجربة غيره، ولا أحد يقتنع بخبرة من سبقه، ولا يقتني الإنسان إلا الشيء الذي يدفع ثمنه من جيبه.

دعهم يجربون حتى يهتدوا لضالتهم بأنفسهم، وأضاف هامسا لنفسه:

 ثم إنهم قد يلتقطون إشارة غمز واستخفاف، تطيح بهذه النشوة التي تدور برؤوسهم، عندما يدركون أن هذا العجوز المنزوي في ركن العربة أمامهم، قد مر بتجربتهم هذه، وفرح الفرح الذي يفرحونه الآن قبل ما يزيد على أربعين عاما.

لم يطل مكث هؤلاء الشباب بصحبة العجوز في عربة القطار، فسرعان ما نزلوا في المحطة التالية، وخلت العربة إلا من العجوز وحده لبضع دقائق، ريثما ازدحمت بشباب أكبر سنا بقليل من الدفعة السابقة، وقد فاحت من أحاديثهم روائح النفط، وأزيز الطائرات، و صخب الموانئ البحرية وركوب الأخطار، مما يوحي بانخراطهم في عالم المال و الأعمال والأسفار والاغتراب، لاهثين وراء الثروة والشهرة والجاه.

يطول حديثهم وتباريهم في سرد غرائب الأخبار والمغامرات التي ينسبها كل منهم لنفسه، (فليس أكذب من شاب تغرّب إلا ...)*

وأطبق العجوز فمه عن إتمام بقية القول خشية أن يناله منه نصيب.

تطول رحلة هؤلاء نسبيا أكثر من سابقيهم، فمحطتهم التالية أبعد مدى، لكنهم يدركونها بعد لأي على أي حال.

يغادرون القطار دفعة واحدة، ويبقى العجوز في ركنه متصفحا جريدته، بينما يصعد لمرافقته في العربة فوج جديد.

أزواج متأنقون وزوجات متأنقات هذه المرة، بعضهن يحضنَّ أطفالا على صدورهن، وأخريات يمنين أنفسهن الدخول في التجربة.

تختلط أحاديث هؤلاء الرجال حول المستقبل وتأمين العيال، وأسعار الأراضي وبناء المساكن، بينما تتحدث نساؤهم من وراء مكياجهن الفاقع، عـن أحدث الأزياء ومواصفات غرف النوم والسفرة، وأحدث الأكلات العصرية، التي يتابعنها مع الشـيف رمزي وأضرابه من طهاة الفضائيات، وقد أنسين ذكر طهو

أمهاتهن وجداتهن.

تطول بهؤلاء المسافة طويلا قبل بلوغ محطتهم التالية، مثلما يثقل على العجوز إرغام نفسه على تجرع ثرثراتهم المتداخلة، التي لا يكاد يسيغها، والتي يحس أنها معاول تنقر في دماغه، فتسبب له الصداع والغثيان.

يتنفس الصعداء أخيرا عندما يزفر القطار زفرته الطويلة، مؤذنا ببلوغ المحطة التالية، فينفض من حوله هؤلاء الذين ما أخمد السفر الطويل ألسنتهم، ولا هـدّ أبدانهم، يتسابقون متدافعين عبر باب العربة، الذي يلفظهم إلى رصيف المحطة ليستقبل غيرهم.

دفعة جديدة من الكهول بصلعاتهم اللامعة، ونظاراتهم الطبية، وبقايا أناقة تنبئ عن أيام بذخ فائتة، وتنم عن مهابة آفلة.

يجلس الركاب الجدد برزانة و وقار، يصمتون أكثر مما يتكلمون على نقيض الدفعات السابقة من الركاب. تتمحور أحاديثهم المقتضبة حول الأبناء الذين بلغوا أشدهم وحلوا محلهم، فملؤوا كل فراغ خلا باعتزال آبائهم، وخلودهم إلى سكينة وادعة. وأحيانا يعـود بهم الحديث إلى ذكريات شيقة خلت، أو يحملهم الحلم على جناحه، فيطالعون وجوه أحفادهم وحفيداتهم الصبوحة، فينتشون فرحا يرتسم بسمات على وجوههم.

لم تطل صحبة العجوز لهذه الدفعة المريحة من الركاب، إذ سرعان ما أدرك القطار محطته التالية، التي غيبهم فيها رصيفه الموحش، فشهق شهقته المفجعة المعتادة مواصلا سيره.

لم يصعد أحد في هذه المحطة إلى عربة العجوز، الذي عاود من جديد تصفحه للمجلة، التي تصفحها من قبل مرات ومرات لا يحصي لها عدا

لم يطل مسير القطار حتى توالت زفراته الحادة المتقطعة، مثل نباحٍ متواصلٍ لكلب جريح، مؤذنا ببلوغ محطتة النهائية.

لم يتزحزح العجوز من مكانه، ولا همّ بمغادرة القطار، بل واصل تقليب صفحات مجلته، واستمر على ذلك حتى أدركه مفتش القطار، الذي يمرعلى العربات واحدة واحدة، ليتأكد من خلوها من الركاب، وأن القطار قد أفرغ حمولته كلها قبل أن يبدأ رحلة العودة.

فوجىء المفتش بالعجوز الذي لم يبرح مكانه بعد فسأله:

 لِمَ لمْ تغادر القطار أيها الشيخ، وقد أدرك محطته النهائية؟

 ألا أستطيع العودة معكم في رحلة الإياب؟

 أبدا، فهذا قطار ذو اتجاه واحد. ذهاب فقط. لا يؤوب إلا فارغا، ليتمكن من الإتيان بحمولة جديدة كاملة.

 ولو دفعت لكم ثمن التذكرة مضاعفا، وتعهدت بالعودة معكم في الرحلة القادمة ؟

 مطلقا، فلا يحق لراكب أن يركب هذا القطار سوى مرة واحدة في العمر.

لا بد ان تنزل أيها الشيخ، ليتسنى للقطار أن ينطلق عائدا إلى محطته الأولى.

 وماذا أصنع هنا في هذه المحطة؟

 تصنع ما يصنعه جميع من سبقوك، تنتظرعلى الرصيف، تنتظر الذي يأتي، والذي قد يطول أوان قدومه أو يقصر، أنت وحظك. وأردف المفتش:

كثيرون من ركاب القطار لا يبلغون هذه المحطة أيها الشيخ، و قلة يبلغونها- وقد هدهم الإعياء والتعب، فلا يطول انتظارهم على رصيفها الموحش المهجور، وأقل منهم من يبلغها متعافيا صحيح البدن مثلك، فيطول انتظاره.

نهض الشيخ من مكانه هابطا درجات سلم العربة متمتمًا:

إنني أستطيع تحمل مشاق الرحلة كلها، من محطتها الأولى و حتى الأخيرة-، لو تتاح لي الفرصة ثانية.

يلقي به السلم على الرصيف الموحش المهجور مقرورا وحيدا، ليبدأ الدخول في تجربة الانتظار.

يقول المثل الشعبي: ( لا أكذب من شاب تغرّبَ إلا عجوز ماتت أجياله)*


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى