الخميس ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
قصة قصيرة
بقلم ياسمين مجدي

القنينة

يحضرني مشهد أم كرستين وهي تصعد على السلالم بسرعة لا تناسب سنها ..تكاد تنكب على وجهها وهي تقفز الدرجات حتى وصلت لعتبة شقتنا ..دفعت الباب ودخلت صارخة :

  سلامتك يا غالية ..أنا جبت لك زيت مبارك هيشفي عنك.

كانت يداها تتحرك فوق جسد أختي الصغيرة المرتعش تحت اللحاف ..أخذت أمي منها القنينة بعد ذلك وأخفتها في أحد الأماكن العالية حتى لا أصل لها أنا أو أخوتي ونحن نلعب...كانت مؤخرة أم كرستين السمينة في مواجهتي وهي راحلة من البيت وتؤكد على أمي أن تحافظ على القنينة لأنه زيت مقدس:

  ده زيت مجدس يابابا ...جاري عليه الرهبان والراهبات اللي ماشفوش جواز ولاعملوا حاجة في حياتهم غير العبادة والوكل .

كنت أجلس كل يوم إلى جوار أختي أهمس في أذنها بأنها ستشفى ..لم تكن تستطيع أن تجيب لكنني كنت أؤمن بأن ذلك حتماً سيحدث لأنني أريده.

شفيت أختي بعد أسبوع من ذلك الحدث ....وظلت القنينة خلف شباك الدولاب الزجاجي العلوي أطالعها من أسفل وأتمنى لو أصل إليلها وأفتحها لأحقق أمنياتي ...سأدهن منها على جسد خالتي عفيفة التي لم تتزوج لأشفيها من آثار الحرق الذي كساها من فخذيها حتى ذقنها ... وبقى وجهها هو الأثر الجميل الوحيد الباقي منها ..وربما أضع بعضاً منها على قلب أبي عبد الحميد لعله يحبنا بعض الشيء ويتخلص من تلك الكراهية الشديدة التي يصبها علينا صراخاً وسُباباً كل يوم فنحترق نحن ويهدأ هو.

القنينة المرتفعة قد يحضرها لي جدي عندما يأتي اليوم لزيارتنا.... سأدس في أذنه سري وهو يعطيني الشيكولاتة ولن يرفض ...من الباب للشباك أجري كل لحظة في إنتظاره ..لكن جدي لم يأت هذه المرة ولا أتى بعدها مطلقاً نحن الذين ذهبنا لزيارته في مكان هاديء جداً لايوجد به سوى السماء وأرض يرتفع منها بناء حجري مكتوب عليه كلمات لا أعرف قرائتها لأنني لم أنته من حفظ الأبجدية بعد ...سبق تلك الزيارة لون أسود كثير غطى بيتنا ..كل نساء الشارع بما فيهم أم كرستين جائوا لنا ..أمي تسقط على الأرض تبكي فيربتون على كتفها ...تجري في الشارع تأخذ من التراب وتضع على رأسها فتلتف حولها النساء ويحملها الرجال إلى البيت:

  إجده هتتصابي ...إجده مش كويس.

كانت تجري في الطرقات ..لا تعرف إلى أين تذهب ..كل ما تدركه أنها تود الخروج ...قال الناس عنها جنت وقالوا"متصابة" ..لم تكن تعرفنا في تلك الفترة لأنها كانت تتجاوزنا جميعاً إلى الشارع إلى حيث لا تستطيع العودة لأن ذاكرتها متعبة لا تذكر تفاصيل الطريق .

وقفت في النافذة أبكي بشدة ...شعرت بالخوف وبالكراهية ...شعرت أنني وحيدة :

  يارب أبوي وأمي والخالة عفيفة ...القزازة بعيدة عليّ يارب معرفاش أجيبها علشان أعمل اللي نفسي فيه

رق قلب أبي بعض الشئ في تلك الأيام ..كان يربت على رأسي كثيراً ويقبل أخوتي ...في مرة من المرات رأيته بلباسه الداخلي يقف في المطبخ يقلي بطاطس لنا ثم يسكب في ستة أكواب اللبن ..ليُدخلنا في السرير ويغطينا ثم يجري يلاحق أمي التي"هبئت" في الدنيا الواسعة تبحث عمن يحبها مثل جدي بعد أن فقدت عقلها كما يقولون .

  وهي معرفاش أني بحبها زي الجصب اللي في غيط بوي ...وأني هأجبر وابجى دَكتورة واخفف كل العيانيين ..أُمال ما أنا هاذاكر لو جمتي بالسلامة.

أريدها أن تعود وأعرف أنها ستفعل لأنني أريد ذلك ومصرة عليه....أحضرها لنا يوماً إلى البيت شاب طويل وعضلاته بارزة من خلف جلبابه الرمادي .كان رأسه يتجاوز مستوى القنينة بمراحل ..وضع أمي على الكنبة وأخذ يزعق في أبي :

  محدش يسيبها إكده ..إيه مفيش في جلبكم رحمة ...يا ناس الست كانت مولية في البحر ومش حاسة بنفسيها .

كنت أبكي وُأقطر دموعاً من عيناي بينما تُقبل أختي قدمي أمي فتتساقط نقاط المياة من جلبابها الرطب .

  انا عايزة القزازة ..هاتها يا عم .

ليتني أستطيع أن أقول له ..دخلت خالتي تجري على أمي وتحتضنها:

  يا حبيبتي يا غالية ...فوجي ارجعي لعيالك ..ملناش غيرك.

وأمي شاردة بعيداً لاتسمعنا ..تبتسم فقط حينما يبدو لي أن أحدهم يحادثها فأبدأ في الخوف ..وأبدأ في الهرب ...نظر الشاب القوي لخالتي بشدة ..لم أفهم ما يحدث بعد ذلك وهم يضعونني أنا وأخوتي في ملابس مزركشة لامعة ويعقصون شعري لأعلى وبعض الألوان ينثرونها فوق وجهي فأفرح بأنوثتي لكنني أكتشف أنها لاشيء أمام زينة خالتي في فستانها الأبيض المليء بالترتر....ثم ظهرت أم كرستين في وسط النساء تحمل قماشة بيضاء عليها بقعة فراولة حمراء..ذكرتني بعصير أمي .

أخذت ألسنة الحريم تخرج من أفواههن تزغرد حتى أمي كأن هذا الذي لا أراه قد أتى لها ونصحها بأن تشاركنا الفرح فأخذت تزغرد هى الآخرى ..

رأيت جدي يدخل علينا في تلك اللحظة...وجهه أبيض جميل ...أخذ يقترب مني وهو يدس يده في جيبه ...أخرج الشيكولاته وحملني إلى أعلى على كتفيه وأخذ يرقص فرحاً دون أن يلتفت له أحد أو يعيره أي إهتمام .... كنت في مواجهة القنينة الآن لكنني لم أكن أريدها ..أكتفيت حينما نزلت من بين يدي جدي أني أخذت الشيكولاتة وجريت لأفتحها لكنني فجأة وجدتها تتلاشى في يداى كأنها وهم أنا أصنعه.. رغم ذلك بدأت آكل وأستمتع كأنها معي وأصرخ من مذاقها الحلو.!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى