الجمعة ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مروان أبو صلاح

القوامة

يتعامل أغلب المنظرين في قضية قوامة الرجل على المرأة بصورة تلتبس فيها الرؤية بين المعايير الاجتماعية والثقافية الذاتية، ويظهرونها بهيئة تبدو أطرها العامة محاطة بلبوس الشريعة الإسلامية، ضمن رؤية يختلط فيها التفسير الديني مع التأويل الاجتهادي الشخصي المبنيّ على التصور الثقافي الاجتماعي الذي يعيش المجتهد من خلاله، بعيدًا عن التأصيل العلمي المتكامل.

ولا يخفى على أحد أن مفهوم القوامة قائم على أساس شرعي يستند إلى الآية الكريمة " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصّالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليًّا كبيرًا " (النساء34) ، ولذلك علينا الانطلاق أساسًا عند الحديث عن القوامة من الآية الكريمة بعد الإعمال فيها فهمًا وإدراكًا.

ولكي نحسن إدراك الآية الكريمة يتوجب علينا بداية أن نحسن قراءتها ضمن السياق القرآني الذي وردت فيه، اعتمادًا على أن القرآن يفسّر بعضُه بعضًا، ثم نتبيّن الدلالات اللغوية فيها، لاسيّما الدلالات الخاصة بالمفردات ونوع الصيغ الواردة فيها، وذلك لكون اللغة إحدى الدعائم الأساسية للتفسير.

سورة النساء هي من السور المدنيّة التي تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع، ابتدأت بالأمر المباشر بالتزام تقوى الله وتوحيد أصل النشأة البشرية، لتنتقل في الآية الثانية إلى تنظيم العلاقة الاقتصادية بين الناس ذكورًا وإناثًا، من مثل تحريم أكل أموال اليتامى(وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبًا) (النساء/2)، مرورًا بإعطاء النساء حقوقهن المالية، وحجب السفهاء عن أموالهم حتى يرشدوا ويحسنوا التصرف بها كسبًا وإنفاقًا، ومن ثم توزيع الميراث وتبيان الحصص التي يستحقها كل فرد انطلاقًا من نوع العلاقة بالمتوفى وعلى الجنس الذي ينتمي إليه، وهذا التقسيم يعتمد على إقرار نظام عادل تبعًا لحاجات كل فرد وطبيعة دوره ضمن النسيج الاجتماعي القائم في ذلك العصر والذي أقرّ الشرع بوجوده، فأعطى الذّكر مثل نصيب الأنثيين، نظرًا للتكاليف المطلوبة منه تجاه أفراد الأسرة ذاتها.

ويرشدنا الله عز وجل إلى ضرورة الالتزام بهذا التوزيع التكاملي والتفاوتي والتفاضلي ويوجهنا إلى ضرورة القناعة بنصيب كل فرد وحصته، وعدم تمني الاستئثار بنصيب أي طرف على الآخر، أو بحصة أكبر مما قد تحصل، وذلك في قوله تعالى:( ولا تتمنوا ما فضّل الله بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله...) (النساء/32)، وتحويل الجهد بدلاً من البكاء على الفرق المفقود إلى تنمية الحصة التي تحصّل عليها، فالله عز وجل يعلمنا بأنه قد فضّل البعض على الآخر في التوزيع وعلى كل فرد أن يسعى إلى تنمية هذا الرزق ضمن قدراته وإمكانياته، وضمن هذا السياق القرآني ذي الأساس الاقتصادي نصل إلى الآية الكريمة (الرجال قوامون على النساء بما فضل...) ليوضح بأن ما اكتسبه الرجال من حصص إضافية لم يتأتَ من رؤية منحازة لنوع على حساب نوع آخر، بل هو تخصيص معلّل بالقيام على أمور النساء ورعايتها، وسياق الآية ينادي: أيها الرجال لا تفرحوا بما قد اكتسبتم، فما هو إلا دخل إضافي يعينكم على الأعباء المترتبة عليكم، وذلك التكليف مرتبط من خلال الباء (بما) التي تفيد معنى السببية والتعليل بما فضل الله بعضكم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، والنص القرآني يفيد بوضوح إلى أن التفضيل كائن في الحصة الإضافية خلال توزيع الميراث، ولا مجال للتأويل الفضفاض عند الحديث عن معنى التفضيل لأنه وارد صراحة في الآية قبل السابقة من آية القوامة " ولا تتمنوا ما فضّل الله بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن" (النساء/32)، ويستمر النص القرآني في تبيان علّة التشريع السابق خاصة بلزوم إنفاق الرجال على النساء كون النساء صالحات قانتات حافظات للغيب، وهنا نرى القرآن يفسر بعضُه بعضًا.

وهكذا نرى أن السياق العام والتفصيلات الخاصة هي تنظيم اقتصادي للعلاقة بين الذكور والإناث ضمن المؤسسة الأسرية تكسّبًا من الميراث وترتيبًا للحقوق والواجبات.

إذا ما أدركنا دلالة النص القرآني ضمن سياقه الاقتصادي نعجب كل العجب من ذهاب البعض إلى الحديث عن اختلافات تكوينية بنائية نفسية سيكولوجية (عدا ما هو متفق عليه من تكوين بيولوجي خاص) حتى تصل بهم خيالاتهم ليصوروها كائنًا ضبابي التفكير، عاجزة عن تدبر أمورها، وعلى التوازي يكون الرجل مخلوقًا مكتمل القدرات والكفايات، اعتمادًا على الآية الكريمة، وذلك بتحميل لفظة (القوامة) ما لا تحتمل من دلالات لغوية! والتي هي بمعانيها المتعددة من العدل والتدبير والرعاية وعماد الأمر الخ... لا تغادر دلالة التنظيم الإداري، ومع أن هذه الدلالة اللغوية تستلزم كفايات ومهارات الإدارة الناجحة من فهم وتقبل وتخطيط ومثابرة، إلا أنها ليست حكرًا على الرجال دون النساء وإن كانت غالبة عليهم لأسباب تعود – غالبًا - إلى التنشئة الاجتماعية وأدوار التنميط الجنسي الذي يبدأ من مرحلة الطفولة حين تقسم الأدوار بين البنت والولد، ليصل إلى الاكتمال ضمن البناء القيميّ الاجتماعي العام( ).

والدليل على أن النص القرآني لم يعنِ بأي حال تفوق جنس الذكور بوصفه نوعًا (جندرًا) على جنس الإناث هو الصياغة اللغوية الصرفية للفظ الوارد (قوامون) فهي صيغة مبالغة من الجذر قوم، وصيغة المبالغة (كتوظيف لفظي) تفيد الاتصاف على سبيل الكثرة لا الدّيمومة، ودليلنا في ذلك اتصاف الله (عز وجل) بفعل الرحمة لا يتعارض مع كونه شديد العقاب، ولم تستخدم الآية صيغة الصفة المشبهة كونها صيغة تعطي دلالة وصفية لذاتٍ محددة بما يوحي بديمومة تلك الصفة وبما يفيد ثباتها( )، وعليه فالرجال قوّامون على النساء يعني أن أغلب الرجال يقومون بفعل تدبير شؤون نسائهم، وهذا أمر عام نلمسه في العالم أجمع على سبيل غلبة فعل الأكثرية لا حصر ذلك بصفة ملتصقة بنوع، بمعنى أن مجموع الرجال (كنوع بشري) مدبر لمجموع النساء( كنوع أيضًا)، واللفظ (الرجال) مطلق أساسًا على العموم لا على خصوص كل فرد من الرجال، وبالتالي فالآية لا تنفي كون بعض النساء قد تقوم على أمر الرجال، وهو أمر لا يعارضه بحال سياق الآية، ولا طبيعة التجارب البشرية عبر التاريخ، ولا دليل أجلى على ذلك من خولة بنت ثعلبة تلك الصحابية التي قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجادله في أمر زوجها الذي ظاهَرَها (في قصة المجادلة المعروفة): (إنّ لنا صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتُهم إليّ جاعوا)، فهي أعمق إدراكًا لدورها في مؤسسة الأسرة وأشدّ حرصًا من رجلها على بقائها متماسكة.

وفعل القوامة الذي ذكره الله عز وجل مبرّرًا لاختلاف أنصبة المواريث ممكن في مرحلة محددة من عمر النوع البشري، وهي مرحلة الرجولة، والتي لا تطلق كصفة لازمة على الذكر إلا بعد مرور سنوات على خلقه ذكرًا، وبعد وصوله إلى سن البلوغ، ومن ثم النضج الجنسي والذهني والثقافي والاجتماعي، وهذا النضج غير ممكن إلا بعد عمليات تأهيل تمارسها الأطر الاجتماعية، فيكون اكتساب صفة الرجولة كوصف ثابت دائم اعترافًا من قبل الأطر الاجتماعية بأهليته في إدارة أمور من حوله.

فاستهلال الآية بوصف مكتسب(الرجال) يعني أن الذكر ليس قيِّمًا على الأنثى ضمن الحال المطلقة المختصة بالفروق العضوية لكل نوع، وهو ما يمتاز عن توزيع الميراث حين أوضح الله (عز وجل) بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو ما يشير إلى انتقال الدلالة من الذكورة حال اكتساب الميراث إلى ضرورة إتمام النضج والوصول إلى معيار الرجولة لتحمل الإدارة وتحصّل القوامة.

ويحلو للبعض(قديمًا وحديثًا) أن ينظّر لتفوق القدرات العقلية لجنس الذكور على جنس الإناث، انطلاقًا من الآية الكريمة، فيكون استدلاله عملية ليّ عنق للنص القرآني، وتحميله ما لا يمكن أن يحتمل لا لغة ولا منطقًا، ولأن نظرية التفوق هذه ذات أبعاد عنصرية ولا تصمد أمام البحث والنقاش العقلي العلمي يحاول مروجوها إلباسها لبوس الدين لتكتسب شرعية نقليّة رافعة، تدعم موقفهم المتهالك، فيلوذون بشرعية وقدسية النص الإلهي ليكتسبوا من قدسيته صحةً لنظريتهم( )، وهم بذلك يرهنون النص القرآني لفهمهم الخاص، وهو ما يؤدي إلى تشويه قدسيّة النص حين يساق لمن لا ينطق بالعربية أساسًا أو لمن ينطقون بها دون أن يعوا الأبعاد اللغوية المفصلة للنص المعجز، فينتقل الفهم المغلوط الخاص بأولئك المروجين إلى مناقشيهم، فيكون رد الفعل منهم برفض النص القرآني واتهام القرآن بمخالفة المنطق، ليكونوا حينها قد ارتكبوا خطأ مركبًا أساسه خطأ الاجتهاد ثم الصدّ عن دين الله عن طريق تشويه بعض قِيَمه.

وقد يكون توظيف الآية الكريمة شخصيًّا من الزوج حال الجدال بين الأزواج، وذلك بدافع تبرير أفعاله وتصرفاته الذاتية، فيتعلل الزوج بالقوامة لإثبات صحة قراراته المتخذة، دون أن يقبل محاكمة قراراته بتجرد عن مصدرها! وهو سلوك أقرب ما يكون لآليّة دفاع هروبية، لينوء بنفسه عن محاكمة قراراته بمنطق الفاعلية والصواب المستقل عن مصدر هذه القرارات، أي بمعزل عن كونها صادرة عن الرجل القوّام! بدليل النص القرآني.

وهذا الفهم لدلالة القوامة والنأي به عن التأويل التعسفي لا يعني بأي حال القبول بفكرة تنصل المرأة من قوامة رَجُلها عليها، فهو فعل مبرر ضمن منطق السبب والنتيجة، فالرجل لا يكون زوجًا إلا إن كان مؤهلاً لهذا الدور، ومرجعية هذا الحكم منوط بمدى تأهل الرجل له ومواءمته مع سماته، والحكم على مدى توفره هو في الأساس بيد امرأته وأهلها، حين يقبلون به خلال الخطبة، فالمرأة حين تتزوج تقبل ضمنًا وصراحة بمن تنظر إليه نظرة تقدير واعتزاز واعتراف بالأهلية والكفاية، وتعاشره على هذا الأساس، وبهذا فالقوامة على الأسرة هي نتيجة مكتسبة لسبب قد قدمه الرجل ولقي القبول عليه، وتحمل في سبيله البذل والإنفاق والجهد، واكتسب على أساسه دورًا إداريّا، يضمن ولايته على شؤون بيته، وعليه فلا يجوز لمن قبل القوامة أصلاً أن يرفضها في مراحل لاحقة، فالقوامة من أسس بناء الأسرة السليمة والنيل منها يكون نيلاً من الصفو والسكينة في هذه الأسرة وإذكاءً لروح التصارع والتفكك فيها، فالأصل بالمرأة أن تتقبل القوامة عليها طالما قبلت ببقائها ضمن مؤسستها الأسرية، على أن يبقى ضمن حقوقها حق الانسحاب من هذه المؤسسة بصورة كاملة إن شاءت، ضمن النظام الشرعي للخلع.

وقوامة الرجل على شؤون بيته مفهوم استراتيجي عام يخضع لمجموعة الارتباطات القيميّة المختلفة، والتي تضيق وتتسع تبعًا لمصادر القيم التي يحتكم إليها أفراد الأسرة، فمصادر القيم متعددة، من أهمها الأسرة والأقران والإطار الثقافي المحكوم بالوضع الاقتصادي والاجتماعي العام، فالرجل والمرأة يتذكران طبيعة الأدوار التي وجدا أبويهما عليها خلال طفولتهم، ويراقبان أقرانهما من أخوة وأصدقاء ومعارف، ويتحاكمان لمنظومة من التقاليد المتوافقة مع الوضع الاقتصادي الخاص بهم، وهم مع كل ما سبق يمتلكان حُكمًا على تلك الأدوار إما قبولاً أو نفورًا لتلك القيم، وبالتالي فالحدود الضابطة للقوامة فضفاضة، ولم يُعْنَ التشريع الإسلامي بتحجيمها على مقاس محدد، عدا ما هو مضبوط بتشريع مستقل، فالتمازج بين ما هو حكم شرعي وما هو توافق اجتماعي قد جعل البعض يتوقفون عند ما أقره الإسلام ضمن حكم المباح فيعدوا ما سواه واقعا تحت حكم غير الجائز، وذلك لأنه يخالف ما أقره الإسلام حال نزوله، متناسين أن ما أقره الإسلام من أعراف وتقاليد كونها مباحة لا يمنع من كون أعراف وتقاليد أخرى لأقوام في أماكن أو أزمنة أخرى مباحة أيضًا، وبالطبع ما لم تكن ممنوعة بتشريع مستقل.

وهذا ما نفسر به اختلاف رؤية علمائنا الأجلاء خلال القرون والعقود الماضية لشكل علاقة الرجل بالمرأة، وهو اختلاف نقبل باستيعابه وتفهمه إلا حين يبادر البعض لإلباس العادات والأعراف والقيم الاجتماعية عباءة التشريع الإسلامي، عندها نقف ونقول: مهلاً، ما هو من الله (عز وجل) فهو من الله خالقنا وبارئنا، وما هو من عند أنفسنا وعاداتنا وما توارثناه فهو من عندنا، نفتخر به إن استحق الافتخار غير أننا لا نلزم به أحدًا.

وهذه السعة في تقبل الاختلافات الاجتماعية والنأي بها عن قدسية التشريع هي سر المبدأ الذي يضمن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.

 [1]


[1الهوامش

) للمزيد عن دور التنشئة الاجتماعية في التنميط الجنسي، انظر: (علم نفس النمو والمراهقة) ، فايز القنطار، وآخرون، 2002،الجامعة العربية المفتوحة،الكويت، ص122.

) للمزيد حول دلالة الصفة المشبهة على ثبات الصفة وصيغ المبالغة على كثرة وقوع الفعل، انظر كتاب: (شرح قطر الندى وبل الصدى) لمحمد عبد الحميد، ص278، مصر، دار الثقافة.

) للاطلاع على رد العلامة محمد الغزالي على بعض المفاهيم المغلوطة بما يختص بقوامة المرأة انظر كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) ص47، الطبعة الرابعة، دار الشروق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى