الجمعة ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
مطارحاتٌ في فضاءِ الفكْر
بقلم رامز محيي الدين علي

القُبْحُ

القُبْحُ

قالُوا:

الذّكاءُ يُحوِّلُ القبحَ جمالاً، في حينٍ لا يستطيعُ الجمالُ إصلاحَ الجهلِ. (سقراط)
الجمالُ متغيِّرٌ بينَ الحينِ والآخرِ، أمّا القبحُ فغالباً ما يكونُ راسخاً في النُّفوسِ. (دوغْلاس هورتُون)
لمَاذا الفنُّ بهَذا الجَمال؟ لأنَّه لاغايةَ من ورائِه.. ولمَاذا الحياةُ بهَذا القُّبحِ؟ لأنَّها مليئةٌ بالغاياتِ والأغراضِ والأهدافِ. (فرناندو بيسوا)
الجمالُ مجرَّدُ طبقةٍ خارجيَّةٍ، أمّا القبحُ فيكونُ متوغِّلاً حتَّى العِظامِ. (دوروثي باركر)

وأقولُ:

قدْ يتفوَّقُ القبحُ على الجمالِ، إذا اقترنَ الأوَّلُ بالذَّكاءِ، والثَّاني بالغَباءِ.
القبحُ سمُّ الأشرارِ، والجمالُ شَهدُ الأبرارِ!
القبحُ بابٌ إلى الجحيمِ، والجمالُ طريقٌ إلى النَّعيمِ!
بالقبحِ تنهارُ الحضارةُ، وبالجمالِ تتجدَّدُ معالمُها!
بالقبحِ نبتعدُ عن السَّماءِ، وبالجمالِ نقتربُ من عرشِ خالقِها!
القبحُ نقائصُ الانحدارِ إلى الهاويةِ، والجمالُ فضائلُ الارتقاءِ نحوَ الكمالِ.

أيُّها القبحُ..

لمَ تَطغَى على الحياةِ، فتجعلُها جحيماً، وهيَ نعيمُ اللهِ على الأرضِ؟!

لم تُشوِّهُ جمالَ الحياةِ على الأرضِ، فيَدلهِمُّ الكونُ بأسرِه في أعينِ الحالمينَ بجمالِ النَّعيمِ في السَّماءِ؟!
لمَ يهربُ البشرُ من ملامِحكَ الظَّاهرةِ، وفي أعماقِ ذواتِهم ألفُ قبحٍ وشَيْنٍ؟!

لمَ يجمِّلُونَ من ملامِحِك النَّافرةِ في الظَّاهرِ، وفي جِبِلَّةِ نفوسِهم صخورٌ صمَّاءُ من البشاعةِ والتَّنافرِ، يتَوارون تحتَها، وينسِبُون سوءاتِهم تارةً إلى الشَّيطانِ، وتارةً أخْرى إلى صروفِ الزَّمانِ، وثالثةً إلى ضرورةِ الأحكامِ، ورابعةً إلى ضعفِ الإنسانِ؟!

لمَ يتَّخِذُونك عدوَّاً في المظاهرِ، و يُصادقُونك خليلاً في الجَواهرِ؟!

لمَ يُسرفُون في ثرواتِهم لتجميلِكَ في النَّوادِي والمحافلِ، ولا يُنفقُون هُنيهةَ فكرٍ وتأمُّلٍ في استِئْصالِك من أعماقِ الدَّواخلِ؟!

لمَ يَقطعُون رقابَ الوقتِ بسيوفِهم، وهُم يبحثُون عنِ القُبحِ فيمَن وفيمَا يَكرهُون، ويتَباهَون بأنَّهم ملائكةٌ لا يَشوبُ جمالَهم شائبةٌ من شوائبِكَ الظَّاهرةِ والباطنةِ؟!

لمَ يَستَصغِرُون ملامِحَ الجمالِ فيمَن يَعيشُون في صمْتٍ، ويَستَكبِرون علائمَ القُبحِ فيمَن يَعرُّون عريرَ الصَّراصِيرِ، ويُنَقنِقُون نقِيقَ الضَّفادعِ؟!

لمَ يحتَقِرون الأياديَ المُشقَّقةَ من أثرِ عبادةِ العملِ والكَدِّ، ويُمجِّدُون الأياديَ الملطَّخةَ بدماءِ الأبرياءِ، ويُقبِّلُون الأياديَ الكَسْلى الّتي تَمُوجُ بالجواهِرِ؟!

لمَ يزْرُون غِناءَ الحَميرِ، وهيَ تُنشِدُ أرْوعَ سمفونيَّاتِ همومِ الحياةِ ومآسيْها، ويتَراقَصُون طرَباً ونشْوةً على نهيقِ البُلَهاءِ، وهمْ يُقلِّدُون دوابَّ الأرضِ في دبيبِها، ويَعزفُون نعيقَ الغِربانِ في أوكارِها، ويُلحِّنُون نقيقَ الضَّفادعِ في وديانِها؟!

لمَ يُزخرفُون هزائمَهم ببيارقِ النَّصر، وينسجُون حولَ قبائِحِهم رواياتِ فروسيَّةِ عنترةَ؟!

لمَ يُلاحقُون جمالَ الفكرِ بسيوفِ الوطنيَّةِ، وفي عباءاتِ أفكارِهم الباليةِ طعنةُ ألفِ خنجرٍ مسمومٍ؟!

لمَ يُطاردُون أصواتَ البلابلِ في حقولِهم، ويركعُون سجَّداً أمامَ عويلِ الذِّئابِ الّتي تلاحقُ قطعانَهم وتنهشُها حتّى العِظامِ، ويترنَّمُون طرباً بأنَّ عصيَّهم قد أرعبَتْ كلَّ الذِّئابِ؟!

لمَ يرفعُون الأبلهَ المعتُوه إلى مقامِ الفيلسوفِ الحكيمِ، ويُنزِلُون عباقرةَ الفكرِ إلى منازلِ الذُّلِّ والمَهانةِ وزنزاناتِ القهرِ والموتِ الزُّؤامِ؟!

لمَ يُمجِّدون جلودَ الأسودِ الَّتي تنهشُ أجسادَهم كالأفاعِي، ويحتقِرُون جلودَ الأرانبِ وهيَ تسترُ عوراتِهم الّتي هتكَ الزَّمانُ أدقَّ تفاصيلِ بشاعتِها؟!

لمَ يَنفرُون من كلِّ حقيقةٍ ناصعةٍ كالثَّلجِ، ويتهافتُون كالبهائمِ على كلِّ بارقةِ زيفٍ وضلالٍ تتَّشحُ في ظاهرِها بأوشِحةِ ترياقِ التَّمدُّنِ والحضارةِ، وفي أعماقِها زِرنِيخُ الفناءِ؟!

أيُّها القُبحُ..

سمِعْتَ جواهرَ كلماتِي حينَما طارحْتُ الجمالَ همُومي وأفكارِي.. وها هيَ تساؤلاتِي تنهمرُ كحبَّاتِ المطرِ أمامَ عينَيّ بصيرتِكَ.. فلمَ لا تكونُ صِنواً للجمالِ يمدحُكَ المادحُون، ويتغنّى بجمالِ صفاتِك المتغزِّلُون.. وتكونُ الوجهَ الآخرَ للجمالِ؟!

كيفَ أيُّها الفيلسوفُ الغِرُّ.. وأنا نقيضُ الجمالِ، ولولايَ لما عرفتُم معنىً من معانيهِ، فليَ الفضلُ في إظهارِ فضائلِه؟!

كلامُك فلسفةٌ تفوقُ فلسفتِي أيُّها القبحُ، لكنّني أدعوكَ إلى الاقترانِ بالجمالِ اقترانَ العاشقينِ جسداً وروحاً ليلةَ الزِّفافِ، فتَمْضي الحياةُ مُفعمةً بالحبِّ والتَّفاؤلِ والعيشِ الرَّغيدِ؟!

أَحترمُ رأيَكَ أيُّها الصَّديقُ المفكِّرُ، ولكنْ إذا شاءَ القدرُ، وعقَدْنا القِرانَ بينِي وبينَ الجمالِ، فلِمَن تكونُ غلبةُ صفاتِ المولودِ في رأيِكَ؟!

لنْ تكونَ ثمَّةَ غلبةٌ لصفاتٍ على أُخْرى أيُّها القبحُ إلّا للأفضلِ والأجملِ، وستُولَدُ من عُشِّ زواجِكما صفاتٌ وخصالٌ أجملُ؛ لأنَّ الغلبةَ دائماً للجمالِ باعتبارِه قُدسَ أقداسِ الإنسانيَّةِ، ومن ثمَّ يتجدَّدُ وجهُ الحياةِ بوشاجٍ جديدٍ يحملُ أجملَ صفاتِ الجمالِ، كما ينبضُ قلبُ الحياةِ بحبٍّ جديدٍ يحملُ أرْوعَ خصائصِ الإنسانيَّةِ النَّبيلةِ معجونةً ببعضِ ملامحِكَ وخصائصِكَ الّتي ستذوبُ معَ إكسيرِ الجمالِ والمحبَّةِ، وهذا ما يُسمِّيهِ العلماءُ اليومَ بالنَّسلِ الهَجينِ.. وما سمَّاهُ من قبلُ صاحبُنا داروِن بقانونِ التَّطوُّرِ؟!

فالحياةُ - كمَا تعلمُ أيُّها القُبحُ - في تطوُّرٍ دائِمٍ ومستمرٍّ.. فلا تستغرِبْ أنْ يُصبحَ الحمارُ – معَ كلِّ تقديري لهُ – قائداً مظفّراً عظيماً، بعدَ أنْ أنهكَه البشرُ بالحراثةِ والجَلدِ بالسِّياطِ.. أو فيلسوفاً حكيماً، بعدَ أنْ باتَ رمزاً للاحتقارِ من قبلِ القاصِي والدَّاني في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.. أو ملِكَ جمالٍ يستَعرضُ مفاتِنَ قِواهُ الخفيَّةِ على مسارحِ الرُّجولةِ الغائبةِ.. فكلُّ شيءٍ قابلٌ للتَّطوُّرِ!!

عبقريٌّ أيُّها الفيلسوفُ!! ما رأيُكَ أنْ تجلسَ مكانِي وتقودَ العالمَ مِن مَقامي هَذا؟!

عفواً أيُّها القبحُ.. أنا لا خِبرةَ لي في القيادةِ، ولا أرنُو إليْها قطُّ، ولكنّي قصدْتُ أنْ تتَّحِدَ مع الجمالِ لتُصلِحا ما أفسدَتْهُ البشريَّةُ؟!

يَبدُو أنَّكَ لا تتَّعِظُ بأقوالِ الفلاسفةِ، معَ أنَّكَ تُنهِكُ فكرَكَ بها آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهارِ. ألمْ تَقرأْ ما قالَه فيلسوفُكم الإيرلنديُّ (برنارد شو)، حينَما عرضَتْ عليهِ إحدَى السَّيِّداتِ الجميلاتِ الزَّواجَ بهِ، فقالَت: "حبَّذا لو تزوَّجْتَ بي فسيَأتي مَولودُنا بجَمالِي وذكائِكَ، فيَكونُ عبْقريَّ زمانِهِ. فردَّ برنارد شُو ساخِراً: أخشَى أن يأتيَ المولودُ بذكائِكِ وجمَالي، فيكونُ مصيبةَ الدَّهرِ."

هَذا ما سيَحدثُ لكُم تماماً، وهذا النَّاموسُ هو الّذي يحكمُ العالمَ الآنَ، فكيفَ تُريدُني أنْ أقترِنَ برجلٍ ضعيفٍ تدعونَه جمَالاً، وأنا ربَّةُ القوَّةِ والسَّطوةِ والمالِ، أحرِّكُ الإمبراطوريَّاتِ الطَّاغيةَ الّتي لا تحملُ وجهاً من وجوهِ الجمالِ، وإنَّما تنشرُ في العالمِ كلَّ معالمِ القُبحِ من القتلِ والدَّمارِ والخرابِ، وتشويهِ جمالِ الطَّبيعةِ والإنسانِ والتَّاريخِ والحضارةِ!

كيفَ تتصوَّرُ جمالَ المولودِ بينَ إمبراطوريَّةٍ خشِنةٍ قبيحةٍ وبينَ دُويلةٍ تحلمُ بالجمالِ بينَ ليلةٍ وألفِ ليلةٍ؟ هل سيُعانقُ الغولُ طفلاً وديعاً ويضمُّهُ إلى صدرِهِ بحنانِ الأمِّ، ليُقالَ إنَّ الشَّوكةَ تحتضِنُ وردةً نديَّةً جميلةً؟! فتخيَّلْ - يا رعاكَ اللهُ - كمْ هيَ طيِّبةٌ فلسفتُكَ؟!

كيفَ تتخيَّلُ إمبراطُوراً كالفيلِ يغزُو دُوَيلة تتربَّعُ عرشَ حديقةٍ جميلةٍ؟! هل سيَجلسُ ليتأمَّلَ جمالَ الورودِ والأزاهيرِ، ويُسبِّحُ بحمدِ ربِّه ويستغفرُه، ثمَّ يقطفُ وردةً ليُهدِيها لسُّكَّانِ هذهِ الحديقةِ بمناسبةِ عيدِ الحبِّ (الفالنْتاين)؟! أمْ ماذا سيفعلُ؟! هلْ تستطيعُ فلسفتُكَ الإجابةَ على سؤالٍ من أسئِلَتي، وقد أنهَكتَ فِكري وأنتَ تتساءلُ: (لمَ.. لمَ.. لمَ..)؟ خُذْ (لماتِكَ) وامنَحْها شهادةَ (بروفيسور) لمَن يحِنُّ إليْها!! وخُذْ قولَ إمامِكُم الشَّافعيِّ وامنَحهُ شهادةَ حسنِ سلوكٍ للّذينَ يتباهَونَ بأخلاقِهم ولا يَحملُونَ جميلةً من حسنِ الفعلِ:

يُخاطِبُنِي السَّفيهُ بكلِّ قُبحٍ * فأكرَهُ أنْ أكونَ لـهُ مُجِيبا
يَزيدُ ســفاهةً فأَزيدُ حِلْماً * كعُودٍ زادَه الإحراقُ طِيْبا

وداعاً أيُّها الفيلسوفُ.. نلتقِي حينَما تتطوَّرُ حياتُكم وتُصبِحونَ بشراً تحملُونَ منَ الجمالِ ربعَ ما تَحمِلُون منَ القُبحِ.. أنا البحرُ، وجمالُكم هوَ اليابسةُ.. ففكِّرُوا بكوكبٍ آخرَ، فلربَّما تجِدُون هناكَ ما تبحثُون عنهُ أيُّها الفلاسفةُ!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى