الأربعاء ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦

الكاتب الذي ركعت (مارلين ديتريتش) على ركبتيها لتحيته

جودت هوشيار

قرأت في عام 1963 – وأنا طالب في موسكو– نتائج استطلاع للرأي بین القراء الروس عن أحب كاتب إلى قلوبھم. وكم كانت دھشتي عظیمة، عندما تصدر الكاتب الروسي قسطنطین باوستوفسكي القائمة، التي كانت تضم أشھر كتاب روسیا والعالم.

كنت قد سمعت باسم ھذا الكاتب أول مرة من مدرسة اللغة الروسیة في الكلیة التحضیریة بجامعة موسكو، وغلب على ظني حینئذ انھ من الكتاب الذین یحظون بمباركة رسمیة. ونسیتھ بعد ذلك تماماً. وقد دفعني ھذا الاستطلاع إلى البحث عن أعمالھ الروائیة والقصصیة في متاجر الكتب بالمدینة، ولكن دون جدوى، لأن كل كتاب جدید لھ كان ینفد بعد أیام من عرضھ للبیع، رغم صدوره في مئات الآلاف من النسخ. فما كان مني إلا أن أبحث في المكتبة العامة القریبة من مسكني عن نتاجاتھ. وما أن شرعت بقراءة أعمالھ حتى سحرني أسلوبھ وعالمھ القصصي، الذي یشغل فیھ وصف الطبیعة الساحرة لروسیا الوسطى جانباً كبیراً منھ، وھو لا یقص أحداثاً خطیرة أو وقائع عظیمة، بل یجعل الأحداث الصغیرة، والأشیاء العادیة مثیرة للاھتمام.

قسطنطین باوستوفسكي (1892- 1968) كاتب غزیر الإنتاج، كتب عشرات الروایات والقصص الرائعة، كما كتب للأطفال مجموعة من الحكایات الجمیلة، وحولت السینما الروسیة العدید من قصصھ وروایاتھ إلى أفلام سینمائیة ناجحة.

وقداستوقفتني روایتھ الرائعة"الوردةالذھبیة-1955"المكرسة لجوھر الكتابة الإبداعیة. وھي على شكل فصول مستقلة، وكل فصل مكرس للحدیث عن تجربة إبداعیة معینة للمؤلف. وكما یقول في مقدمة الكتاب، فإن ھذه الروایة لیست بحثاً في قواعد كتابة الروایة أو القصة، مؤكد ًا أنھ لا وجود لمثل ھذه القواعد، بل یدعو القارئ إلى الدخول في مختبره الإبداعي.

وفي الفصل المعنون "ندوب على القلب" یتحدث عن خلفیة كتابة أشھر قصة قصیرة لھ وھي "البرقیة" عندما قضى عدة أشھر في دار امرأة عجوز مریضة ببلدة ریفیة، وتفرغ فیھا للكتابة. ولكنھ أزال نفسھ من القصة، وكتبھا بالضمیر الثالث، وأضاف إلیھا شخصیات من وحي الخیال. والقصة أعمق وأغنى من الواقع بكثیر. قرأت قصة "البرقیة" بتمعن، وأعدت قراءتھا المرة تلو المرة، وأنا مأخوذ بأناقة لغة الكاتب وجمال أسلوبھ، وعمق تصویره السایكولوجي، الذي یحرك مشاعر القارئ ویترك في نفسه أثراً عمیقاً، ویدفعه إلى تأمل الحیاة من حولھ برؤیة جدیدة.

ویبدو أنني لم أكن وحدي من ھزته ھذه القصة السایكولوجیة، فقد كرست المغنیة والممثلة الألمانیة -الأمیركیة الشھیرة مارلین دیتریتش، أسطورة ھولیود، صدیقة ھمنجواي وریمارك، فصلاً كاملاً في كتاب لھا بعنوان "تأملات - 1985"، للحدیث عن ھذه القصة وكاتبھا باوستوفسكي ولقائھا بالكاتب في موسكو عام 1964، عندما أحیت عدة حفلات غنائیة على مسرح "دار الكتاب".

كان ھناك مئات الصحفیین الذین لم یوجھوا لي أي أسئلة غبیة من قبیل الأسئلة التي ابتلیت بھا في البلدان الأخرى. وكانت أسئلتھم مثیرة للاھتمام. استغرق حدیثنا أكثر من ساعة، وعندما وصلت إلى فندقي، كنت أعرف كل شيء عن باوستوفسكي. كان مریضاً، وراقداً في المستشفى في ذلك الوقت. وقد قرأت لاحقاً كلا المجلدین لسلسلة روایاتھ المعنونة "قصة حیاة" وكنت منتشیة بنثره الفني. قدمنا عدة حفلات للك ّتاب، والفنانین، والممثلین. وأحیاناً
كنا نقدم أربع حفلات یومیا.

وفي أحد ھذه الأیام، وأنا خلف الكوالیس، أستعد للظھور على خشبة المسرح، جاءت مترجمتي )نورا(، وقالت. إن باوستوفسكي موجود في القاعة. لم أصدق ذلك. وقلت: "ھذا مستحیل"، فھو یرقد الآن في المستشفي بسبب نوبة قلبیة، كما قیل لي في المطار. ولكن )نورا( أكدت: نعم أنھ ھنا برفقة زوجتھ. كانت الحفلة جیدة، ولكنك لن تحقق ما تنشده، عندما تحاول بكل جھدك أن یكون أدائك على أفضل وجھ. طلبوا مني البقاء على المسرح، بعد انتھاء الحفلة. وفجأة صعد باوستوفسكي الدرج إلى خشبة المسرح. ذھلت عندما رأیتھ شاخصاً أمامي، وانعقد لساني، ولم أستطع أن أتفوه بكلمة واحدة بالروسیة. ولم أجد طریقة أخرى للتعبیر عن إعجابي بھ سوى الركوع على ركبتي أمامھ. كنت قلقة على صحتھ، وأرید أن یعود إلى

لمستشفي حالاً. ولكن زوجتھ طمأنتني: "ھكذا سیكون أفضل لھ. لقد بذل
جھداًكبیرًا لكي یأتي لرؤیتك".وقدتوفي بعدذلك بوقتقصیر. بقیت لدي كتبھ وذكریاتي عنھ. َك َت َب باوستوفسكي برومانسیة، ولكن بوضوح، ومن دون تزویق. لست على یقین أنھ معروف في أمیركا، ولكنھم سیكتشفونھ یوماً. أنھ من أفضل الكتاب الروس الذین أعرفھم. لقد التقیت
بھ في وقت متأخر جداً.

ویروي بعض الكتاب الروس الذین حضروا الحفلة ذكریاتھم عن ھذا الحادث. وھم یختلفون في بعض التفاصیل، ولكنھم یجمعون، بأن الجمھور أصیب للحظات بالذھول، وساد القاعة الكبیرة صمت غریب، ثم صرخت فتاة داخل القاعة بكلمات مبھمة، د ّوت بعدھا عاصفة من التصفیق المتواصل. ویقول ھؤلاء الشھود بأن دیتریتش ارتمت على المسرح جاثیة على ركبتیھا وأخذت تقبّل الید التي كتبت قصة "البرقیة"، ثم وضعت ید باوستوفسكي على خدھا المبللة بالدموع.

كانت دیتریتش ترتدي فستاناً ضیقاً، ابیض اللون، وكان من الصعب علیھا النھوض، فساعدھا بعض الحضور على ذلك، ثم خاطبت الجمھور قائلة: "كنت أحلم بلقاء باوستوفسكي، من أجل سداد دین لھ في عنقي، وأنا في غایة السعادة لأن حلمي قد تحقق."، كان في القاعة العدید من المصورین، ولكنھم كانوا في حالة ذھول ولم یفطن أحد منھم لالتقاط صورة لھذا المشھد النادر سوى أحد الحضور، الذي التقط صورة واحدة، نشرت فيما بعد في الصحف السوفیتیة.

قصة "البرقیة"

تتناول القصة الأیام الأخیرة في الحیاة لامرأة عجوز مریضة تدعى كاترینا بتروفنا، التي تعیش وحدھا في دار بناھا والدھا الفنان التشكیلي الراحل في بلدة )زابوریا( بعد عودتھ من العاصمة الروسیة القدیمة بتروغراد.

كانت كاترینا في شبابھا في غایة الجمال والنشاط والحیویة، زارت باریس مع والدھا وعاشت فیھا عدة أشھر، وشاھدت جنازة فیكتور ھوجو، وكانت لعائلتھا علاقات اجتماعیة واسعة بالفنانین والكتاب والشعراء، أما الیوم فأنھا تقضي أیامھا في استعادة صور الماضي، ولولا بنت الجیرا ن "مانوشكا" التي تأتي لأداء الأعمال المنزلیة، ولولا عامل الإطفاء، الذي یھیئ لھا الحطب للشتاء الروسي القاسي، لماتت في غرفتھا من البرد والجوع دون أن یدري بھا أحد. إدارة البلدیة حجزت على الدار بذریعة أنھا تراثیة، وعلى اللوحات الفنیة الثمینة فیھا. لكنھا لا تبدي أي
اھتمام، لا بالدار ولا بصاحبتھا.

ناستیا الابنة الوحیدة لكاترینا بتروفنا تعیش في لینینغراد، المرة الأخیرة التي جاءت فیھا لزیارة أمھا كانت قبل ثلاث سنوات. لم تكن كاترینا بتروفنا تراسل ناستیا إلا ما ندر، فھي لم تكن راغبة في التدخل في حیاة ابنتھا، ولكنھا كانت دائمة التفكیر فیھا.. ناستیا أیضاً لم تكن تكتب أیة رسائل لأمھا، وتكتفي بإرسال حوالة مالیة لھا بمبلغ مائتي روبل كل
شھرین أو ثلاثة أشھر.

في أواخر أكتوبر، وفي ساعة متأخرة من اللیل، سمعت كاترینا بتروفنا
دقات على باب الحدیقة، وذھبت لتفتح الباب ولكن لم یكن ھناك أحد.

في تلك اللیلة كتبت رسالة لأبنتھا ترجوھا أن تأتي لزیارتھا.

كانت ناستیا تعمل سكرتیرة لاتحاد الفنانین التشكیلیین في لینینغراد، وكان الفنانون یسمونھا "سولفیك" لشعرھا الأشقر وعیونھا الوسیعة الباردة. عندما استلمت رسالة أمھا كانت جد مشغولة بتنظیم معرض للوحات فنان موھوب ومغمور اسمھ تیموفییف، ولھذا فإنھا دست الرسالة في حقیبتھا لتقرأھا فیما بعد. الرسالة طمأنتھا بأن أمھا ما زالت على قید الحیاة ما دامت قد كتبت لھا رسالة.

عند زیارتھا لمرسم الفنان تیموفییف كان ثمة تمثال نصفي لجوجول وخیل إلیھا بأن جوجول یحدق فیھا بنظرة تھكمیة ساخرة. انشغلت ناستیا أسبوعین كاملین في تنظیم المعرض. وخلال حفل الافتتاح جلبت ساعیة البرید برقیة عاجلة لھا بتوقیع تیخون: "كاتیا تحتضر". لم تفھم فحوى البرقیة على الفور، إلى أن قرأت اسم بلدة )زابوریا( التي صدرت عنھا البرقیة.. وكاتیا ھي اختصار لأسم كاترینا. ك ّومت ناستیا البرقیة في قبضتھا، وخیل إلیھا مرة أخرى أن جوجل ینظر إلیھا نظرة عتاب وتقریع. وفي مساء الیوم نفسھ قررت السفر إلى زابوریا توجھت إلى محطة القطار مشیاً على الأقدام، كانت الریح المثلوجة تضرب وجھھا، ولكنھا لم تكن تبالي بھا.

كانت كاترینا بتروفنا طریحة الفراش منذ عشرة أیام، وظلت "مانوشكا" إلى جانب المریضة للیوم السادس. ذھب تیخون إلى دائرة البرید في البلدة واخذاستمارةبرقیة،وفكرطویلاًقبلأنیكتبشیئاًماعلىالاستمارة،ثّم جلبھا لكاترینا بتروفنا وقرأ في رھبة : "انتظریني. أنا في الطریق. إبنتك المحبة دائماً. ناستیا" شكرت كاترینا بتروفنا تیخون لكلماتھ الطیبة
واستدارت تحو الحائط وكأنھا قد غلبھا النعاس.

تم تشییع كاترینا بتروفنا في الیوم التالي، والذي حضره العجائز والصبیان. وفي الطریق إلى المقبرة شاھدت المعلمة الشابة في مدرسة البلدة النعش، فتذكرت أمھا العجوز، التي تركتھا وحیدة في المدینة. اقتربت المعلمة من
النعش وقبلت ید كاترینا بتروفنا الصفراء الجافة.

وصلت ناستیا إلى )زابوریا( في الیوم الثاني لدفن أمھا. ووجدت بدلاً منھا كومة تراب على قبرھا، وغرفة فارغة باردة ومظلمة ظلت تبكي فیھا طوال اللیل. ومع حلول الفجر غادرت )زابوریا( خلسة لكي لا یشاھدھا أو یسألھا أحد. وخیل إلیھا أن لا احد یستطیع أن ینزع عنھا ثقل الذنب، الذي لا
یمكن إصلاحھ سوى أمھا الراحلة.

ھذه ھي القصة التي أبكت الكثیرین. وھي قصة كالجبل الجلیدي، لا یظھر منھا على السطح سوى جزء بسیط، والبقیة بین الأسطر وما ورائھا. باوستوفسكي مثل تشیخوف وھمنجواي یترك القارئ لیكمل القصة بنفسھ كل على طریقتھ الخاصة، أما الكاتب فیكتفي بالتلمیحات والتفاصیل الدّالة. ومن ھذه التفاصیل أن الفنانین كانوا یطلقون على ناستیا اسم "سولوفیك" وھو اسم بطلة مسرحیة "بیر جینت" للكاتب النرویجي ھنریك ابسن. ومن
قرأ ھذه الم سرحیة یعرف المقصود ب"سولفیك".

ومن ھذه التفاصیل أیضاً أن كاترینا بتروفنا كانت تحمل دائماً حقیبتھا الیدویة، وتفتحھا بین حین وآخر لتتطلع إلى صورتھا وھي شابة، والى صورة ابنتھا، وإلى بعض الأوراق الرسمیة یداخلھا. وھذا تلمیح إلى أن زوج كاترینا، الذي تجاھل المؤلف الإشارة إلیھ ربما یقبع في المعتقل وھذه الأوراق تخص قضیتھ. وثمة تلمیح آخر وھو أن كاترینا، حین خیل إلیھا أن أحداً یدق باب الحدیقة، في وقت متأخر من اللیل وذھبت لتفتح الباب ولم تجد أحداً، إنما كانت تنتظر عودة زوجھا. والقصة زاخرة بھذه التفاصیل الموحیة.

باوستوفسكي أحد الكتاب القلائل الذین حافظوا على استقلالیتھم وحریتھم الداخلیة، في ظروف بالغة القسوة في ظل النظام الستالیني الشمولي. لم ینتم إلى الحزب الشیوعي، ولم یكن عضواً في مجلس السوفییت الأعلى، كما العدید من زملائھ الكتاب. بل أنھ لم یكن عضواً قیادیاً حتى في اتحاد الكتاب السوفییت. لم یكتب كلمة واحدة في مدیح ستالین أو النظام البلشفي، ولم یحاول التسویق لنفسھ بالتملق لذوي النفوذ. وظل ضمیره حیاً، یقظاً، ونقیاً.
واستطاع أن یحافظ على سمعتھ ككاتب صادق وإنسان نزیھ.

لم یترجم شيء یذكر من أعمال باوستوفسكي الرائعة إلى اللغة العربیة، رغم أنھ ومنذ الخمسینات معروف عالمیاً، وترجمت أعمالھ إلى أھم لغات العالم، وكان في مقدمة المرشحین لنیل جائزة نوبل للآداب لعام 1965، بل أن لجنة نوبل أتمت كل التحضیرات لإعلان فوزه بالجائزة، ولكن الاتحاد السوفییتي مارس ضغطاً دبلوماسیاً واقتصادیاً ھائلاً على السوید، لصرف النظر عن منح الجائزة لباوستوفسكي. وفعلاً أثمر ذلك عن منح الجائزة إلى مرشح الدولة السوفیتیة میخائیل شولوخوف.

جودت هوشيار

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى