الاثنين ١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم حسن أحمد عمر

الكذب الأبيض

(1)

قال لى صديقى:

لقد تخاصم فلان وعلان منذ أسبوعين وقد حاول الكثيرون الصلح بينهما حتى يعودا لسابق عهدهما فهما صديقان قديمان ولكن كل الجهود ضاعت سدى فقمت أنا بالصلح بينهما لما لى فى قلبيهما من محبة ومنزلة وصداقة ولكننى استخدمت أسلوباً اريد رأيك فيه فقلت خيراً ماذا استخدمت؟

فقال : لقد أوحيت لكل منهما أن الآخر يقول عنه كلاماً عظيمأ ويشكر صفاته ويمجد أخلاقه حتى صنعت فى نفسيهما حنيناً شديداً نحو شخصيهما فبادرا بالعودة والتصالح وانتابنى شعور غامر بالفرحة والنشوة والسعادة لأن الله تعالى وفقنى فى هذا العمل العظيم فهل أنا كاذب علماً بأن كليهما لم يتحدث عن الآخر بكلمة شكر واحدة ولكن فى نفس الوقت لم يذكر أحدهما الآخر بسوء؟

قلت : طبعأ أنت كذبت وهذا شىء سىء وغير محمود مهما كان القصد فإن لديك من الفطنة والذكاء ووسائل الإقناع ما يغنيك عن اللجوء للكذب كسبب للمصالحة بين صديقيك ولا مبرر أساساً للكذب مهما كانت الأهداف والأسباب والدوافع فاى صلح هذا الذى ينشأ من كذبة؟ ومن أدراك أنهما لن يشكر كل منهما الآخر على ما وصله من كلام عن طريقك طبعاً وعندئذ قد يفصح كل منهما للآخر عن الحقيقة وأنه لم يصدر منه مثل هذا القول فى حقه فماذا يكون موقفك ووضعك عندئذ ؟

قال صديقى : ولكنها كذبة بيضاء وهدفها الصلح بينهما ولا يوجد مكسب يعود علىّ من ذلك ويعلم الله أننى ما رجوت لهما غير الصلح والخير

فقلت له : ويعلم الله ايضاً أنك تكذب فى هذه اللحظة فهل تنكر أنك أردت بإصلاحك بينهما أن تظهر بمظهر الرجل الصالح المصلح الذى يجمع شمل الأصدقاء بعد تمزق وهو مكسب إجتماعى خطير يضيف لشخصيتك قيمة وهيبة ووضعاً لم تكن تحلم به؟ وهو مكسب فى رأى العقلاء يفوق كثيراً المكسب المادى فلماذا تنكر وجود هدف من إصلاحك بينهما ؟

قال : أنت تأتى بفكر عجيب لم يخطر لى ببال

فقلت ولكنك تسألنى فهل أقصر معك فى الرأى والإجتهاد ؟ فلابد لى أن أوصلك كل ما اقدر عليه من فكر فى هذا الشأن ثم لا شىء إسمه الكذب الأبيض فهذه مخترعات موروثة وتقليد أعمى لايجب إتباعه فأى كذب أبيض هذا؟ إن الكذب أسود فى كل الأحوال ولو اريد به الإصلاح ولا يمكن الإصلاح بالكذب مهما تفننت وتحذلقت فى خلق القصص وإختلاق الفنون لتوصيل فكرتك فالكذب مرفوض اخلاقياً شكلاً ومضموناً ولا يمكن لعاقل يحترم إنسانيته أن يؤمن أن الكذب يقيم نظاماً أو يصلح وضعاً إجتماعياً مختلاً ولكن الصدق والصدق فقط هو وسيلة الصلح وسبيل الإصلاح فى كل المجتمعات ولكل البشر الذين لا يبغونها عوجاً.

(2) العبد الفشار:

كنت فى عيادتى أقوم بعملى فسمعت رجلأ يقول لزميله وهما مرافقان لمريض

ياعمى ربك بيحب عبده الفشار
!!!!
إنتظرت حتى أنهيت الكشف ثم أشرت للمتكلم بيدى ليدخل فحضر وسلم علىّ وقلت له كيف يحب الله العبد الفشار وأنت تعلم أن كلمة فشار تعنى كذاب ؟

فقال : يا دكتور يعنى لما الواحد فينا يحسس الناس أنه غنى ومعاه فلوس كتير وهو فى الحقيقة فقير ويفشر عليهم علشان يظهر بمظهر يليق ويضيف له الإحترام والتقدير فى كل مكان حيث أن المجتمع لا يقدر إلا الأغنياء !!

وجدتنى أمام مرض إجتماعى متفرع وخطير ويحتاج إلى حلقات طويلة للشرح والتفصيل فكيف يستبيح الكثيرون الكذب تحت مسمى التجمل والمظهرية وفى سبيل ذلك يخفون فقرهم وحقيقتهم وكيف يعرف الناس أنهم فقراء وهم يظهرون بشكل يخالف حقيقتهم؟

وكيف تتم معالجة ظروف فقرهم وهم يختفون خلف الأكاذيب والمظاهر الإجتماعية ؟ وكيف صار هناك أمثلة إجتماعية تحل الكذب وتجعله حلاً لأمور كثيرة منها الفقر والعوذ والحاجة؟

سألته : من أدراك أن ربك يحب عبده الفشار يا سيدى المحترم؟

قال : لا أحد معين ..ولكننا ولدنا وكبرنا ونشأنا فوجدنا ذلك فى المجتمع واكتسبناه جيلاً بعد جيل وكابراً عن كابر فصار عادة ومثلاً نتداوله دون تفكير أو تمحيص

فقلت : وهل تظن أن الله تعالى يمكن أن يحب عبدا كذاباً ( فشاراً) يخفى حقيقته لكى يظهر يشكل يخالف وضعه الطبيعى ؟

فقال : لا يمكن طبعاً فكيف يحب الله الكذابين ؟

تنتشر هذه البدع المخزية والخرافات والضلالات فى مجتمعاتنا العربية وصارت كانها شريعة وديناً بين الناس فكيف نقع فى هذا المأزق الخطير والموقف المثير من جعل الكذب عادة والتظاهر بما يخالف الحقيقة كأنها عبادة يباركها الله تعالى فهم يقولون أن الله يحب عبده الفشار أى الكذاب وهو قول خطير فيه كذب مهلك على الله سبحانه الذى لا يحب سوى عباده الصادقين ويمقت الكذابين فى كل مكان وزمان.

كما تنتشر عادة الكذب الأبيض فى المجتمع بشكل مرضى ( بفتح الميم والراء) وهى عادة يجب على كل ذى فكر وقلب سليم وعقل حكيم أن يتصدى لها بعلمه فى كل مكان فلا يمكن تأسيس مجتمع على الأكاذيب فالكذب كالجرف الهارى الذى قال عنه الله تعالى فى كتابه العزيز :
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

هناك عادات وخرافات منتشرة إنتشار النار فى الهشيم فى مجتمعاتنا وعلينا العمل الدؤوب على التخلص منها بهدف تطهير القلوب من كل ما يتنافى مع دين الله العظيم وما فيه من خلق قويم ولا يمكن أبدأً ترك الكثيرين يغطون فى جهلهم حتى الموت فاين دور العلماء والمفكرين والمجتهدين والمصلحين ؟.

اين دورهم إذا لم يستأصلوا مرضاً كالكذب والنفاق والرياء متجذراً فى المجتمع بحجج واهية رغم أنه يخالف بوضوح كل الكتب السماوية والتشريعات الربانية التى تأمر بالصدق والعدل والمحبة والسلام بين كل الناس .

على المصلحين والمفكرين إظهار أهمية الصدق فى حياة المجتمع وأنه على اساس هذا الصدق يرتقى الناس ويعلو شأنهم بين الأمم وان الحكومات التى تكذب على شعوبها توشك على التداعى والسقوط وأن الوزراء الذين يخرجون تصريحات كاذبة بحجة أنه كذب أبيض يوشك أن يكشفهم الناس ويقدموا لمحاكمات حقيقية وليست صورية وأن رؤساء الدول العظمى الذين غلفوا حروبهم واعتداءاتهم على الآخر بأغلفة من الكذب والزيف قد انكشفوا وتعروا أمام العالم أجمع وسقطوا أخلاقياً ومصيرهم مزابل التاريخ مثل كل الذين كذبوا على الشعوب وخدروهم وأوهموهم بأن الكذب كائن مقدس له أقدام ولكن الشعوب تدرك كل الأكاذيب وتضع نهاية لكل الكذابين الذين يعرفون وضعهم الحقيقى فى مزابل التاريخ جراء ما ارتكبوه من مذابح فى حق الشعوب الأخرى تحت مسميات زائفة ما أنزل الله بها من سلطان
فعودة للصدق لأنه منجاة فى الدنيا والآخرة وهجراً للكذب لأنه مهلك ومضيع للأخلاق والشعوب ولا شىء إسمه الكذب الابيض فالكذب كله أسود حتى لو كان هدف صاحبه الإصلاح بين الناس فلا صلح ولا صلاح ولا إصلاح يرجى من وراء الكذب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى