الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم أحمد الخميسي

اللحظة الحرجة

يمر كل منا بلحظة حرجة ، يتوقف فيها عند تقاطع طرق صغيرة ، ليسأل نفسه ، وحده ، من دون رقيب أو شهود : أي طريق يتخذ ؟ . حين تكون هناك محفظة نقود ملقاة قرب صاحبها المصاب في شارع ، والناس ملتفون حوله وحولها ، فإن أعين الآخرين ، والضمير الجمعي الذي يصيح " اجمعوا أغراض هذا المسكين لنعيدها لأهله " يمنعك من التقاط المحفظة ووضعها في جيبك . اللحظة الحرجة تنشأ حينما يكون الإنسان وحده أمام المحفظة الملقاة ، ومن ثم يبدأ في التفكير : في كل الأحوال ليس هناك ضمان أن تعود المحفظة لأهل الرجل ، وربما يكون من الأثرياء ، لا يحتاج أهله لما فيها من نقود ، بينما أنا في أشد الحاجة إليها . ألا يحتمل أن العناية الإلهية قد وضعت تلك الأموال في ! طريقي لسد حاجاتي ؟ ثم ألا يمكن أن يكون الرجل مقطوعا من شجرة ؟ فلمن ستعود النقود ؟ للحكومة ؟ ألست أنا أولى بها في هذه الحالة ؟ . هذه اللحظات الصغيرة ، كثيرة في حياتنا ، حين لا يرانا أحد ويكون علينا وحدنا أن نقرر : من نكون ؟ . في مسرحية " اللحظة الحرجة " للكاتب العبقري يوسف إدريس تغلق الأسرة باب حجرة على ابنها الشاب لكي تمنعه من المخاطرة بحياته في الكفاح المسلح ضد الإنجليز . لكن الباب لم يكن مغلقا بإحكام . وكان بوسع الشاب عمليا أن يتذرع أمام نفسه بأن الباب مغلق ، ومن ثم فإنه لا يستطيع الخروج للمشاركة مع الآخرين في صد العدوان . وكان بوسع الشاب لو أراد أن يدفع الباب بكتفه دفعة بسيطة لينفتح فينطلق إلي مواجهة العدوان مع الآخرين . ولم يكن أحد يراقبه ، كانت تلك لحظته الحرجة الخاصة ، ولم يكن الباب في حقيقة الأمر سوى تجسيد لتلك اللحظة ، بوسعه إذا شاء أن يعتبره حاجزا ، أو أن يتجاوزه . عند يوسف إدريس ارتفعت اللحظة الحرجة إلي مستوى علاقة الفرد بالوطن ،

مكثفة ، وحادة ، وعلى خلفية تاريخية واجتماعية كبرى . هذا في الفن ، الذي يقوم بتكثيف الواقع ، وبلورته ، ورفعه إلي مستوى القضية الإنسانية العامة . لكن الأمر يختلف في الحياة ، ويختلف في كل يوم ، ولا تحل اللحظات الحرجة بنا بهذه الصورة الحدية ، القوية ، والدرامية الملهمة . اللحظات الحرجة في حياتنا تمر بنا متربة ، ومهملة ، ومن غير أن يبدو أنها ستحدد الكثير في حياتنا . من منا لم يتعرض مثلا لسؤال : هل تقبل الأموال غير النظيفة أم ترفضها وأنت في أشد الاحتياج إليها ؟ ثم أن هذه الأموال تأتي في صور مراوغة ، تسمح للفرد أن يبرر لنفسه قبولها بمئات الحجج .

أيضا فإن قبولك أو رفضك لهذه الأموال لا يتقاطع مع قضايا كبرى . ولنفرض أن جهة عرضت عليك أن تكتب مقالا في نعي أحد الشيوخ الحكام ؟ هل تقول لنفسك : ومن سيقرأ أو يرصد هذا المقال ؟ لم لا أكتبه ؟ أم ترفض مقالا قد يفتح لك أبواب الرزق ؟ هل تقبل أو ترفض رشوة لا يراها أحد وهي في طريقها إلي جيبك ؟ هل تقبل أو ترفض الزواج من امرأة ثرية لا تحبها لمجرد التخلص من أزماتك ؟ هل تقبل أو ترفض نفاق شخص مسئول في غرفة مغلقة وأنتما وحدكما ؟ . اللحظة الحرجة التي صاغها يوسف إدريس لحظة خاصة ، مثل اللحظة التي مر بها المخرج السينمائي العالمي إيليا كازان عندما حاكمت المكارثية في أمريكا عددا ضخما من الكتاب والفنانين ، فأنكر نفسه وتحول تاريخه كله ،! وتحول هو نفسه إلي شخص آخر . لكن تلك اللحظة تأتي في حياتنا اليومية كعشرات من اللحظات الصغيرة ، التي تبدو بلا قيمة ، ولا يترتب عليها تأثير خاص في الواقع أو التاريخ ، لكن كل لحظة حرجة كهذه تصنعنا ، والطريق الذي نختاره كل مرة يعبد طريقا كبيرا يتخلق فيه شخص ، أو شخص آخر . وعندما رفض الدكتور عبد العظيم أنيس أن يقوم بتدريس ابنة الرئيس السادات ، كان عبد العظيم أنيس يتخذ قراره الصحيح بمفرده ، وحده ، من دون شهود ، لنفسه ، لأنه كان واثقا أنه لا يربح شيئا إذا كسب العالم وخسر نفسه . إن اللحظات الصغيرة تصنعنا ، وتخلق في مجموعها الطريق والإنسان ، والمغني والأغنية ، وخطورة هذه اللحظات أنها تبدو في حينها بلا بطولة ، وبلا خطورة ، مع أنها تشكل وستشكل صلب وجودنا كله ، لأننا في كل لحظة من تلك اللحظات العابرة ندافع عن كل ما هو جوهري وغير ملحوظ في حياتنا وحياة الآخرين . كن عطوفا على الآخرين حين تكون وحدك ، لأن العطف ليس نوعا من الوجاهة أمام الناس ، واتخذ قراراك حين تكون وحدك ، لأن اللحظات الحرجة الصغيرة قد تأكل الروح كما يأكل الصدأ الحديد .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى