الجمعة ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم إدريس مقبول

اللسانيات الإشراقية عند ابن عربي

الفعل الإنشائي نموذجا

القول الإشاري وانفلات المعنى:

في القول الإشاري ضروب من المعرفة التي تستغلق على من يحاول معالجتها بأدوات محدودة وفهم مغلق، لأن القول الإشاري فيما نرى وإن كان لا ينفك عن أصل عباري يظهره، ويوجده للعيان ويبرزه، إلا أنه لا يملك يكشف مضمونه القضوي الباطني الذي هو محل تكثيف شديد مقصود من قبل أرباب المعارف الذين ظلوا طوال مسيرة مجاهداتهم يصرون على ترميزه في لعبة لا تتاح معرفة أسرارها إلا لمن دخل مجاهيل دروبهم وطرقهم العرفانية، وأصر على المضي إلى آخر الطريق في تقصي الحقائق.
ولا يستقيم للباحث في لسانيات الإشراق نظر إلا بفقه مبادئ هذا الضرب من القول الإشاري، والتي أجملها الدكتور الفيلسوف طه عبد الرحمن في ثلاثة:
 مبدأ المجاز: وهو مبدأ لغوي يوجب أن تكون الألفاظ التي تدخل في تركيب الإشارة مستعملة في غير ما وضعت له في الأصل من المعاني.

 مبدأ الاشتباه:ويوجب هذا المبدأ الثاني أن لا تختلف معاني الإشارة باختلاف سياقات استعمالها فحسب، بل أن تحتمل التردد بين معان متقابلة في السياق الاستعمالي الواحد، ولا يتعين واحد منها إلا بواسطة غير إشارية.
 مبدأ الإضمار: ويقضي هذا المبدأ أن تختصر الإشارة من الألفاظ والتراكيب ما تتوفر عليه أدلة من سياق الكلام أو من مقامه، مع جواز وجود الخفاء في ما أبقي عليه وحوفظ من الألفاظ والتراكيب.

وإذا تقرر هذا ، فاعلم أن كتاب الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي المعروف بالفتوحات المكية مَجَرةَ معارف كونية لكثافة القول الإشاري فيه،حتى ليبدو للغائص فيه وكأنه لا قعر له ، وقد رأينا أن كثيرين ممن عُرفوا من المتخصصين فيه صاروا إلى التسليم في كثير من تحليلاتهم بانغلاق المعنى، وانفلاته من بين أصابع مناهجهم التي رأوا أنهم أحكموا بها السيطرة على نص الفتوحات. ونحن كما كنا نعتقد -وما نزال - أنه من النصوص التي لا تنتهي بقول واحد ووحيد، وهو يأبى أن يقال بصيغة واحدة، فهو نص مثمر لقراءات عديدة، وقابل لمقاربات مختلفة لا تصمد كلها إلا بإرادته. وكأن لنص الفتوحات سلطة خفية يقبل بها أو يرفض ما يقال عنه أو فيه، وشاهده في ذلك التاريخ.

وحتى نبين لك غرضنا من هذه القراءة الجزئية، التي حاولنا فيها تضييق مجال النظر في موضوع لساني ذي بعد تداولي عرفاني، ننطلق للقول بأن قضية الخلق الأول هي قضية لغوية، وأن أساس هذه القضية اللغوية هو بحث في الدلالة التي تقبع في طبقات إشارية من القول الإيجادي، لا تستطيع أن تظفر منها إلا على أطياف من المعنى أو بقايا من الظلال.

التواصل بين اللاهوت والناسوت:

ضروب التواصل بين اللاهوت والناسوت نوعان: جمالي وجلالي، وقد أطلقنا هذه الأوصاف بالنظر إلى الوجود الكامل أو المتكلم الأول(الله)، ولا اعتبار في التسمية بالمخاطب به لنقصه وقصوره، وإن كان لاختلاف المتخاطبين دور أساس في شحذ التواصل ونمائه( ).

وعند ابن عربي هذا التواصل إما حديث أو محادثة أو خطاب بحسب الجواب من عدمه وبحسب نوع الإجابة من المخاطَب، عندية أو لدنية "فإن أجابوه به فهو حديث، وإن أجابوه بهم فهي محادثة، وإن سمعوا حديثه به فليس بحديث في حقهم، وإنما هو خطاب أو كلام".

أما التواصل الجمالي: وهو من الجمال الإلهي الذي تسمى الله به جميلا، ووصف نفسه سبحانه بلسان رسوله أنه يحب الجمال في جميع الأشياء، فإن الله ما خلق العالم إلا على صورته، وهو جميل، فالعالم بالتبع أيضا جميل، ومن أحب الجمال أحب الجميل، وهذا النمط من التواصل قائم عند ابن عربي "على الرجاء والبسط واللطف والرحمة والحنان والرأفة والجود والإحسان والنِقَم التي في طيها نِعَم"( ). وهي كلها معان مقامية وسياقات تداولية إيجابية بنائية، حيث المحب لا يعذب محبوبه إلا على إيصال الراحة أو على التأديب لأمر وقع منه على طريق الجهالة، كما يؤدب الرجل ولده مع حبه فيه، ومع هذا يضربه وينتهره لأمور تقع منه مع استصحاب الحب له في نفسه.

وهذا النوع من التواصل في عالم الناس أكثره مبني على التعاون والتعارف والتآنس والتآلف، يجري على الاستفهام والفهم،والتوجيه باللين والامتثال بالمعروف، والتعليم والتعلم.

أما التواصل الجلالي: وهو من الجلال بمعنى العزة والعلو، ولهذا لا يقع به التجلي في الأغلب لضعف الوجود الناقص عن تلقيه، وهو جماع مظاهر القهر الإلهي في العالم، ولهذا امتنع وصفه،"فمن وصفه إنما وصف نفسه، ولا يعرف منه إلا نفسه، لأن رب العزة لا يعينه وصف ولا يقيده نعت، ولا يدل على حقيقته اسم خاص"( ) يقول فيه ابن عربي:

إِن الجَلِيلَ هوَ الذِي لاَ يُعْرَفُ****وَهُوَ الذِي فِي كُل حَال يُوصَفُ

فَهُوَ الذِي يَبْدُو فَيُظْهِرُ نَفْسَهُ**** فِي خَلْقِهِ وَهُوَ الذِي لاَ يُعْرَفُ

ويبين ابن عربي أن السر في هذا النوع من التواصل اختصاصه بما يلقيه في القلوب من هيبة وتعظيم ( ). ونظرا لشدته تنفرد "به الملائكة بطريق الهيبة والعظمة والخوف والخشوع والخضوع"
وهذا النوع من التواصل في عالم الناس أكثره مبني على الأخذ بالقوة، وعلى العزائم في اتخاذ الأمور وسلوك الاستقامة طريقا ومنهجا واعتقادا. كما أن مبناه على الحزم في التقدير التخاطبي لدرء آفات الالتباس والزيغ والتضليل.

الإنشاء خلق وإبداع:

اللغة في لسانيات ابن العربي سر الوجود، والأصل الإنشائي السابق لكل موجود في أنطولوجيا الخلق، يقول" فأول كلام شق أسماع الممكنات كلمة(كن)" [سورة النحل،الآية40]،التي ابتدأ بها الله(أي الوجود الكامل) العالم (أي الوجود الناقص). وإذا تأملنا وجدنا النظر الكلامي الذي تتأسس عليه لسانيات الإشراق عند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي يذهب إلى أن الفعل اللغوي الإنشائي كان الأول ، وهو السابق على غيره ، وهو فعل اجتراح وإبداع للكائنات الممكنة من صورتها العدمية إلى صورتها الوجودية، فالكلام"صفة نفسية رحمانية مشتقة من الكلم وهو الجرح، فلهذا قلنا مؤثرة كما أثر الكلم في جسم المجروح".

إن الكلامَ عباراتٌ وألفاظٌ****وقدْ تنوبُ إشاراتٌ وإيماءُ

لولاَ الكلامُ لَكُنا اليومَ في عدمٍ****ولم تكنْ ثَم أحكامٌ وأنباءُ

وإنهُ نَفَسُ الرحمنِ عَينَهُ****عقلٌ صريحٌ وفي التشريعِ أنباءُ

فيهِ بدتْ صورُ الأشخاصِ بارزةً****معنىً وحِسًا وذَا البَدْوُ إنشاءُ

فَانْظُرْ تَرَ الحكمةَ الغراءَ قائمةً****فيهَا لِعَينِ اللبيبِ القلبِ أشياءُ

ولولا الوسيط اللغوي لما كان هناك خلق(كون)، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، والأولية كما نفهمها عند ابن عربي أولية في الوجود وتقدم في الزمان، فالأمر على شريط التوالي الزمني متقدم على الفعل .إن الفعل الإنشائي الأول جاء في صيغة طلبيةImperative mode، فخرج العالم للوجود مع انتهائه، إذ فعل الأمر بالكينونة هو عين خلق الله وتكوينه، أي أنه حين قال عز في علاه(كن) فإنه كَوَنَهُ بالفعل، أو شرع في تكوينه وانتهى منه بتزامن مع انتهاء ملفوظه(كن). فهناك مطابقة نوعية بين الكلام والعالم لا من جهة الصدق والكذب لأنه ليس خبرا، بل من جهة أن الكلام هو عين الخلق والفعل لأنه إنشاء أو فعل إنشائي أدائي Performatife.

إن التمييز هنا راجع إلى تمييز التداولييين خاصة أوستين بين النوعين، يعني بين الأفعالdoings والأقوالsayings. والخلق والإنشاء حين يتحول القول إلى فعل"فما ظهر العالم إلا عن صفة الكلام".

اعلم أن الفعل الإنشائي (كن) بحسب المتكلم به عند ابن عربي على ثلاثة أقسام: إلهي ورباني ورحماني. وهذا التقييد بالمتكلم من هذه الجهة لما يثمره فعله بالأمر من استجابة أو عدمها في علاقته بالمخاطَب به. فقد يأمر المتكلم (زيدا) فيقول له:قم. فهذا المخاطب إن قام لأمره واستجاب لطلب المتكلم، فقد أنشأ المتكلم(الآمر) حينئذ صورة القيام في زيد عن نشأة لفظة(قم)، فهو إلهي في هذه الحالة، لأن إنشاء الأعيان إنما هو لله وهذا عام في جميع الخلق.

فإن لم يثمر أمر المتكلم استجابة، فلم يسمع منه ولا أثرت في المخاطب نشأة أمر المتكلم (الآمر) فهو إما رباني أو رحماني، ويرجع ابن عربي علة التخلف في هذه الصورة التواصلية إلى قصور الهمة( )، وهو مفهوم نراه مقابلا لما سماه بول كرايس P. Grice( )بتخلف أو سقوط مبدأ التعاون في التواصل Co-operative principle الذي يقتضي أن المتكلمين والمخاطبين (المتخاطبون Interlocuteurs) متعاونون فيما بينهم حتى يحصل بناء الانسجام التخاطبي، ويعطينا ابن عربي مثالا على هذا التخلف في مبدأ التعاون من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم(الإنسان الكامل)، فقد اجتهد بالدعوة، لكن ليس كل من توجه إليهم بالنصح انتصحوا ولا كل من خاطبهم بالتوحيد أسلموا، ولهذا قال تعالى(إنك لا تهدي من أحببت) [سورة القصص،الآية56]" أي إنك لا تقدر على من تريد أن تجعله محلا لظهور ما تريد إنشاءه فيه أن يكون محلا لوجود إنشائك فيه، فليس كل متكلم في الدنيا بإلهي مطلقا، لكن له الإطلاق فيما يريد أن ينشئه في نفسه لا في غيره، فاعلم سر هذان واعلم هل أنت متكلم أو لافظ".

والتمييز هنا بين المتكلم واللافظ تمييز تداولي عرفاني دقيق، ترجع فيه السمة الفارقة إلى صاحب الإرادة الفاعلة التي ينبني عليها عامل الاقتدار الأصلي أو التبعي( ) بالإضافة إلى القوة التغييرية.

وإذا تأملنا نص الفتوحات وجدنا ابن عربي يشبه أمر الكلام وتولد المعنى الناشئ من تفاعل المتكلم والمخاطب بعملية الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة، وعنده أن كل مؤثر أب وكل مؤثر فيه أم ،والمتولد بينهما من ذلك الأثر يسمى ابنا ومولدا، وهو ميزان ينظر من خلاله المنطق وسائر العلوم الروحانية، يقول:"فالمتكلم أب والسامع أم والتكلم نكاح، والموجود من ذلك في فهم السامع ابن...ومن هنا يفهم قول المتكلم لمن يريد قيامه(قم) فيقوم المراد بالقيام عن أثر لفظة (قم)، فإن لم يقم السامع وهو أم بلا شك فهو عقيم، وإذا كان عقيما فليس بأم في تلك الحالة"( ) وهذا ما يمكن أن نسميه بالعقم التواصلي ، وهو مرتبة من مراتب انقطاع التواصلIncommunicabilité.

والاستناد في الأمر إلى الفعل يعود إلى " كون الفعل حدثا منفتحا على المتكلم والمخاطب، وذلك بما يشتمل عليه من مقولات العاملية والحدثية والحادثية والفاعلية".

والإنشاء هنا إيجاد وإيقاع لما لم يكن له وجود، بغض النظر عن الأثر الحاصل في الخارج من ذلك المعنى أي الامتثال أو الإعراض والصد والعصيان( ).
وابن عربي يميز في الشرع الظاهر بين نسب ثلاث لوجود التكوين المعبر عنها بـ(فيكون):

الأولى نسبة قولية، عند قوله تعالى(إنما قولنا) فهذا الضمير الذي هو النون راجع إلى عين وجود ذاته تعالى وكناية عنه. وهو الإطار السابق من القول الأزلي الأول الذي كان به عز وجل متكلما آمرا.

الثانية نسبة إرادية، عند قوله تعالى(إذا أردناه). وهي سابقة على القول ومنشئة للفعل. والإرادة والمشيئة واحدة، إذ هي القوة التي هي مبدأ النزوع والاختيار من غير موجب ملزم أو داع.والإرادة هنا بمعنى سلبي أي أنه تعالى غير مغلوب ولا مستكره، وبمعنى ثبوتي بمعنى العلم( ).

والثالثة نسبة تكوينية، عند قوله تعالى(أن نقول له كن)، والاقتدار الإلهي على التكوين لم يقم إلا من اعتبار هذه الأمور الثلاثة. والأمر كما هو معروف في المساطر النحوية لا يكون ولا يقع إلا بالفعل، لأنه عمل يقوم على تزجية المخاطَب إلى أمر لإنفاذه وأدائه في الكون الخارجي( )، والتزجية دفع الشيء ، وهو هنا دفع وإخراج من الكون العدمي إلى الكون الوجودي.
والإرادة وإن تأخرت في البناء التركيبي اللغوي فهي سابقة على القول لما أفادته العبارة الشرطية التي تقتضي أحقية التقدم النفسي والوجودي، وهكذا تكون:

مدارج التكوين بين اللغة والوجود:

إذا استقر في نفسك أن الإنشاء الإيقاعي الذي به أوجد الباري سبحانه وتعالى الكون إنما هو جملة لفظ (كن) سبقته الإرادة التكوينية التي ليس بينها وبين إيجاد الفعل مسافة زمنية مقيسة ومعقولة ، اتضح لك فيما بعد أن إطار التكوين له مدارج يمكن أن نقسمها إلى قسمين على ما سيتضح لك فيما بعد ، وكلها راجعة لأنماط التواصل الجلالي أو الجمالي السابقة الذكر.

المرتبة الأولى: ونسميها التكوين الفوري، وهو تكوين يأتي دفعة واحدة ليس بينه وبين إنشائه الخطابي مسافة.وهو دليل الخلق المطلق الذي اختص به الباري.
المرتبة الثانية: ونسميها التكوين التدرجي، وهو تكوين يأتي على سنن التدرج في الإيجاد بين الفعل الإنشائي والإيجاد ذاته. وهو دليل الحكمة المطلقة فيما تقتضيه الأبنية بحسب الجهد وهو مبدأ تعليمي تأديبي بيداغوجي.

وابتداء الجسوم الإنسانية عند ابن عربي على أربعة أنواع تختلف نشأتها في السببية مع الاجتماع في الصورة الجسمانية والروحانية، فهناك:

  جسم آدم: خلقه من تراب (إني خالق بشرا من طين) (سورة ص، الآية71)، وزوده بالقوة الجاذبة والدافعة والهاضمة والقوة الخيالية والوهمية والحافظة، "وهذا كله في الإنسان بما هو حيوان لا بما هو إنسان فقط، غير أن هذه القوى الأربعة قوة الخيال والوهم والحفظ والذكر هي في الإنسان أقوى منها في الحيوان، ثم خص آدم الذي هو الإنسان بالقوة المصورة والمفكرة والعاقلة فتميز عن الحيوان، وجعل هذه القوى كلها في هذا الجسم آلات للنفس الناطقة لتصل بذلك إلى جميع منافعها المحسوسة والمعنوية
  جسم حواء: وأصلها كما هو معروف ضلع آدم، وقد سبق في علم الله إيجاد التوالد والتناسل في هذه الدار لأجل بقاء النوع، وقد كانت من الضلع للانحناء الذي في الضلع لتحنو بذلك على ولدها وزوجها، فحنو الرجل على المرأة حنوه على نفسه لأنها جزء منه، وحنو المرأة على الرجل لكونها خلقت من الضلع ، والضلع فيه انحناء وانعطاف، كما أن مجيئها لتقوية ركن التواصل في الحياة وإغنائه( )
  جسم عيسى:يقول تعالى(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) (آل عمران، الآية59). فالضمير يعود على آدم ، وقد وقع الشبه في خلقه من غير أب أي أن صفة نشئه كصفة نشء آدم إلا أن آدم خلقه من تراب ثم قال له كن، ثم إن عيسى على ما قيل لم يلبث في بطن مريم كما يلبث سائر الأولاد، لأنه أسرع إليه التكوين من حيث جعله الله آية وحجة في التواصل والاستدلال على قدرته سبحانه، وفيه رد على الطبيعيين الذين يحكمون على الطبيعة بما أعطتهم من العادة لا بما تقتضيه مما أودع الله فيها من الأسرار .

  أجسام بني آدم: وهي دليل الاستمرار والحكمة والاستخلاف، وقد جاءت من التناسل الطبيعي بين آدم وحواء وأبنائهما على ما تقتضيه سنن الالتقاء والتعارف(يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى و جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) (الحجرات،13).

والإنشاء الأول عند ابن عربي كان على الفطرة ، يقول الشيخ الأكبر شارحا هذا المعنى "والفطر الفتق، ومنه كل مولود يولد على الفطرة، وأول ما فتق الله أسماع المكونات في حال إيجادها وهي حالة تعلق القدرة بين العدم والوجود بقوله(كن) فتكونوا بأنفسهم عند هذا الخطاب امتثالا لأمر الله ، وتلك كلمة الحضرة، وأول ما فتق أسماعهم به وهم في الوجود الأول قوله(ألست بربكم قالوا بلى)(الأعراف،172) فهذا خصوص بالبشر والتكوين عموم، وأول ما فتق به ألسنتهم بقولهم:بلى."( )
وهو تصور يؤسس للتواصل الإلهامي الذي يستمر إشعاعه في ذات العبد وفي عبادته، يقول ابن عربي في معرفة أسرار الصلاة وعمومها: "يقول العارف: سجد وجهي أي حقيقتي، فإن وجه الشيء حقيقته للذي خلقه أي قدره من اسمه المدبر، وأوجده من اسمه القادر البارئ المصور" وشق سمعه بما أسمعه في(كن) (البقرة، 117) وأخذ الميثاق ثم التكليف، وبصره بما أدركه ليعتبر في المبصرات فإن ذلك في حق هذه النشأة وأمثالها كما فطر السماوات والأرض وفتقهما بعد رتقهما ليتميزا، فيظهر المؤثر والمؤثر فيه لوجود التكوين".

وبهذا تتحقق حقيقة الصلاة باعتبارها عند ابن عربي قمة التواصل بين الخالق والمخلوق، وهي أقرب أنواعه على الإطلاق حيث أقرب ما يكون العبد إلى مولاه وهو ساجد(اسجد واقترب) (العلق،19)، وفيها أقصى مظاهر التجلي الروحاني . يقول الحاتمي" ثم إنه ليس في العبادات ما يلحق العبد بمقامات المقربين، وهو أعلى مقام أولياء الله تعالى من ملك ورسول ونبي وولي ومؤمن إلا الصلاة"( ).
وعند ابن عربي يرقى العبد حتى يتحقق له السجود الكامل وهو سجود القلب ، " فمن سجد اقترب من الله ضرورة"

لاَ تُطِعِ النفْسَ الِتي مِنْ شَأْنِهَا****سَدْلُ الحِجَابِ عَليْكَ وَاسجُدْ واقْتَرِبْ

لاَ تَطْمَعَن بِهَا فَلَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا****وَاجْنَحْ إلى النورِ المُهَيْمِنِ وَاغْتَرِبْ

فَهُوَ الذِي أعْطَى الوُجودَ بِجُودِهِ****فَاعْمَلْ بِمَا يُعْطِي وُجُودُكَ تَقْتَرِبْ

ومسألة الاقتراب هذه في التواصل بين الله وعبده الساجد تفسيرها فيما يؤثره السجود من حميمية الاتصال بين المتخاطبين( ) لقرب المسافة Proximity المتوهمة بينهما، وما يحمله المتقرب(الإنسان) من مشاعر الحب والفناء إلى المتقرب منه(الله)، وظلال هذه القضية عرفية تداولية كرستها تقاليد العرب في تعارفهم ومراسيم استقبالهم واحتفالهم ومخاطباتهم.

ومن هذا يظهر أن إقام الصلاة هو إقام لضرب من التواصل الذي يحتاج منا إلى توقف طويل ليس هذا محل بسطه، باعتبار الصلاة سلوكا، وكل سلوك كما يذهب فاتسلافيك وأصحابه رسالة وتواصل( ).

وإذا استقر عندك هذا ، قلنا : إذا كان التواصل كما عند هابرماس يحيل على رهان أساسي وعميق، يتمثل في تشييد مجتمع ينبني على قبول الآخر( ) فإن الصلاة تتجاوز هذا الرهان في اتجاه أنطلوجي أكبر ينبني على القبول/الإيمان بالله صاحب هذا الوجود، في حين يبدو رفض الصلاة أو إنكارها هدما لهذا الضرب من التواصل الجوهري.

السرعة ودليل ما ثم إلا الله:

في القول الإنشائي الأول (الأمر بالوجود)، يشبه الحق سبحانه سرعة التنفيذ بلمح البصر لبيان أنه ما من شيء إلا وقبله الله في مرحلة تمهيدية ثُم ما ثَم إلا الله في مرحلة نهائية، يقول :(وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)(القمر،50) إذ البصر لا شيء أسرع منه، وأبعد الأشياء في الحس الكواكب الثابتة التي في فلك المنازل، وعندما تنظر إليها يتعلق اللمح بها، فهذه سرعة الحس، فما ظنك بالمعاني المجردة عن التقييد في سرعة نفوذها، فإن للسرعة حكما في الأشياء لا يكون لغير السرعة، ومن هنا يعرف قول الحق للشيء(كن فيكون)،فحال (كن) الإلهية حال المكون المخلوق ، ولهذا أسرع ما يكون من الحروف في ذلك فاء التعقيب، فلهذا جاء بها في جواب الأمر،وينبه ابن عربي أنك إن أردت أن تعرف صورة نشء العالم وظهوره وسرعة نفوذ الأمر الإلهي فيه، وما أدركت الأبصار والبصائر منه، فانظر إلى ما يحدث في الهواء من سرعة الحركة بجمرة النار في يد المحرك لها إذا أدارها، فتحدث في عين الرائي دائرة أو خطا مستطيلا إن أخذ بالحركة طولا أو أي شكل شاء، ولا تشك أنك أبصرت دائرة نار، ولا تشك أن ما ثم دائرة، وإنما أنشأ ذلك في نظرك سرعة الحركة وهو قوله(وما أمرنا) وهو قوله(كن) إلا واحدة كالجمرة كلمح بالبصر إدراك الدائرة وما هي دائرة، فذلك عين الصورة المخلوقة الظاهرة لإدراك العين، فتحكم من حيث نظرك ببصرك وبصيرتك وفكرك أنه خلق، وبعلمك وكشفك أنه حق مخلوق به ما ظهر لعينك مما ليس هو ، فهذا عدم في عين وجود( ). وعند إيميل بنفينست Emile Benveniste عملية التلفظ المختزلة والسريعة ضرورية لكي يكون للنص صفة الإنجاز
كيف صار (أمره) كلمح البصر؟

يجيب ابن عربي في موضع آخر بأن "الضمير في أمره يعود على الوقوف، فاعلم أن الكيفيات لا تنقال ، ولكن تقال بضرب من التشبيه، فإن (واحدة) أي كلمة واحدة مثل لمح البصر، " وينبه ابن عربي على أن هذا للإفهام والتوصيل، أي أنه من مقتضيات التخاطب التبسيطية المنافية للروح التركيبية التعقيدية التي تجلب الالتباس، وربما كانت السرعة في القلة أقل من هذا المقدار، بل مقداره الزمان الفرد المتوهم الذي هو يوم الشأن، وكذلك الروح الأمري في العقول وفي الأجسام الطبيعية، فمثل هذا لا يستبعده إلا من لا علم له بالأمور والحقائق.

وأنت إذا تأملت وجدت هذا التمثيل يقصد إلى تنبيه العقل إلى أنه ما ثم إلا الله، لأنه لا ثبات إلا له ولا بقاء إلا له ولا خلود إلا له، ومن كانت هذه أوصافه فهو سبحانه الحقيق بالعبودية والمحبة والفناء في ذاته، لأن ما سواه أشباح وأطياف وظلال لا قيام لها إلا به..

الفعل الإنشائي نموذجا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى